في المركز التجاري الأوروبي الواقع في ساحة كييفسكايا التي تحمل من باب المفارقة اسم العاصمة الأوكرانية كييف وسط موسكو، أغلقت عشرات المتاجر التابعة للعلامات التجارية الغربية متاجرها نظراً إلى انسحابها من السوق الروسية على خلفية الحرب في أوكرانيا. وهذا المركز هو واحد من عشرات مراكز التسوّق التي تختبر وضعاً مماثلاً، لكنّها ما زالت تنبض بالحياة في ظلّ القرارات التي اتّخذتها علامات تجارية عالمية عديدة بمواصلة عملها في السوق الروسية أو توفّر بدائل من العلامات الروسية وأخرى من دول لم تنضمّ إلى تلك التي تفرض عقوبات على موسكو.
ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، أعلنت شركات عالمية عدّة عن تعليق أعمالها في السوق الروسية، من بينها شركات "إكيا" و"ماكدونالدز" و"كوكا كولا" و"إتش أند إم" و"بوسّ" و"تومي هيلفيغر" و"مرسيدس" و"بي إم دبليو" وغيرها.
لا يبدي الشباب الروس تشاؤماً كبيراً إزاء ما يحصل في هذا الإطار أو تخوّفاً من تحوّل روسيا إلى إيران كدولة خاضعة للعقوبات، إذ يرون أنّ ثمّة إمكانية لتوفير بدائل للعلامات التجارية في السوق الداخلية بسهولة. وأظهر استطلاع أعدّه مركز "ليفادا" نُشرت نتائجه مطلع يوليو/ تموز الماضي، أنّ أقلّ من نصف سكان العاصمة الروسية يشعرون بالقلق بسبب العقوبات الغربية. وقد أعرب 27 في المائة فقط من الأشخاص المستطلعة آراؤهم عن قلقهم من انسحاب عدد من الشركات والعلامات التجارية الغربية من السوق الروسية في مقابل أكثر من 70 في المائة آخرين لا يقلقهم الأمر.
أناستاسيا نوفيكوفا، طالبة روسية في بداية العقد الثالث من عمرها واحدة من هؤلاء، تخبر "العربي الجديد": "في البداية، خشيت ألا نجد ما نرتديه وأن أضطرّ إلى خياطة ملابسي بنفسي. لكنّني اكتشفت في شهر واحد فقط عدداً كبيراً من العلامات الروسية التي تناسب كلّ الأذواق، شأنها في ذلك شأن مستحضرات التجميل. وعلى مستوى المواد الغذائية، لم ألاحظ أيّ تغيير كذلك، باستثناء ارتفاع أسعارها". من جهة أخرى، تخشى نوفيكوفا من أن "نعاني من نقص في الأجهزة الإلكترونية، لكنّ هذه المشكلة قابلة للحلّ، إذ يمكننا شراؤها في أثناء الرحلات إلى الدول التي لم تنضمّ إلى تلك التي تفرض عقوبات علينا، مثل تركيا أو الإمارات أو طلب إحضارها بواسطة أحدهم". إلى جانب ذلك، تأسف نوفيكوفا لـ"زيادة الصعوبات المتعلقة بالسفر إلى الخارج، قائلة "كنت أتمنى أن أسافر إلى أوروبا، لكنّ عائلتي تعارض ذلك إذ ترى أنّ الأمر غير آمن للروس في الوقت الحالي".
تجدر الإشارة إلى أنّه في نهاية فبراير الماضي، أغلقت الدول الغربية أجواءها ومطاراتها أمام الطائرات المسجّلة في روسيا، الأمر الذي لم يترك للروس خيارات كثيرة للسفر إلى الخارج الذي بات يقتصر على تركيا ودول عربية وآسيوية لم تنضمّ إلى الدول التي تفرض عقوبات. وتعتزم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تناقش في نهاية الشهر الجاري، إمكانية حظر إصدار التأشيرات السياحية للمواطنين الروس، وسط انقسام أوروبي عميق حول هذه المسألة.
إيران ثانية؟
منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لم يكفّ الغرب عن العمل جاهداً على عزل روسيا وشطبها من الخريطة الاقتصادية العالمية، متّخذاً إجراءات تشبه تلك التي اعتمدها لمعاقبة إيران على خلفية برنامجها النووي، بما في ذلك فرض حظر جزئي على النفط الروسي وقطع عدد من المصارف الروسية عن منظومة "سويفت" العالمية للتحويلات المالية.
يرى الأستاذ في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، ألكسندر كوزنيتسوف، أنّ "وضع الروس يشبه وضع الإيرانيين في ما يخصّ ظروف العقوبات، في ضوء انسحاب الشركات العالمية الكبرى من السوق الروسية"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ "الاقتصاد الروسي يتميّز بدرجة أعلى من التنوّع مقارنة بنظيره الإيراني، الأمر الذي يعني أنّ البنية التحتية، لا سيّما في مجال الطيران، لن تصل إلى الدرجة نفسها من التهالك".
ويقول كوزنيتسوف لـ"العربي الجديد" إنّ "إيران تخضع لعقوبات منذ واقعة احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في عام 1979، ثمّ فُرضت عقوبات أخرى في ثمانينيات القرن الماضي بتهم انتهاك حقوق الإنسان ودعم الإرهاب، وصولاً إلى العقوبات الدولية على خلفية برنامجها النووي. لذلك تعلّم الإيرانيون أن يتعايشوا مع العقوبات منذ عقود، ويمكن للروس الاستفادة من خبرتهم".
على الرغم من ذلك، يوضح كوزنيتسوف أنّ "التكيّف مع العقوبات سوف يكون أصعب على الروس مقارنة بالإيرانيين. فالأخيرون اعتادوا مستوى معيشة أدنى مقارنة بالروس الذين يُقبلون على شراء سيارات أجنبية، على سبيل المثال، في حين يقود الإيرانيون بمعظمهم سيارات محلية الصنع، ولذلك لا يعانون من عدم توفّر قطع غيار لسيارات ميرسدس الفاخرة (من بين أخرى). وتندر السيارات الأوروبية الفاخرة في إيران بسبب الرسوم الجمركية العالية عليها، فمن يستطيع اقتناءها، يكون قادراً على إيجاد قطع غيار لها كذلك عبر طرق بديلة".
ويلفت كوزنيتسوف إلى أنّ "الروس سوف يضطرون من الآن إلى السفر إلى الخارج، شأنهم في ذلك شأن الإيرانيين، حاملين معهم العملة الأجنبية نقداً بعد تعطّل البطاقات الصادرة عن المصارف الروسية عن العمل في الخارج على أثر انسحاب شركتَي فيزا وماستركارد العالميتين من السوق الروسية في مارس/ آذار الماضي".
وعلى مستوى البنية التحتية، يُعَدّ وضع روسيا أفضل مقارنة بإيران، وفق ما يقول كوزنيتسوف، إذ إنّ "الاقتصاد الروسي أكثر تنوّعاً من مثيله الإيراني. لذلك لن تواجه روسيا التي تنتج بضعة أطرزة من الطائرات المدنية مثل سوخوي سوبرجيت-100 وإم إس-21 نقصاً كارثياً في الطائرات الجديدة، في حين لا تنتج إيران أيّ طائرات، وهو الأمر الذي يضطرها إلى تشغيل طائرات قديمة ومتهالكة تعود إلى زمن الشاه".
حنين إلى السوفييتية
يُسجَّل تقبّل لافت لواقع العيش تحت العقوبات الغربية بين شرائح الروس المتقدّمين في السنّ والذين يحنّون إلى الحقبة السوفييتية، عندما كانت بلادهم قوة عظمى تعيش خلف "ستار حديدي" وتحقّق اكتفاءً ذاتياً.
وعلى الرغم من أسفها للقيود على سفر الروس، فإنّ إيرينا، مهندسة متقاعدة فضّلت عدم الكشف عن هويّتها كاملة لـ"العربي الجديد"، ترى أنّ "العقوبات المفروضة على روسيا سوف تحفّزها على العودة إلى ثقافتها الأصلية والحدّ من مظاهر الحياة الغربية". تضيف إيرينا أنّه "بعد فرض العقوبات الغربية، تغيّر التلفزيون الروسي بين ليلة وضحاها، وصار يبثّ أفلاماً كلاسيكية مهمّة بدلاً من الأفلام الأميركية المليئة بمشاهد العنف والقتل والتي كانت ترسّخ في عقول الشباب صورة للعالم يمكن فيها حلّ مشكلاتهم بالقتل. كذلك نشهد الآن إعلاءً للقيم المحافظة مثل الأسرة التقليدية والثقافة الروسية".
وتبدو إيرينا سعيدة لحظر الشبكات الغربية للتواصل الاجتماعي في روسيا، وتقول: "سافر أو سكت عدد من المدوّنين الذين كانوا يتلقّون أموالاً طائلة لقاء الإعلانات ويحظون بملايين من المشاهدات ويروّجون من خلالها لمحتوى هدّام أو بدائي في أحسن الأحوال. كان نجاحهم يرسم في أذهان الشباب صورة مفادها أنّه في الإمكان أن يصير المرء مليونيراً بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي من دون تعلّم أيّ شيء".
وكانت هيئة الرقابة الروسية "روس كوم نادزور" قد بدأت منذ بداية مارس الماضي، تحجب الشبكات الغربية للتواصل الاجتماعي من قبيل "فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام"، مع استمرار عمل موقع "يوتيوب" الذي توقّف عن بثّ الإعلانات في داخل روسيا وحجب قنوات وسائل الإعلام الحكومية الروسية. ومع ذلك، لم يعزف الروس عن تصفّح الشبكات الغربية بشكل كامل، إذ ارتفع عدد مستخدمي الشبكات الافتراضية الخاصة (في بي إن) في روسيا بمقدار 15 ضعفاً في خلال الأشهر الأولى من الحرب في أوكرانيا من 1.6 مليون مستخدم إلى 24 مليوناً، بحسب بيانات نشرتها مجلة ذا تايمز البريطانية في يونيو/ حزيران الماضي.