أمّ تودع أربعة أبناء ارتقوا شهداء في جنين

11 يناير 2024
خلال توديع الشهداء إلى مثواهم الأخير (وهاج بني مفلح/ فرانس برس)
+ الخط -

الخوف الذي كانت تشعر به أم علاء كلما خرج أبناؤها بدا مفهوماً، هي التي خسرت أربعة أبناء دفعة واحدة يوم الأحد الماضي، إثر قصف طائرة مسيرة عند مدخل قريتهم مثلث الشهداء جنوب جنين وباتت تشكو آلام الفراق

لا تستطيع الفلسطينية ابتسام حسين هزاع (أم علاء) وصف اللحظات التي ودعت خلالها أبناءها علاء عصعوص (27 عاماً) وهزاع (27 عاماً) وأحمد (24 عاماً) ورامي (22 عاماً) الذين استشهدوا دفعة واحدة فجر الأحد الماضي، مع ثلاثة من أقاربهم من العائلة ذاتها، إثر قصف من طائرة مسيرة عند مدخل قريتهم مثلث الشهداء جنوب جنين شمال الضفة الغربية المحتلة.
تقول أم علاء لـ "العربي الجديد": "لم أكن أعرف من سأودع، وكنت أتنقل بينهم. أذهب مرة عند علاء (ابنها البكر) ومرة عند أحمد ومرة عند هزاع وأخرى عند رامي، ثم أعود إلى من ودعته قبل لحظات. كان وداعاً صعباً جداً".
الوداع الصعب لم يكن نتيجة فقدانها أربعة من أبنائها دفعة واحدة بحسب، بل ما لاقته خلال سنوات طويلة من مشقة في تربيتهم وتنشئتهم، وتحملها المسؤولية الأكبر في ذلك من خلال العمل لتوفير احتياجاتهم وهي تعيش معهم في الأردن، والعودة معهم عام 2019 إلى الضفة الغربية المحتلة، على أمل تحسين أوضاعهم المعيشية من خلال العمل بالزراعة، وتأمين متطلبات علاج هزاع الذي يعاني من الفشل الكلوي، ورامي الذي فقد إحدى عينيه في حادثة عرضية، فضلاً عن عودة ابنها أحمد من شهادة محققة عام 2021 بعدما تمكن الأطباء من إنقاذه في اللحظات الأخيرة إثر إصابته برصاص الاحتلال.

"عادوا إلى الوطن ليستشهدوا"

تتابع أم علاء: "مرض ابني هزاع الذي أصبح بحاجة لغسل كلوي دفعني للبحث عما يمكنه تحسين وضعي المادي من أجل توفير علاج له ولشقيقه رامي الذي كان قد فقد إحدى عينيه، في ظل وضع مادي صعب لعائلتها المكونة من 7 أبناء ذكور وفتاتين، فقال لي الأهل والمعارف إنني أستطيع العودة إلى الضفة الغربية والعمل وتوفير العلاج، فعدت وعملت بالزراعة مع أبنائي. لقد جلبتهم إلى هنا كي يستشهدوا والحمد لله".
كانت أم علاء مسؤولة بشكل شبه كامل عن أبنائها منذ صغرهم، وتعمل كثيراً في ظل الأوضاع المادية الصعبة، وقد ربتهم على كل ما هو حميد ليكونوا محبوبين من الجميع. هذا الوضع خلق لديهم حلماً واحداً في الدنيا وهو تحقيق حلم والدتهم. وتقول: "كانوا يقولون لي كبرنا وأصبحنا نعمل. ونسأل الله أن يقدرنا لنشتري لكِ أرضاً وبيتاً كما تحلمين لأنك تعبت وضحيت من أجلنا، ونريد أن نعوضك لو بشيء بسيط عما تحملته من أجلنا. نحن لا نملك بيتاً ونسكن بالإيجار". 

نجاة أحمد جعلته مسعفاً

عام 2021، أصيب أحمد (24 عاماً) برصاصة متفجرة وسامّة كما تصفها أم علاء، وكانت الإصابة بالفخذ. كان حينها يصور في بلدة بير الباشا المجاورة انسحاب قوات الاحتلال من بلدة قباطية. تقطعت الشرايين والأوردة، وخصوصاً الشريان الرئيسي، وكان قريباً من الاستشهاد، لكن استطاع الأطباء إنقاذ حياته في اللحظات الأخيرة.
عاش أحمد متأثراً بتأخر تلقيه الإسعاف الأولي لعدم وجود مسعفين في المكان. توضح والدته أنه حصل على دورة إسعاف وأصبح مسعفاً. لحظة إصابته، لم يجد من يسعفه لفترة ليست بسيطة. ومع تحوله إلى مسعف، ظل يعمل معها ومع أشقائه في الزراعة، في حين كان يعمل علاء بالزراعة أيضاً. أما هزاع فعمل فنيا كهربائيا، فيما كان رامي يساعد في الزراعة ويساعد هزاع.
ليلة استشهاهم وقبل خروجهم من المنزل، توجه الأشقاء إلى أمهم ليبلغوها بآخر الأخبار، فقد كانت كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس الذراع المسلح لحركة الجهاد الإسلامي، قد استطاعت تفجير عبوات ناسفة بآليات عسكرية إسرائيلية خلال اقتحام مخيم جنين، ليطلعوها على الفيديوهات التي نشرتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول الحادثة التي أدت إلى مقتل مجندة إسرائيلية وإصابة آخرين.
وتؤكد أم علاء: "قالوا لي الليلة إنهم سيرتكبون جرائم في جنين بعد هذه الحادثة"، في إشارة إلى جيش الاحتلال. وأخبروها أنهم سيخرجون من المنزل، لكنها طلبت منهم ألا يتوجهوا إلى مدينة جنين خشية تعرضهم للأذى. توقعت أن يتم إطلاق النار على أي شيء يتحرك في المدينة، لكنهم طمأنوها وقالوا إنهم سيتوجهون فقط إلى الشارع الرئيسي عند دوار الشهداء قرب مدخل القرية، حيث يتجمع الشبان في أحد المقاهي وعلى الشارع الرئيسي وهو طريق قوات الاحتلال خلال اقتحامها أو انسحابها.

وداع الأحبة مؤلم  (وهاج بني مفلح/ فرانس برس)
وداع الأحبة مؤلم (وهاج بني مفلح/ فرانس برس)

خرج خمسة من الأشقاء، وعاد أحدهم وهو محمد توأم هزاع (27 عاماً) لشعوره بالنعاس، على أن يعود إليهم في حال استمر الاقتحام لأكثر من ساعتين. لكن قبل ذلك، كان الهاتف يرن والمتصل هو ابنها قسام (18 عاماً) الذي يعمل في سوق الخضار في بلدة قباطية المجاورة، ليخبرها بوجود قصف إسرائيلي عند مثلث الشهداء، ويطلب منها الاتصال بأشقائه للاطمئنان عليهم، لكنهم لم يردوا على اتصالاتها.
بعد نشر أول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال شاب يطلب قدوم الإسعاف، تعرفت على ابنها علاء ملقى على الأرض، لتطلب من محمد الاستيقاظ والذهاب لمعرفة ما جرى لأشقائه، وليتعرف هو من خلال الفيديو على هزاع.
لم تلحق أم علاء بأبنائها إلى مكان قصفهم، بل إلى المستشفى لتجدهم قد استشهدوا إضافة إلى اثنين من أقاربهم، ولاحقاً استشهد سابع من العائلة ذاتها متأثرا بجراحه.

نالوا الشهادة 

تروي الأم أن الأشقاء عادة ما كانوا يخرجون مع كل اقتحام لجيش الاحتلال. هم في قلب الحدث دائماً ويوثقونه من خلال التصوير والنشر، ومساعدة الشبان وإسعافهم. كانوا قد نجوا من قصف مماثل في ديسمبر/ كانون الأول الماضي خلال وجودهم برفقة عدد من الشبان قبل أن يفترقوا عن بعضهم البعض ليذهب كل في طريق. وما هي إلا لحظات حتى قصفت قوات الاحتلال حي السيباط في مدينة جنين حيث كانوا، واستشهد أربعة ممن كانوا معهم.

كان الأشقاء أول الواصلين إلى مكان الحدث حينها، وكانوا يخرجون عادة مع بعضهم البعض محاولين تقديم الإسعاف للمصابين. لكن قوات الاحتلال قامت باعتقال ابنها رامي، واستمر اعتقاله من الصباح وحتى منتصف الليل، والتحقيق معه، وسؤاله عن سبب تقديمه الإسعاف للمصابين، ليرد بأنه لا يستطيع ترك أحد مصاب في الشارع دون مساعدة.
تعرض رامي في ذلك اليوم لإهانات كبيرة، فداس أحد الجنود رأسه، وأجبره الجنود على خلع ملابسه والبقاء بالملابس الداخلية، والبقاء تحت المطر لساعات طويلة، قبل الإفراج عنه.
كانت أم علاء تخشى على أبنائها كلما خرجوا، فهم منذ بدء العدوان على غزة يتحدثون عن الشهادة، ويطلبون منها عدم البكاء في حال استشهد أحدهم. ويقولون إنهم أكثر من مرة نجوا من شهادة محققة خلال اقتحامات قوات الاحتلال. ويمازحونها بالقول: "لم يستشهدوا ربما لأنها لا تريد أن يكون أحد أبنائها شهيداً". تختم حديثها قائلة: "كلما خرجوا كنت أضع يدي على قلبي. حاولت منعهم من الخروج أوقات اقتحامات قوات الاحتلال، لكنهم كانوا يردون بأن استشهاد أحد أبنائها لا يجب أن يحزنها بل يفرحها، فهي لديها 7 من الأبناء الذكور ولا ضير إن استشهد أحدهم كما يقولون. لكن استشهد أربعة منهم وليس واحداً فقط. سبحان الله".  

المساهمون