لاحظ كلّ التربويين في المدارس والجامعات على حد سواء أنّ قرار إغلاق مؤسسات التعليم نجم عنه نوع من التراجع في المهارات الأولية التي كان يفترض بالتلامذة والطلاب الحصول عليها من معلميهم وأساتذتهم في الصفوف.
كانت محصلة هذا التراجع فادحة لجهة فقدان ما حصلوا عليه من معارف وعلوم في سنوات سابقة على جائحة كورونا. وبهذا المعنى لم يستطع التعليم عن بعد، ومبادرات وجهود الأهل والهيئات التعليمية وابتكاراتهم، ردم الهوة والتعويض عن النقص التعليمي الحاصل.
يجب عطف ذلك على ما عاناه التلامذة والطلاب في مجتمعات تشهد حروباً أو فوضى واضطرابات أمنية لأسباب سياسية أو قبلية أو إثنية أو طائفية. ينسحب مثل هذا الوضع إلى هذا الحد أو ذاك على سورية والسودان واليمن وليبيا والعراق، مع تونس ولبنان إلى حد ما. ففي العديد من هذه الدول قذفت الحروب المتنقلة بأعداد كبرى نحو هجرات قسرية، وألجأتهم إلى أماكن بعيدة عن أماكن إقامتهم الأصلية في قراهم وبلداتهم ومدنهم، ما قاد إلى فقدانهم طابع الاستقرار الذي تتطلبه العملية التربوية من توافر أبنية مدارس ومدرسين وإداريين وغيرها من مستلزمات كتأمين الكتب والقرطاسية وسلامة الانتقال.
والواقع أن هذا اللجوء القسري لم يترافق مع تأمين بنية تحتية ملائمة لمواصلة ما سبق وبدأوه، أو كانوا عليه بما يكفل عملية التعويض عن هذه الفجوة التي أصابتهم في الصميم. وبالتالي فقد انضوى قسم من هؤلاء في صفوف ملايين المفتقدين للمقعد الدراسي أو المتسربين سنوياً من المدارس. بل إنّ أعداداً لا يستهان بها من هؤلاء باتوا تحت وطأة ظروف معيشية قاسية بمثابة "الجنود الاطفال" الذين يقاتلون في صفوف ميليشيات أهلية، مع كلّ ما يرافق ذلك من كراهية وحقد، لا علاقة لها بقيم الحياة والعملية التعليمية، وما تتطلبه من سنوات تحصيل.
لا ينسحب مثل هذا الوضع على كل الأطفال بمعزل عن أوضاع ذويهم الاقتصادية والاجتماعية. فقد نقل الميسورون منهم ممتلكاتهم المنقولة إلى مواطن لجوئهم، واستأجروا منازل وأعادوا تأسيس أعمالهم وأمنوا دخولاً منحتهم القدرة على توجيه أبنائهم نحو مدارس ذات مستوى جيد. أما غالبية الأطفال من أبناء الأسر الفقيرة فقد باتوا شبه معيلين لذويهم الذين فقدوا مصادر عيشهم ودخولهم، بمعنى خروجهم من الحياة المدرسية إلى سوق عمل بالغ القسوة على أعمارهم الغضة.
أما أولئك الذين لم ينضووا في سوق العمل، فقد تعذر عليهم الإفادة من وسائل تكنولوجيا التعليم عن بُعد، وعانوا من التأخر المدرسي والرسوب، ثم ما لبثوا تحت وطأة تكراره، أن انسحبوا من التوجه إلى مدارس لم تستطع أن تفتح أبوابها لعلاج مشكلاتهم.
لا بد من عطف ذلك كله على عدم المساواة الأصلية في فرص التعليم. ينطبق ذلك على الصغار كما يطاول الكبار في الجامعات. فالأطفال خسروا سنوات من تحصيلهم الفعلي أمام سطوة رداءة الأوضاع الاجتماعية التي تطحن عظامهم.
أما الكبار الذين سبق أن ارتادوا الجامعات الحكومية والخاصة ذات الكلفة المتدنية، فقد خرج قسم منهم من العملية التعلمية، أو في أحسن الأحوال تابعوا دراستهم دون أن يمتلكوا الكفاءات اللازمة. أي أن المنطقة العربية أمام أجيال من التي تخرجت بحد متدنٍ من الكفاءة، وبما لا يقاس مع صنوف المتخرجين في السنين والعقود المنصرمة. والمحصلة هي أننا أمام جموع إضافية من الأميين وأشباههم في الوقت نفسه.
(باحث وأكاديمي)