انتشرت في الصين، في الآونة الأخيرة، مراكز أجنبية لتعليم الجيل الجديد فنّ الإتيكيت الغربي في طريقة تناول الطعام بالشوكة والسكين بدلاً من العيدان الخشبية. ويأتي ذلك في إطار موجة تقليد تغزو المجتمع الصيني، وخصوصاً شريحة الشباب. وقد حذر نشطاء من انصهار الجيل الجديد في الثقافة الغربية والتنكر للتقاليد والعادات الصينية القديمة، وبينها ثقافة الطعام التي ميّزت الأمة الصينية دائماً عن أمم أخرى، بينما اعتبر آخرون أن تعلم تناول الطعام وفق الأصول الغربية يواكب الحداثة ويشير إلى تمدن الشعب الصيني الذي عانى من ويلات الحروب والمجاعة والكوارث الاجتماعية.
وتعتبر عيدان الطعام الخشبية جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الصينية. وتحدد مصادر ومراجع تاريخية تاريخ ظهورها للمرة الأولى خلال عهد أسرة شانغ التي حكمت البلاد بين عامي 1600 و1100 قبل الميلاد، حين ربط الفيلسوف الصيني كونفوشيوس استخدامها بالثقافة السلمية التي ترى أنّ استخدام الشوكة والسكين والأدوات المعدنية الحادة يدل على الشراسة والعنف.
تقول دانغ تشي ون التي تشغل منصب مديرة تسويق في شركة لتصميم الأزياء بمدينة شنغهاي لـ "العربي الجديد": "يندر أن أتناول الوجبات في مطاعم صينية، لأن طبيعة عملي تحتم أن أتعامل يومياً مع أجانب يفضلون التردد على مطاعم غربية. وبالتالي، أنا مجبرة على مجاراة عملائي، والتصرف وفق بروتوكولات المطاعم الغربية التي تتطلب استخدام شوكة وسكين في تناول الطعام بدلاً من العيدان الخشبية".
تضيف: "يجب أن تتعلم الأجيال الجديدة فنّ الإتيكيت الغربي في ظل التطور الذي طرأ على حياة الصينيين، والتداخل الكبير مع الغرب في مجالات التواصل الاجتماعي والأعمال والتجارة. لم تعد الصين دولة مغلقة كما كان حالها قبل سياسة الإصلاح والانفتاح التي بدأت في نهاية سبعينيات القرن العشرين، إذ بات عدد كبير من شبانها يسافرون دائماً إلى الخارج" (قبل جائحة كورونا، بلغ عدد السياح الصينيين 115 مليوناً عام 2019)".
وتشير إلى أن التبادل السياحي فرض واقعاً جديداً جعل التمسك بالثقافة المحلية أمراً رجعياً يخرج من الإطار العام الذي يقدم العالم كقرية صغيرة تنصهر فيها اللغات والثقافات.
تجنب الإحراج
وتفيد أرقام أصدرتها منصة "تاي كو" للعلامات التجارية الأجنبية في الصين، بأن مدينة شانغهاي وحدها تحتضن 25 مركزاً لتعليم فنّ الإتيكيت الغربي. وتشمل دروسها اللغة الإنكليزية، والتصرف في المناسبات الخاصة، وآداب المائدة، إضافة إلى الرسم والرقص والغناء والموسيقى.
ويأتي تعلم فن الإتيكيت وآداب المائدة في المرتبة الثانية بعد اللغة الإنكليزية على صعيد إقبال الصينيين. وتصل كلفة الحصة الواحدة إلى ألفي يوان، ما يعادل 350 دولاراً. ومعظم الطلاب من أبناء الطبقة البرجوازية في المجتمع الصيني، التي تحرص على تعليم أبنائها اللغة الإنكليزية، وإجادتهم أصول التصرف وفق اللياقة الغربية في ما يتعلق بتناول الطعام والتعامل مع الأجانب في مناسبات مختلفة.
وتبرر أصوات شبابية الإقبال على تعلم أساليب اللياقة الغربية برغبة الجيل الجديد في الانخراط بسهولة بالمجتمعات الأخرى مع تجنب مواجهة الإحراج في بعض المواقف، بينها صعوبة الإمساك بشوكة وسكين في أثناء الجلوس إلى مائدة واحدة مع ضيوف أجانب. ويكتب أحدهم على موقع "ويبو" المعادل الصيني لموقع "تويتر": "كيف أستطيع في القرن الحادي والعشرين أنّ آكل دجاجة كاملة بعيدان خشبية صُنعت حين كان الأرز الوجبة الوحيدة في قائمة الطعام الصينية قبل عدة قرون. أما اليوم، فهناك مأكولات جديدة بأحجام كبيرة يصعب التعامل معها من دون استخدام شوكة وسكين".
مهلاً... هناك مبالغة
في المقابل، ينتقد نشطاء مدافعون عن الثقافة التقليدية الصينية جنوح الشباب نحو الغرب والتنكر للتقاليد الصينية. ويعتبر هؤلاء أن العيدان الخشبية تشكل أحد أهم الرموز الثقافية للشعب الصيني، ويطالبون بالتالي الدولة بالتدخل من أجل وقف حملات تقليد الغرب التي بدأت، حسب قولهم، بافتتاح مدينة ديزني لاند في شنغهاي عام 2016، وانتشار مطاعم الوجبات الأميركية السريعة، ثم استكملت بترويج الأفلام الغربية وعرضها في صالات السينما الصينية، بهدف التأثير بعقول الشباب الذين باتوا منبهرين بكل ما هو غربي.
من جهتها، تقول الباحثة الاجتماعية في معهد غوانغ دونغ، تانغ لي لـ"العربي الجديد": "هناك مبالغة في انتقاد توجه بعض الشباب نحو تعلم فن الإتيكيت الغربي، فهذه الظاهرة تقتصر على شريحة محددة من المجتمع الصيني تتمثل بالطبقة البرجوازية، ولن تمسّ بالتالي بالأعراف والتقاليد السائدة في البلاد منذ آلاف السنين".
وعن أسباب التحول وتداعياته على المجتمع، تشرح تانغ أن "طبيعة الحياة الصناعية فرضت أنماطاً ومستويات جديدة من المعيشة، وأتاحت للشباب بدائل وخيارات وفرصاً كثيرة، ومنحتهم هامشاً من الحرية الشخصية، بخلاف ما كان سائداً في أوج الحقبة الشيوعية".
وتلفت إلى أنّ "تناول الطعام بعيدان خشبية ليس قانوناً، بل عادة توارثها الصينيون، ما يعني أنّ خرقها لا تترتب عنه مساءلة قانونية. لذا، يبقى الأمر خياراً لدى العامة قد يرغب البعض في تنفيذه، أو يبغضه آخرون، لكنه لن يصل بطبيعة الحال إلى حد يثير القلق".