بعد أقل من أسبوع على مقتل المدرّس الفرنسي صامويل باتي، الذي قُطع رأسه بعد عرضه رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد على تلاميذه في درس عن حرية التعبير، تتعالى الأصوات في الدنمارك، التي شهدت قبل 15 عاماً أزمة الرسوم الكاريكاتورية بعد نشر صحيفة "يولاندس بوستن" مجموعة رسوم مسيئة للنبي للرسام كورت فيسترغارد في عام 2005، وتطالب بجعل عرض تلك الرسوم إلزامياً في المناهج الدراسية الدنماركية.
ويتعرّض المعلمون الدنماركيون لضغوط من قبل حزب الشعب الدنماركي (يمين متشدد)، تحت عنوان "الاصطفاف لحماية حرية التعبير من خلال إظهار صور (النبي) محمد". ويتّفق مع هذا الموقف حزب "فينسترا" الليبرالي، والذي تفجرت الأزمة أثناء فترة حكمه برئاسة أندرس فورغ راسموسن. وتشير وكالتا الأنباء الدنماركية "يولاندس بوستن" و"ريتزاو" إلى أنّ "السجال حول الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية اندلع مجدداً بعد مقتل المدرس الفرنسي كان يظهر صور النبي محمد كجزء من حصص تعليمية عن حرية التعبير.
وتنقل "ريتزاو" عن مؤسسة حزب الشعب الدنماركي، ورئيسة البرلمان السابقة بيا كيرسغورد، أن حزبها يودّ أن يرى تلك الرسوم جزءاً إلزامياً من العملية التعليمية في مدارس البلاد. وتنقل صحيفة "يولاندس بوستن" أن "كيرسغورد وجهت مبدئياً طلباً إلى المدارس في هذا الخصوص". وتقول كيرسغورد، التي تعرف بتشددها في مسائل الهجرة والإسلام، إنه "من المهم جداً إظهار أن ما كافحنا من أجله في الدنمارك والغرب ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو حريتنا في التعبير".
ومؤخراً، تشهد نقابة المعلمين انقساماً بين الأساتذة حول ما إذا كان لزاماً إظهار الصور في الحصص التعليمية عن حرية التعبير، أي إخبار التلاميذ بالأزمة التي اندلعت في عام 2005 بسبب رسومات فيسترغارد التي نشرت في صحيفة "يولاندس بوستن في 12 سبتمبر/ أيلول 2005 عن النبي محمد، بعدما أظهرت عمامته عبارة عن قنبلة، ما أدى إلى احتجاجات واسعة مقاطعة للبضائع الدنماركية. وتجددت الأزمة في عام 2008، حين قررت مجموعة من الصحف الدنماركية والإسكندينافية إعادة نشر رسوم فيسترغارد إثر محاولة اغتياله، بحسب ما ذكر جهاز الاستخبارات الدنماركي آنذاك. وانتقلت الرسوم الكاريكاتورية إلى أرشيف المكتبة الملكية الدنماركية في كوبنهاغن، وهي متاحة على مختلف المواقع الدنماركية وفي المدارس.
في المقابل، حذّر مسؤول تجمع المدارس كلاوس يورتدال من استخدام الرسوم خلال العملية التعليمية، ما عرّضه لانتقاد مقررة شؤون التعليم في البرلمان إلين ترانا نوربي. واعتبرت الأخيرة أنه "من المقلق وجود مدراء مدارس وآخرون يقومون بفرض ما يشبه رقابة ذاتية بعدم إظهار الصور أثناء الحصص التعليمية". تضيف أنها لا تتفق مع يورتدال في أن "إظهار الصور لا يجب أن يكون جزءاً من المنهاج الدراسي لأن ذلك يعد مستفزاً". وتوعدت نوربي، بحسب "ريتزاو"، رفع القضية أمام البرلمان. من جهتها، رفضت وزيرة شؤون التعليم والطفل في حكومة يسار الوسط، بيرنيلا روسنكارنس ثيلي، فرض أي تشريع يلزم المعلمين بإظهار الرسوم الكاريكاتورية في الحصص.
يتعرّض المعلمون الدنماركيون لضغوط من قبل حزب الشعب الدنماركي
وكان مبنى التلفزيون والإذاعة الدنماركية "دي آر" قد سأل 583 أستاذاً ثانوياً في مادة الاجتماع حول ما إذا كانوا سيظهرون الرسوم لتلاميذهم، وما إذا كانوا قلقين على أمنهم، بعد مقتل المدرس الفرنسي. وقال 277 مدرساً أنهم تناولوا الرسوم خلال الدروس عن حرية التعبير، فيما لم يتناول النصف الآخر الرسوم الكاريكاتورية. كذلك، أعرب 43 مدرساً عن قلقهم على أمنهم الشخصي إذا ما تداولوا الرسوم في العملية التعليمية، و75 ذكروا أن قلقهم ليس كبيراً. ويبدو أن غالبية الأساتذة ذكروا أنهم ليسوا خائفين من إظهار الرسوم.
قصة الرسوم الكاريكاتورية بشكل مختصر هي تعبير عن "حدود حرية التعبير"، بحسب مسابقة نظمتها صحيفة "يولاندس بوستن" في عام 2005. وشملت 12 رسماً ساخراً عن الإسلام لرسامين مختلفين. ورسم فيسترغارد ما تخيله أنه وجه النبي محمد بلحية وعمامة تحمل قنبلة، بالإضافة إلى غيرها من الرسوم التي نشرها رئيس قسم الثقافة في "يولاند بوستن" الدنماركية فليمنغ روز.
وأدت الرسوم في سبتمبر/ أيلول 2005 إلى أزمة غير مسبوقة للدنمارك منذ الحرب العالمية الثانية. وأطلقت الصحافة عليها إسم "أزمة رسوم النبي محمد". وعاشت البلاد أصعب اللحظات في علاقتها الدبلوماسية بالعالمين العربي والإسلامي. واجتمع سفراء الدول الإسلامية في كوبنهاغن براسموسن، الذي كان قبل عامين من الأزمة قد دخل في تحالف عسكري مع أميركا لغزو العراق (2003) وشارك بقوات دنماركية في الحرب في أفغانستان، ولكن ذلك الاجتماع لم يستطع تهدئة الرأي العام الإسلامي، الذي بدأ في مقاطعة، كانت مؤلمة اقتصادياً، للدنمارك، وخصوصاً في السوق الخليجية. وكرر الساسة الدنماركيون أنه ليس في مقدورهم التدخّل ولا الاعتذار نيابة عما نشرته أية صحيفة.
ومع توالي ردود الأفعال العنيفة حتى عام 2006، تسابقت الصحف إلى إبداء تضامن مع "يولاندس بوستن" فنشرت الرسوم، وتضامنت صحف غربية أيضاً على نشر بعض الرسوم. كما تضامنت صحف عبرية بما فيها "هآرتس" مع الصحف الدنماركية.
وتعود قضيّة الرسوم إلى الواجهة بعد إلغاء مادة التجديف (ازدراء الأديان) من قانون العقوبات، بعد نشر "شارلي إبدو"، وهي صحيفة سياسية هزلية أسبوعية فرنسية، رسوم ساخرة من المسلمين، وآخرها في سبتمبر/ أيلول الماضي. وتضامنت الدنمارك مع باريس، وأعاد حزب الشعب الدنماركي، ذا التوجه القومي المتشدد، طرح إلزامية إظهار الرسوم كجزء من العملية التعليمية بحجة تعليم الأطفال على حرية التعبير. وبعد مقتل المدرس الفرنسي قبل أسبوع، تزايدت مطالب هذا الحزب للضغط سياسياً على المعلمين لإلزامهم بها في الحصص التعليمية.
فنياً، قيم كثيرون الرسوم الكاريكاتورية تقييماً سيئاً، فلم تنل إعجاب الكثير من الرسامين. لكن الضجة الكبيرة التي أثيرت حولها جعل رسامها فيسترغارد، شهيراً. وعاش الرجل منذ تفجر الأزمة في ظل حماية أمنية، وتعرضت "يولاندس بوستن" إلى محاولة هجوم، كما تعرض فيسترغارد لمحاولة قتل على يد شاب صومالي، بحسب ما ذكر الأمن الدنماركي بداية 2008، ما أعاد مرة أخرى القضية إلى الواجهة.