الرصاص الطائش... كابوس يلاحق أهل غزة أينما حلوا

19 أكتوبر 2024
يصعب الاحتماء من الرصاص العشوائي (محمود بسام/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني سكان قطاع غزة من تهديد الرصاص الطائش الذي يطلقه جيش الاحتلال، مما يؤدي إلى استشهاد العشرات وإصابة المئات، خاصة في المناطق القريبة من التماس مثل شمال رفح وجنوب خانيونس.

- يلجأ النازحون إلى إنشاء سواتر ترابية وأكياس رملية للحماية، لكن هذه الإجراءات غير كافية، ويعانون من نقص في المستلزمات الطبية والمواد الغذائية والمياه، كما هو الحال مع المصاب رائد عاشور.

- يستخدم الاحتلال سياسة الرصاص الطائش لتفريغ المناطق من السكان، مما يجبر النازحين على التنقل المستمر بحثاً عن الأمان، رغم استمرار المجازر وإطلاق النار العشوائي.

فضلاً عن معاناة فلسطينيي قطاع غزة اليومية من قصف وموت وجوع وعيش في خيام والكثير غيرها، لا يسلم الأهالي من الرصاص العشوائي الذي يلاحقهم ويصعب الاحتماء منه

على الرغم من المسافة البعيدة التي تفصل بين مكان وجود الخمسيني رائد عاشور مع زوجته وأقاربه أمام خيمته على شاطئ بحر المواصي غرب مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، وآليات جيش الاحتلال المتوغلة في محافظة رفح، إلا أن ذلك لم يمنع إحدى رصاصات الآليات الطائشة من اختراق بطنه. أصيب بنزيف داخلي وظل بين الحياة والموت أياماً عدة، وأجريت له عمليات عدة وزُوّد بنحو 14 وحدة دم ومكث في المستشفى نحو شهر، وأجريت له عمليات جراحية حتى استقرت حالته الصحية وزال الخطر.
ويعدّ الرصاص الطائش وشظايا القذائف والصواريخ خطراً داهماً على حياة النازحين، وقد أدت إلى استشهاد العشرات وإصابة المئات، فضلاً عن حالة الخوف والقلق خصوصاً بالنسبة للنازحين القريبين من مناطق التماس أو الذين يسكنون على أطراف المواصي، كالمناطق الفاصلة بين شمال محافظة رفح وجنوب محافظة خانيونس، ومخيمات الإيواء القريبة من المناطق المحاذية لمنطقة نتساريم وسط القطاع، وخصوصاً شمال مخيم النصيرات والزوايدة ودير البلح فضلاً عن المناطق الشرقية لقطاع غزة.
وتكثف آليات الاحتلال إطلاق الرصاص العشوائي خلال توغلها في أي منطقة، ما يعرض مخيمات الإيواء، حتى التي تبعد كيلومترات عدة عن مناطق التوغل، للخطر، خصوصاً مع ساعات الليل حيث يعيش النازحون في كابوس يؤرقهم، ولا يجرؤ الكثير منهم على الخروج من الخيام أو الوقوف حتى، ويبقون في وضعية انبطاح.

سواتر حماية

ويلجأ العديد من سكان الخيام لإنشاء سواتر بتعبئة أكياس طحين فارغة بالرمال لحمايتهم من الرصاص. وأنشأت بعض المخيمات تلالاً رميلة عالية في محاولة للحماية. يقف عاشور أمام خيمته ويلف بطنه برباط طبي عانى في العثور عليه في ظل شح المستلزمات الطبية، كي يتمكن من الوقوف بعد مضي نحو شهر ونصف شهر على إصابته. ويقول لـ"العربي الجديد": "لا أستطيع السير من دون هذا الرباط (مشد)".
ويخفي المشد آثار خيوط طبية تملأ بطنه جراء عمليات عدة أجريت له، ويقول: "مكثت في المستشفى أسابيع عدة. وبعد خروجي، حدثت مضاعفات، فأجروا لي عملية جراحية ووجد الأطباء مشكلة بالقولون والشريان الرئيسي، فوضعوا أربع وحدات دم". وتظهر صور الأشعة حجم رأس الرصاصة الذي اخترق جسده، ما يشير إلى أن آليات جيش الاحتلال هي المصدر، وحتى الآن، لم يقم الأطباء بإخراجها.

قضايا وناس
التحديثات الحية

وفي المنطقة التي يوجد فيها عاشور، استشهدت فتاة من جيرانه وأصيبت أخرى. في هذا السياق، يقول: "الرصاص الطائش أخطر من الذي يتوجه عليك مباشرة لأنه يمكنك الابتعاد عن مصدره. أما في ما يتعلق بالرصاص الطائش، فالوضع مختلف". تظهر ملامح وجه عاشور وجود علامات الجفاف، يوضح وهو يحمد الله أنه بدأ يسترد صحته لأجل بناته الأربع وابنه الوحيد لأن لا معيل لهم غيره. يقول: "ما زلت أعاني من أثر الإصابة، فأتقيأ كل شيء أتناوله ما تسبب لي بالجفاف. أوصاني الأطباء بتناول السوائل والفاكهة خمسة أشهر والابتعاد عن اللحوم". يضيف: "الحمد لله أنني عدت إلى بناتي. كانت حياتهن كابوساً في غيابي".
أما أحمد حسونة، فأصابته رصاصة إسرائيلية عندما كان جالساً إلى جوار والدته ليحتسي كوباً من الشاي. قبل رشفته الأولى، أصابته الرصاصة وفقد وعيه. ولم تدرك والدته ما حصل إلا عندما وجدت آثار الرصاصة ولاحظت أنه ينزف. صرخت مستغيثة بأهالي المخيم الواقع في المنطقة الفاصلة بين القرارة شرق خانيونس ودير البلح وسط قطاع غزة.
يقول حسونة عن تفاصيل إصابته في 20 أغسطس/ آب 2024: "أصابتني الرصاصة في المنطقة بين الكتف والصدر، وأخبرني الأطباء أن عيار الرصاصة يوضح أنها من دبابات جيش الاحتلال أو مسيرّات الاحتلال أثناء اجتياحه مدينة حمد".
في حادثة أخرى، وأثناء جلوس الفتاة ملك مشعل (16 عاماً) أمام خيمتها الواقعة في منطقة معاوية بمواصي رفح، أصابتها رصاصة طائشة في منطقة الفخذ من قبل آليات جيش الاحتلال، وذلك قبل نحو شهر. يقول زوج أمها محمد حسين لـ"العربي الجديد": "نقلناها إلى المستشفى بعد الإصابة، وأرسلت العائلة إلى منطقة آمنة، وبقيت في المنطقة نفسها لعدم وجود إمكانيات للنزوح". 
مع حلول ساعات الليل، تصبح المنطقة مسرحاً للرصاص الطائش، لتصبح حركة حسين وبقية النازحين محدودة وللضرورة فقط. 

يستمر الاحتلال في استهداف المواصي رغم تصنيفها آمنة (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
يستمر الاحتلال في استهداف المواصي رغم تصنيفها آمنة (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)

تفريغ المناطق

ويستخدم الاحتلال الرصاص الطائش سياسةً ممنهجةً لتفريغ أي منطقة من السكان، كما يقول النازح خالد حسين الذي غادر المنطقة مع آلاف النازحين، ولم يعد إليها بعد اقتراب الدبابات الإسرائيلية منها قبل نحو شهر ونصف شهر، والتي أحرقت خلال توغلها عشرات الخيام. 
يقول حسين لـ"العربي الجديد": "كان الرصاص القادم من الآليات يمر بين الخيام، حتى إن إحدى الرصاصات اخترقت خيمتي، وكانت الدبابات الإسرائيلية تعتلي تلة أبو عطايا برفح وتطلق النار بشكل عشوائي على منطقتنا غربي محافظة رفح وعلى جنوب غربي محافظة خانيونس".
بعد عصر كل يوم، تتحول تلك المناطق إلى ما يشبه الجبهة، وقد رأى حسين أكثر من عشرين إصابة فضلاً عن استشهاد أحد النازحين في تلك المنطقة. عن سبب نزوحه، يوضح: "شعرت أنه لا يوجد أمان في المنطقة رغم تصنيفها أنها منطقة خضراء من قبل جيش الاحتلال (منطقة آمنة)، لكنها في الواقع مخيفة. بالإضافة لرصاص الآليات، كانت مسيرات الاحتلال تطلق نيرانها على الخيام، وأعتقد أن الهدف من ذلك تفريغ المنطقة التي توغلت إليها دبابات الاحتلال قبل شهرين ونصف شهر لدفع الناس للرحيل".
ومع تفريغ المنطقة من النازحين، لم تتغير الحال كثيراً، فقبل مدة، ذهب الشاب عبيدة الخطيب (20 عاماً) للمبيت في خيمة صديق في منطقة الإقليمي جنوب غرب مواصي خانيونس، لتتحول الليلة إلى كابوس. يروي الخطيب لـ"العربي الجديد" تفاصيل تلك اللحظات الصعبة قائلاً: "كان الرصاص يطير فوق رؤوسنا وتحلق مسيرات الاحتلال بين الخيام، وبدأ إطلاق الرصاص بعد الساعة الحادية عشرة مساءً. حاولت الخروج من المنطقة فلم أستطع وبقيت محاصراً حتى أطل الصباح وغادرت. لم أنم دقيقة واحدة وأخبرت صديقي أنني لن أعود إليها".

الليلة التي اختبرها الخطيب يعيشها محمد موسى (38 عاماً) يومياً، هو الذي يسكن في خيمة شمال الزوايدة ويبعد عدة كيلومترات عن ثكنات الاحتلال العسكرية في محور نتساريم. يقول موسى لـ"العربي الجديد": "كل ليلة، يبدأ إطلاق النار العشوائي بشكل مكثف لمدة ساعتين، ثم يتوقف لبعض الوقت ويعود بشكل مكثف، وهذة الحال التي نعيشها طوال الليل. كل صباح يتجدد إطلاق النار، ما أدى لإصابة العديد من الجيران من بينهم سيدة أصيبت في بطنها".
سقطت إحدى الرصاصات إلى جوار خيمة موسى وكان يمكن أن تصيبه. يقول: "نعيش في خيام من القماش لا يمكنها حمايتنا من الرصاص". من أجل ذلك، عمد الشاب مصطفى إلى إنشاء ساتر ترابي في اتجاه مصدر إطلاق الرصاص من قبل آليات جيش الاحتلال، إلا أن الرصاص أحياناً يأتي من الأعلى أو من مسيرّات الاحتلال، فتصبح الحياة محفوفة بالمخاطر والقلق الذي لا ينتهي حتى مع وجودهم في منطقة المواصي التي يصنفها الاحتلال منطقةً إنسانيةً. يقول لـ"العربي الجديد": "ابتعدنا عن الموت ولم نبتعد عن الخطر فهو يحيط بنا، وكأنه كابوس لا نستيقظ منه، يجعلنا نعيش في قلق مستمر طوال الوقت".
ولم يمنع تصنيف الاحتلال منطقة المواصي بأنها آمنة ارتكابه العديد من المجازر فيها، من بينها مجزرة المواصي التي وقعت في 13 يوليو/ تموز الماضي، واستشهد على أثرها أكثر من 100 شخص، وأخرى في 10 سبتمبر/ أيلول 2024 استشهد على أثرها أكثر من 40 شهيداً، فضلاً عن مجازر متفرقة أخرى، بالإضافة إلى الرصاص الطائش الذي بات يؤرق حياة من يسكنون على أطراف المواصي.
وأجبر العديد من الظروف النازحين على البقاء على أطراف المواصي. ومؤخراً، نزحت مئات العائلات من شاطئ البحر مع علو منسوب المياه وغمره خيام النازحين. وبسبب تكدس منطقة المواصي بالنازحين وعدم وجود أماكن، أجبرت العائلة على النزوح إلى أطراف المواصي، وهي المناطق التي تعاني من الرصاص الطائش. ويقول حسني عاشور، الذي كان يحزم أغراضه وخيمته للنزوح عن الشاطئ، لـ"العربي الجديد": "الآن، أغادر إلى منطقة حدودية، ونعلم أن الوضع سيكون خطراً، لكننا أجبرنا على مغادرة الشاطئ، لنعيش في معاناة مستمرة ونزوح متكرر هنا وهناك، إلى أن يأتي الفرج وتتوقف هذه الحرب المدمرة".

المساهمون