أهالي ضحايا قارب جرجيس يطالبون بكشف مصير أبنائهم

28 نوفمبر 2022
من تحرّكات أهالي المهاجرين المفقودين في جرجيس مطالبةً بالحقيقة (ياسين محجوب/ Getty)
+ الخط -

لا أمل للوالدة التونسية سعاد الرجيلي بالعثور على ابنها وليد الزريدات على قيد الحياة، وهو من ضحايا مركب جرجيس الذي غرق في البحر الأبيض المتوسط في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي. فاليوم، بعد أكثر من شهرَين على وقوع الحادثة، صار حلم سعاد الأوّل العثور على جثة ابنها لتتمكّن من دفنه كما ينبغي.

في ذلك اليوم المشؤوم، فُقد الاتصال بمركب هجرة غير نظامية كان يحمل على متنه 18 شاباً من أبناء المدينة الساحلية الأصليين. وقد مرّ شهران كأنّهما عامان بالنسبة إلى والدة وليد البالغ من العمر 15 عاماً، وهو أصغر ضحايا المركب المفقود. وبما أنّ جرجيس الواقعة في جنوب شرق تونس تمثّل انطلاقة معظم قوارب الهجرة غير النظامية نحو جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، اختار وليد البحر لتحقيق أحلامه الصغيرة، بعد أن رفضت السلطات الفرنسية طلبه للحصول على تأشيرة لدخول أراضيها.

ولا تخفي الوالدة أنّ وليد كان منذ طفولته دائم الحديث عن الهجرة، وتخبر أنّه كان يردّد "أريد أن أكون هناك في لامبيدوزا الإيطالية. أريد ركوب البحر والتقاط صورة مشابهة لصور التقطها أصدقاء لي وصلوا إلى هناك قبلي".

تتحدّث الوالدة لمراسل وكالة الأناضول، وسط حرقة وألم ولوعة على فراق ابنها الصغير، لافتة إلى حرمانها من قبر تبكيه عليه. وتوضح: "حاولنا منعه لكنّنا لم نقدر على ذلك. فمشاهد أبناء الأقارب الآتين من الخارج مع أفضل أنواع الهواتف وأفضل ماركات السيارات العالمية كانت ذات تأثير أقوى عليه".

الصورة
اعتصام أهالي مهاجرين مفقودين في غرق مركب جرجيس في تونس (ياسين محجوب/ Getty)
ترقّب في خيمة اعتصام الأهالي بمدينة جرجيس (ياسين محجوب/ Getty)

احتقان الشارع

ومنذ أكثر من شهرَين، تشهد جرجيس حالة احتقان، خصوصاً بعدما اتّهم الأهالي السلطات بالتراخي في البحث عن أبنائهم المفقودين في البحر، بالإضافة إلى دفن أربع جثث في مقبرة من دون التثبت من هويّاتهم في حديقة أفريقيا المخصصة لدفن الجثث مجهولة الهوية. يُذكر أنّه بعد كلّ هذه المدّة، انتُشلت 14 جثة فقط من البحر، وتمّ التأكد من هويات ستّة ممّن كانوا على متن المركب.

ولم يغادر أهالي المهاجرين المفقودين الشارع منذ ذلك الحين، فنظموا مسيرات احتجاجية شارك فيها الآلاف من المواطنين بوتيرة أسبوعية، للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم. كذلك دخلوا في اعتصام مفتوح أمام الميناء التجاري في الجهة، قبل أن ينقلوه إلى أمام مقرّ المعتمدية وسط جرجيس.

وقد انعكست ملابسات الحادثة المأساوية وغموضها شكوكاً حول حقيقة غرق المركب المفقود، خصوصاً بعد دفن عدد من المفقودين في مقبرة حديقة أفريقيا للمجهولين. وتسأل سعاد الرجيلي: "لماذا يُدفَن أبناؤنا في مقبرة حديقة أفريقيا؟".

وتقول سعاد: "أستبعد أن يكون ابني (وليد) مات غرقاً، فهو سبّاح ماهر مذ كان صغيراً. حتى ولو غرق المركب في البحر لاستطاع (وليد) أن يسبح وينقذ نفسه". تضيف أنّ "لدينا معلومات تفيد بأنّ ثلاثة ممّن كانوا على متن المركب أُنقذوا في محافظة قابس (جنوب شرق) وهم على قيد الحياة"، مشيرة إلى أنّ اسم شاب واحد كُشف وهو محمد أمين مشارك، في حين تمّ التستّر على هوية الآخرَين.

ويوماً بعد آخر، تتزايد شكوك الأهالي حول حقيقة موت أبنائهم في البحر الأبيض المتوسط، وما يعزّز ذلك هو تداول بعض الأخبار حول شبهة اتّجار بالبشر وبيع أعضاء في حادثة جرجيس. ويترافق هذا مع بطء في الإعلان عن نتائج التحقيقيات الرسمية التي أطلقتها النيابة العمومية التونسية قبل نحو شهر.

فقدان وحرقة

في خيمة اعتصام أهالي المفقودين أمام مقرّ معتمدية جرجيس، يجلس سليم زريدات (والد وليد) رافضاً مغادرة المكان إلى حين الإعلان عن وفاة ابنه. ويقول إنّ "الشكّ الذي لم يُحسَم الجدل فيه صار يقيناً. وطالما لم نسمع النفي فإنّ الأمر حقيقة".

يضيف الأب لوكالة الأناضول: "مرّ أكثر من 64 يوماً على الحادثة. أنا أعدّ الأيام باليوم، وفي كل يوم أفتقد ابني أكثر وأكثر". ويشير إلى أنّ "كثيرين يلوموننا في هذه الحادثة. صحيح أنّنا جميعاً مسؤولون، لكنّهم ألا يعرفون الظروف التي تمرّ بها البلاد؟ وماذا وفّرت للجيل الجديد حتى تفرض عليهم البقاء فيها؟".

ويتابع أنّ "لغة التواصل هي المشكلة الكبرى مع هذا الجيل. وزارة الداخلية لم تستطع حلّها في الملاعب، فهل أستطيع أنا حلّها؟ لا بدّ للأمر أن يُحَلّ على مستوى وطني".

من بين ضحايا مركب جرجيس عدد من الشبّان الذين ينتمون إلى الحيّ نفسه الذي كان يقطنه وليد، وحتى إلى العائلة ذاتها. بالنسبة إلى عبد السلام العودي، هو فقد ابنه وابن اخته وشاباً آخر من العائلة. ومنذ الإعلان عن الحادثة، يتنقّل العودي بين محافظات تونس الجنوبية للبحث عن المفقودين، مواجهاً "العنف المسلط من قبل الأمنيين" بحسب قوله، من دون جدوى.

وما يزيد حيرة عبد السلام وبقية عائلات الضحايا، هو عودة الإشارة إلى هواتف المفقودين، بالإضافة إلى اتصالات سُجّلت من تلك الهواتف. ويقول عبد السلام لوكالة الأناضول: "أنا من مواليد فرنسا، لكنّني حين أردت الرجوع إلى هناك، قدّمت كلّ الأوراق المطلوبة لكنّني مُنعت من التأشيرة".

ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى سليم، والد وليد، الذي أشار إلى أنّ قريبته البالغة من العمر 65 عاماً لم تتمكّن من الحصول على تأشيرة سفر لزيارة ابنتها المريضة في فرنسا.

"نبحث عن الحقيقة"

على الرغم من العثور على ابنته ملاك التي كانت من بين ضحايا المركب ودفنِها، يرفض محمد الوريمي مغادرة الشارع والعودة إلى منزله. فهو اختار المكوث مع أهالي الضحايا بحثاً عن أبنائهم. ويؤكد محمد لوكالة الأناضول: "نحن هنا نبحث عن الحقيقة. لو غرق أبناؤنا في البحر فليثبتوا لنا هذا، وإن كان الأمر بفعل فاعل فليعلمونا به".

وعن الأسباب التي دفعت ابنته إلى الهجرة، يقول محمد: "ابنتي تحمل شهادة في صناعة الحلوى، وقد عملت لقاء راتب زهيد لا يتخطّى 300 دينار تونسي (92 دولاراً أميركياً) شهرياً. وقد تقدّمت للحصول على تأشيرة سفر، لكنّ طلبها قوبل بالرفض". ويتابع: "أنا غير مقتنع بالهجرة غير النظامية على الرغم من ظروفنا الصعبة، ولم أكن أتوقّع قطّ أن تقوم ابنتي بهذا الأمر".

تجدر الإشارة إلى أنّ تونس تشهد أزمة متفاقمة اقتصادياً واجتماعياً، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في ارتفاع نسبة الهجرة غير النظامية في عام 2022. وقد بلغ إجمالي عدد المفقودين في البحر الأبيض المتوسط منذ بداية هذا العام، 544 شخصاً، بحسب بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

المساهمون