إيطاليا: "مافيا المليارات" تترنح قضائياً

15 نوفمبر 2021
معتقل من عصابة ندرانغيتا (ألفونسو دي فيتشينزو/ Getty)
+ الخط -

أدان القضاء الإيطالي، قبل فترة، 70 من أعضاء مافيا عصابة عائلة ندرانغيتا الشهيرة بتهم عدة، بينها القتل والابتزاز، في إطار محاكمة أطلقت في يناير/ كانون الثاني الماضي، وأفضت إلى الأحكام الأقوى والأكبر في تاريخ البلاد في حق عصابات المافيا منذ الحكم على مافيا عائلة كوزا نوسترا الصقلية عام 1986.
وتراوحت الأحكام بين 10 أشهر و20 سنة، فيما برأ القضاء 21 من 350 متهماً، علماً أن السلطات خصصت قاعة ضخمة للمحاكمة كلفت ملايين اليورو، وحولتها إلى قاعة محصنة أمنياً تتسع لحوالى 900 شخص.
وقد صادرت السلطات نحو 1.5 مليار يورو  (1.73 مليار دولار)، خلال عمليات الاعتقال، مشيرة إلى أن هذه الأرقام ضئيلة جداً مقارنة بالأرباح والأموال المقدرة لعصابة ندرانغيتا، والتي تتجاوز أرباح "دويتشه بنك" و"ماكدونالدز" معاً.
وتعتبر عصابة ندرانغيتا أقوى وأخطر من كوزا نوسترا، بسبب تغلغلها في قطاعات أعمال مختلفة، وامتلاكها نفوذاً محلياً وخارجياً في مناطق أوروبية أخرى. وتتميز بأنها الأكثر ثراءً، وبصرامتها وقساوتها التي تجعلها تهدد قضاة وسياسيين في المجتمع الإيطالي وتستهدفهم. 
وانطلقت محاكمة أعضاء عصابة ندرانغيتا في مطلع العام الحالي، بعد سنوات من التحقيقات وجمع أدلة عن تعاملاتها وجرائمها المرتكبة، والتي اصطدمت بعراقيل ظروف العمل الصعبة للقضاة، والتي جعلت أيضاً جلسات المحاكمة تسير ببطء، وسط ضغوط ومحاولات من العصابة للتملص من الأحكام. لكن ذلك لم يمنع في نهاية المطاف من وضع حد للجدل حول مصير المحاكمات، مع إصدار 70 حكماً في 350 قضية يتواصل النظر في تورط عدد كبير من أفراد العصابة بها، وبعضهم معتقلون منذ أعوام إثر حملات أمنية ضخمة نفذتها الشرطة. ومعظم المعتقلين الذين أدينوا بالسجن لفترات متفاوتة، ينتمون إلى النواة الصلبة لعشيرة مافيا ندرانغيتا، والتي تضم عائلة مانكوسو، التي تتفنن في تحقيق أرباح بطرق غير تقليدية مقارنة بباقي عصابات المافيا. لكن بعض المتهمين توصلوا إلى اتفاقات لتخفيف الأحكام الصادرة بحقهم، ما يؤكد، بحسب الصحافة الإيطالية، "معرفة عصابة ندرانغيتا الدقيقة بالبيروقراطية القضائية في البلاد، ومقدار نفوذها وتأثيرها على قرارات القائمين على العدالة، واللذين يشملان تهديدات باستهدافهم واغتيالهم بطرق بشعة". 

داخل قاعة المحكمة (جيانلوكا شينينيا/ فرانس برس)
داخل قاعة المحكمة (جيانلوكا شينينيا/ فرانس برس)

وينظر إلى عصابة ندرانغيتا باعتبارها الأخطر، لأن أعمالها تتجاوز الحدود الإيطالية والأطر التقليدية لأساليب العصابات الأخرى. ويورد تقرير أصدره معهد ديموسكوبيكا للأبحاث أن إجمالي أعضاء هذه العصابة يناهز 60 ألفاً، بينهم نحو 400 "قيادي" أو "حاكم" في الشبكة الواسعة الانتشار والمتعددة الأعمال. 
وكانت الحملة الأمنية الكبيرة التي نفذت عام 2019، قد أسفرت عن اعتقال 384 شخصاً من جماعة ندرانغيتا. ووصفها المدعي العام الإيطالي لشؤون المافيا نيكولا غراتيري بأنها الأكبر حجماً في تاريخ إيطاليا. وتركزت اعتقالاتها في منطقة كالابريا، أقصى الجنوب، بالتزامن مع إلقاء القبض على أفراد في سويسرا وألمانيا وبلغاريا، علماً أن حوالى 3000 شرطي من الدول الأربع واكبوا مهمات الحملة. 
ويفيد تقرير معهد ديموسكوبيكا، الذي رصد تطور وضخامة ما تجنيه المافيا، بأن "عصابة ندرانغيتا تجني معظم أرباحها من تجارة الكوكايين، لكنها وسعت تجارتها ومجالات كسبها للأموال إلى قطاعات أخرى، ما جعل أرباحها تعادل نسبة 3.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا، التي تصنف بأنها الرابعة بين الدول الصناعية الكبرى". ويضيف التقرير: "تكشف التقديرات العامة لمجموع عصابات المافيا الإيطالية أن أرباحها تصل إلى نحو 120 مليار يورو (138 مليار دولار)، بينها نحو 53 مليار يورو (61 مليار دولار)، لندرانغيتا من أعمالها حول العالم". 

وفيما عرفت عصابات المافيا تاريخياً بنظام عائلي رصين وتنصيب "عرابين" في فروعها، تميزت ندرانغيتا بهيمنة أسرة مانكوسو، التي رسخت سلطتها في العصابة من خلال علاقات ولاء مطلق متينة جداً مع آلاف المنتمين إليها. وخلال السنوات الأخيرة، تجاوزت ندرانغيتا عائلات المافيا الإيطالية الأخرى، مثل كوزا نوسترا في صقلية وكامورا في نابولي. وقد استفادت من تراجع وانحسار عصابة كوزا نوسترا تحديداً لتوسع نفوذها نحو معظم أنحاء إيطاليا، خصوصاً خلال العقد الأخير الذي بلغ فيه نفوذ المافيا حد اقتراح تقديم مليارات اليورو لمساعدة إيطاليا على مواجهة أزمة تفشي فيروس كورونا في العام الماضي. وخلال السنوات العشر الأخيرة، توسعت أعمال عصابة ندرانغيتا من أقصى جنوب إيطاليا إلى 37 بلداً، بينها 17 في القارة الأوروبية. 
واستناداً إلى مناصب الموقوفين الذين خضعوا لمحاكمة بتهم الاتجار بالمخدرات والقتل والابتزاز وغسل الأموال، بدا أن ندرانغيتا استطاعت اختراق ضباط الشرطة والسياسيين والمسؤولين الحكوميين السابقين. وتشير تحليلات إلى أن العصابة تهيمن على نحو 80 في المائة من أسواق الكوكايين في القارة الأوروبية، وتحتكر تماماً، منذ أن أزاحت عصابة كوزا نوسترا في صقلية، سوق تهريب الكوكايين من أميركا اللاتينية وغيرها إلى أوروبا.
واللافت في عمل ندرانغيتا هو قدرتها على التأقلم بسرعة مع المتغيرات التي تحدث في إيطاليا وأوروبا، حيث وسعّت تجارتها وأعمالها لتشمل أيضاً الطاقة الخضراء ومشاريع الاستدامة من خلال استثمارات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما تتكيف مع الأموال التي يضخها صندوق التعافي الأوروبي من جائحة كورونا، وهو ما حذر منه برلمانيون أوروبيون سابقاً، مشيرين إلى امتلاك هذه المافيا علاقات تشمل مستويات عدة في الدولة والمجتمع، وتمتعها بنفوذ يخيف السياسيين الإيطاليين منها. 

المدعي العام نيكولا غراتيري (فاليريا فيرارو/ Getty)
المدعي العام نيكولا غراتيري (فاليريا فيرارو/ Getty)

وتستثمر العصابة أيضا في القطاع الزراعي، خصوصاً في محاصيل الطماطم ومشتقاتها، وتتهم بالاتجار بالبشر من خلال "استعباد" مهاجرين في مزارع تتحكم بها، ويعملون فيها في ظروف سيئة تحت ضغوط الابتزاز وفرض إتاوات عليهم، مع منحهم رواتب متدنية جداً. وتحرس مزارع الطماطم في جنوب إيطاليا ووسطها جماعات تابعة للعصابة تتعاون مع الشرطة المحلية عبر منحها رشى تعرف باسم "5 يورو" عن كل شخص يعمل في المزارع.
واللافت في المحاكمات المتواصلة لأفراد عصابة ندرانغيتا أن المدعي العام المشرف على قراراتها الاتهامية هو نيكولا غراتيري (62 عاماً)، الذي نشأ في كالابريا، التي يتحدر منها أعضاء في المافيا، بعضهم خلف القضبان حالياً. وهو يخضع منذ 30 سنة لحراسة أمنية مشددة، بعد موجة تفجيرات واغتيال استهدفت قضاة آخرين وعائلاتهم.  

قضايا وناس
التحديثات الحية

وحملت أضخم محاكمة لعصابات المافيا في إيطاليا اسم "ولادة سكوت الجديدة"، تيمناً بمحقق مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي) سكوت دبليو سيبين، الذي عاش لسنوات في روما، وكان صديقا مقرباً من القاضي غراتيري، وقتل قبل سنوات في حادث سير. وأمل غراتيري، في تصريحاته الأخيرة، بأن تشكل هذه المحاكمة "ولادة جديدة لبلدته كالابريا"، التي اعتبر أنها تعيش تحت قبضة الإجرام والفساد، معتبراً أن سكانها يستحقون التنفس بحرية من دون الاضطرار إلى العيش في خوف من المافيا. 
وسيستمع قضاة هذه المحاكمة إلى شهادات يدلي بها 913 شخصاً، بينهم 58 من أعضاء العصابة محميون بموجب "حماية الشهود"، وأحدهم "الشاهد الملك" إيمانويل مانكوسو، ابن شقيق زعيم العائلة (عرابها) لويجي مانكوسو المعروف أيضا باسم "العم". 

المساهمون