الفلسطينيون في قطاع غزة بين الشمال والجنوب.. عائلات شتّتها الاحتلال وسط الموت والاعتقال

12 يونيو 2024
من الفلسطينيين الصامدين في شمال قطاع غزة المعزول، 11 يونيو 2024 (عمر القطاع/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الحرب على قطاع غزة وتقسيمه إلى شمال وجنوب من قبل الاحتلال الإسرائيلي أدى إلى تشتيت العائلات الفلسطينية وإجبارهم على النزوح تحت ظروف قاسية، مستخدمًا التجويع والقصف كأسلحة للتهجير.
- عمليات التهجير والفصل بين أفراد العائلات، مثل قصة الشهيد عيسى سلامة وزوجته آمنة، تسلط الضوء على المعاناة الإنسانية والصعوبات في الحصول على الأخبار والبحث عن الأمان.
- الحياة تحت الاحتلال تفرض ضغوطًا نفسية وجسدية مستمرة على الفلسطينيين، مع قصص مثل محمد عياد وأسماء حميد التي تبرز الأثر الإنساني العميق للحرب والاحتلال على السكان المدنيين.

في حربه المتواصلة على قطاع غزة عزل الاحتلال الإسرائيلي الشمال عن الجنوب، فشتّت بذلك أفراد عائلات فلسطينية كثيرة من أبناء القطاع المحاصر في حين يمضي في عمليات التهجير والقتل والاعتقال والتجويع وغيرها من الجرائم.

وقسم الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة الذي يحاصره منذ نحو 17 عاماً والذي يستهدفه بحرب مدمّرة تتواصل لليوم 250 إلى نصفَين، وذلك في الشهر الأوّل من العدوان الإسرائيلي الأخير على الفلسطينيين فيه. فقد عمدت قواته إلى عزل الشمال عن باقي القطاع، بعدما أصدرت أوامرها إلى سكان الشمال بإخلائه والتوجّه جنوباً، مدّعيةً أنّ تلك المناطق "آمنة". لكنّ الاحتلال الذي اعتمد سلاح التجويع في الشمال لتهجير عدد أكبر من الفلسطينيين منه، إلى جانب عمليات القصف الكثيفة وما تسبّبت فيه من مجازر، بالإضافة إلى استهداف مستشفياته، عاد ليطبّق السياسة نفسها في المناطق الواقعة جنوبيّ وادي غزة. واضطر الفلسطينيون إلى النزوح مرّات ومرّات، وأحياناً في عمليات عكسيّة، مثلما حصل أخيراً، من رفح في اتّجاه وسط القطاع.

وفي عمليات التهجير التي راحت تنفّذها قوات الاحتلال منذ الأيام الأولى من حربها التي انطلقت بها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شُتّتت عائلات فلسطينية كثيرة في قطاع غزة المنكوب اليوم. يُذكر أنّ أرباب عائلات كثيرين آثروا البقاء في شمال القطاع، ولا سيّما مدينة غزة، بهدف "حراسة" منازلهم وممتلكاتهم، وإن لم يتبقَّ كثير منها، في ما يُعَدّ صموداً في وجه العدوان. وقد أتى ذلك بعدما دفع هؤلاء أبناءهم وزوجاتهم إلى التوجّه جنوباً مع أقارب لهم. ومن بين هؤلاء أشخاص دفعوا غالياً ثمن صمودهم، إذ استشهدوا أو اعتُقلوا، في حين أنّ آخرين أُبعدوا عن أفراد عائلاتهم في حين أنّ بضعة كيلومترات فقط تفصل بينهم وأحياناً بضعة أمتار.

الشهيد الفلسطيني عيسى سلامة واحد من هؤلاء، وقد سقط في شهر مايو/ أيار المنصرم، في خلال العملية العسكرية الموسّعة التي نفّذتها قوات الاحتلال في مخيم جباليا ومناطق أخرى في محافظة شمال غزة. لم تتلقَّ زوجته نبأ استشهاده إلا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق معيّنة من المخيم، في إطار الانسحاب الجزئي في أواخر مايو، علماً أنّه كان قد أجبرها على النزوح في يناير/ كانون الثاني الماضي. وكانت آمنة سلامة قد توجّهت إلى مدينة غزة واجتازت حواجز إسرائيلية عدّة، برفقة أبنائها الثلاثة. وبعد تحقيق قوات الاحتلال معهم بخصوص مكان إقامتهم وغير ذلك، سُمح لهم بالعبور، فوصلوا إلى مدينة دير البلح في الوسط ثمّ إلى مدينة رفح في أقصى الجنوب، قبل أن ينزحوا مجدداً، عكسياً هذه المرّة في اتجاه دير البلح بالتزامن مع عملية اجتياح رفح.

الصورة
قوات إسرائيلية في شمال غزة تراقب الفلسطينيين النازحين - 18 نوفمبر 2023 (محمد عابد/ فرانس برس)
قوات إسرائيلية في شمال غزة تراقب الفلسطينيين النازحين وسط الحرب، 18 نوفمبر 2023 (محمد عابد/ فرانس برس)

جوع وإذلال في شمال قطاع غزة

وبعدما دفع عائلته إلى النزوح، وسط غياب الخيارات الأخرى، بقي عيسى سلامة مع شقيقه في منزل الأسرة بمخيم جباليا، المؤلف من ثلاث طبقات، ظناً منه أنّ الحرب لن تطول كثيراً. وتخبر آمنة "العربي الجديد" أنّ زوجها واجه الجوع والعطش وخسر كثيراً من وزنه، وتعرّض لإصابة نتيجة القصف على عدد من منازل المخيم، وخضع لعلاج في مركز جباليا الطبي قبل أن يعود إلى المنزل ويرتقي شهيداً. ولا تعلم آمنة تاريخ استشهاد زوجها بالتحديد، فهي فقدت التواصل معه منذ الأيام الأولى من العملية الإسرائيلية على المخيم التي استمرّت نحو ثلاثة أسابيع، علماً أنّها كلّفت مراراً أشخاصاً بالبحث عنه، لكن من دون نتيجة. وبعدما انسحبت قوات الاحتلال، عُثر على جثة زوجها وهي في حالة تحلّل، بحسب ما توضح.

وتبيّن سلامة أنّ "زوجي كان يرغب في النزوح إلى الجنوب في نهاية مارس/ آذار الماضي، وسط الجوع والإذلال الذي كان الناس يتعرّضون له في خلال محاولتهم الحصول على دقيق (على سبيل المثال) وملاحقتهم من قبل الاحتلال، وقتلهم في أثناء التجمّع للحصول على مساعدات. لكنّه لم يغادر الشمال، فصديقان له حاولا النزوح لكنّهما اعتُقلا عند حاجز إسرائيلي ولم يُفرَج عنهما بعد". ولا تخفي آمنة أنّها ضغطت على زوجها للبقاء في الشمال حتى لا يُعتقَل". تضيف أنّ "في خلال الاتصال الأخير الذي أجريته مع زوجي، كانت قذائف الاحتلال تتساقط على شارع العجارمة خلف مكان وجوده، شرقيّ مخيم جباليا. لكنّه استشهد أخيراً، ويُتّم أبناؤنا الثلاثة. هو كان معيلنا، واليوم صرت أنا أمّ أبنائنا وأباهم". وتتابع آمنة: "ونحن نعيش في الوقت الراهن في خيام مع نساء تشبه حالاتهنّ حالتي، إذ فقدنَ أزواجهنّ، علماً أنّ أزواج أخريات معتقلون لدى الاحتلال".

بدوره، بقي محمد عياد يحرس منزل عائلته إلى حين تدميره على يد قوات الاحتلال، وذلك في حيّ النصر غربيّ مدينة غزة في منتصف إبريل/ نيسان الماضي. وبينما استشهد اثنان من أصدقاء عياد كانا يقيمان معه في منزله بعدما دفعا عائلتَيهما إلى النزوح، تعرّض هو لإصابة في ساقه، وكان علاجها صعباً. وفي الوقت نفسه، تعرّضت زوجته لإصابة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة في مايو الماضي. ولا يخفي عياد أنّ كلّ محاولاته للنزوح باءت بالفشل، ويخبر "العربي الجديد" أنّه حاول النزوح إلى الجنوب قبل أن يتعرّض للإصابة، لكنّ الاحتلال أطلق النار على الرجال من بين المهجّرين عند اقترابهم من شارع الرشيد قبل الوصول إلى الحاجز الاسرائيلي عند وادي غزة غرباً، فعاد إلى منزله حيث بقي إلى حين استهدافه بقصف إسرائيلي.

ويشير عياد إلى "الضغط النفسي الذي عشته"، وذلك "عند إصابة زوجتي، ولا سيّما أنّها لم تجد أحداً يسعفها بداية، وعند استشهاد اثنين من أصدقائي وإصابتي من دون أن أجد من ينقلني إلى نقطة صحية. فقد نزفت كثيراً، وأنا في مكاني لأكثر من نصف ساعة". ويؤكد عياد أنّ "الاحتلال يحاول قتلنا في كلّ مكان، سواء أكان ذلك في الشمال أم الجنوب (وكذلك الوسط)". يضيف: "أتطلّع إلى نهاية هذه الحرب. فأنا أصحو فيما أحلم بأنّها تنتهي، ولا أريد الاستيقاظ على كوابيس جديدة"، لافتاً إلى أنّ "لديّ ثلاثة أبناء، في حين أنّ زوجتي لا تستطيع تدبير أمورهم لوحدهم من دوني".

عائلات منقوصة في جنوب قطاع غزة

من جهة أخرى، ثمّة عائلات فلسطينية شتّتها الاحتلال في أثناء عمليات التهجير، إذ اعتقل أفراداً نازحين منها عند حواجزه وأعادهم إلى الشمال في حين أجبر الأفراد الآخرين على إكمال طريقهم إلى الجنوب. محمد حميد من هؤلاء الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في أثناء نزوحه مع عائلته، في نهاية إبريل الماضي. وبعد تحقيق معه على مدى يوم كامل، سمحوا لعائلته المكوّنة من ثلاثة أفراد بمتابعة سيرها في اتجاه الجنوب، فيما أعادته هو إلى مدينة غزة الشمالية. وتخبر أسماء حميد، زوجة محمد، التي بلغت جنوبيّ قطاع غزة أنّها صارت وحيدة مع طفلَيها ووالدة زوجها، وأنّهم يقيمون برفقة عائلة جيرانهم التي نزحت كذلك من مدينة غزة، في خيمة مهترئة وسط حرارة شديدة ونقص في الغذاء والدواء والمياه. وتبيّن لـ"العربي الجديد" أنّها نزحت، في خلال أقلّ من شهر ونصف شهر، ثلاث مرّات: في المرّة الأولى إلى مدينة رفح، والمرّة الثانية في قلب رفح نفسها، ثمّ إلى منطقة المواصي غربيّ مدينة خانيونس الجنوبية.

وتذكر حميد أنّ استجواب زوجها من قبل قوات الاحتلال تضمّن أسئلة كثيرة، في حين تعرّضت هي للتفتيش وصودر هاتفها وهاتف محمد من دون معرفة السبب. وتلفت إلى أنّ زوجها تنقّل في شمال قطاع غزة وهو يحاول تفادي القصف الإسرائيلي، وهو اليوم في غرب مدينة غزة، وهي تتواصل معه عبر هواتف نازحين آخرين معها في المخيم نفسه وهواتف آخرين موجودين معه.

وتؤكد حميد: "عندما نزحنا، اعتقلت قوات الاحتلال عدداً من الرجال كانوا وراءنا، كذلك اعتقلت نساءً وفصلتهنّ عن أزواجهنّ وأطفالهنّ. وقد عمدت إلى استجواب عدد من الأطفال والتدقيق في أعمارهم، ولا سيّما المراهقون". وتتابع أنّ قوات الاحتلال "تعاملت معنا في أثناء التحقيق على أنّ كلّ ما نقوله كذب، ولم تفرّق بين طفل وامرأة ولا حتى مسنّ"، لافتةً بقولها: "أنا اليوم أعيش وسط ظروف نفسية صعبة". ولا تخفي حميد أنّها تحاول الآن "الحصول على الحليب والمياه والطعام، علماً أنّ لديّ طفلاً وُلد قبل العدوان. وفي حين أحاول تعبئة المياه، فإنّ الناس يساعدونني في بعض الأحيان، نظراً إلى أنّني مرضعة، لكنّ الحال تختلف في أحيان كثيرة عندما يحاول الجميع السعي وراء فرص الحصول على الطعام والشراب". وتشكو: "لا يمكنني الانتظار، وطفلي في الأيام الأخيرة يعاني من التجفاف بسبب سوء التغذية وقلّة المياه"، مشدّدةً على أنّ "الاحتلال فرّقنا عن زوجي وهو يحاول قتلنا ببطء".

المساهمون