تتشارك الأمهات الغزيات ما حلّ بأبنائهن من جراء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. ثمّة اختلاف بين ما عاشوه وانتهى قبل أيام بالمقارنة مع الحروب السابقة، إذ استخدمت إسرائيل صواريخ ارتجاجية كانت تخيف الأطفال بأصواتها وما تخلّفه في نفوسهم. كانوا يعجزون عن النوم بسبب تركيز الجيش الإسرائيلي على ضرب أهداف معينة بعد الواحدة من منتصف الليل، وقد يستمر القصف في بعض الأيام حتى شروق الشمس. هذه الأيام الصعبة جعلت أطفالاً يخشون حلول المساء والعتمة. ونشر العديد من الناشطين مشاهد عكست مدى خوف وبكاء الأطفال في إحدى ليالي العدوان الإسرائيلي.
لا تستطيع نسرين أبو عودة (9 سنوات)، النوم منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع في 11 مايو/ أيار وحتى اللحظة، إلا في حال بقيت والدتها إلى جانبها طوال الليل. وبمجرد سماع أي صوت عال أو قريب، تشعر بالخوف والقلق. وقد تنتابها هذه المشاعر في حال سقوط آلة حادة على الأرض على سبيل المثال، أو في حال فتح أو إغلاق الأبواب أو النوافذ.
تضرر منزل أبو عودة في بلدة بيت حانون، إذ استهدف الاحتلال بيوت هذه البلدة المتلاصقة. كانت نسرين تبكي بشدة في الليالي، وخصوصاً عندما اضطر السكان لإخلاء البيوت لترى أمام عينيها جثثاً تنتشل من تحت الأنقاض. لم تكن والدتها قادرة على منعها من رؤية هذه المشاهد، إذ اضطر الأهالي إلى الخروج من الطريق نفسه الذي كانت فرق الإغاثة تسعف من خلاله المصابين وتنتشل جثث الشهداء.
أما والدتها ميساء أبو عودة (32 عاماً)، فتقول إنه بعد إخلاء المنزل، ظلت ابنتها تتبول لاإرادياً لمدة خمسة أيام، كما لم تكن تحب النوم حتى لا تستيقظ على أصوات القصف. في بعض الأيام، كانت تنام في حضن والدها. أما شقيقاها فهد (11 عاماً)، ونور الدين (6 أعوام)، فيعانيان من الصدمة والقلق، إلا أن المعالجة النفسية التي قصدتها الوالدة أشارت إلى أن حال نسرين أكثر سوءاً.
تعمل أبو عودة مُدرّسة في مرحلة التعليم الأساسي في إحدى المدارس الحكومية في بلدة بيت حانون، وتشير إلى أنها حاولت مساعدة طفلتها منذ أحست أنها ليست على ما يرام، وكانت تتواصل مع العديد من صديقاتها المرشدات التربويات، لكنها لم تكن قادرة على فعل أي شيء خلال الفترات التي كان يشتد فيها القصف، وحتى حين لجأ أفراد العائلة إلى منزل جد الأطفال القريب عند بوابة بلدة بيت حانون.
وتقول أبو عودة لـ"العربي الجديد": "بحكم تعاملي مع الأطفال ومعرفتي بمتخصّصين، كنت أنجح في احتواء خوفها في بعض الأحيان، وأفشل في أحيان أخرى. في الوقت الحالي، تتابع حالتها معالجة نفسية". هدف الوالدة حالياً هو علاج ابنتها من آثار الحرب والصدمة، على أن تلحقها بنشاط رياضي لاحقاً. تضيف: "أفكر في النساء اللواتي لم يستطعن التعامل مع أطفالهن، أو إحالتهم إلى متخصصين للعلاج. وماذا عن حال عائلات الشهداء؟".
علاج
يقصد المعالجة النفسية نسرين أبو عرجة عدد من الأطفال الذين تتطلب حالاتهم النفسية تدخلاً عاجلاً، على اعتبار أنهم في حالة صدمة نفسية حادة، لكنّها توضح أنه لا يمكن تحديد أرقام تتعلق بعدد الأطفال المتضررين من الحرب قبل مرور شهرين على انتهاء العدوان، وذلك حتى يتمكن المتخصصون من تحديد الأعراض المبدئية لانعكاسات العدوان الإسرائيلي على سلوكياتهم اليومية.
وبحسب بيانات برنامج غزة للصحة النفسية، هناك ارتفاع في نسبة الاضطرابات النفسية لدى أطفال غزة وذلك قبل العدوان الإسرائيلي الأخير. من هنا، تتخوّف من أن يصبح الأطفال أكثر عنفاً في سلوكياتهم اليومية، هم الذين تعرّضوا لصدمات هائلة من جراء أصوات القصف وتضرّر منازلهم مباشرة.
وتقول أبو عرجة إنّه "بعد معاينة عدد من الأطفال، يظهر أن الغالبيّة منهم يعانون من صدمة نفسية، تظهر من خلال اضطرابات سلوكية سيئة وعنيفة. إلا أن تحسن الحالة النفسية يتطلب جلسات تفريغ نفسي مكثفة وإمكانيات وأماكن ترفيه. ونظراً لعدم وجود بيئة نفسية صحية أو أماكن تنزه في غزة، فإن الأمر سيكون صعباً". تضيف: "الكثافة السكانية ليست بيئة جيدة لنمو طفل يتمتع بصحة نفسية جيدة"، لافتة إلى أنّ بيئة غزة صعبة لناحية عدد السكان والحالة الاجتماعية والسياسية الصعبة، "كما أن العدوان الإسرائيلي الأخير أحدث صدمات نفسية، وخصوصاً أنّ القصف كان يحدث في الوقت الذي ينام فيه الأطفال، ما أدى إلى اضطرابات عقلية لدى البعض بالإضافة إلى السلوك العنفي".
خوف
ترتجف سوار النجار (8 سنوات)، كلّما سمعت أي صوت مرتفع. فهي تشعر بالخوف الشديد لدى سماع أصوات طائرات الاستطلاع التي لا تكاد تغيب عن سماء قطاع غزة، وخصوصاً في الليل. تقيم في منطقة الدحدوح، غرب مدينة غزة، وقد قصفت الطائرات الإسرائيلية العديد من البيوت والأراضي الزراعية بالقرب من منزلها. لم تخرج النجار منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي وحتى اليوم سوى برفقة والدتها. تقول لـ"العربي الجديد": "على مقربة من منزلنا، كانت الأراضي الزراعية مدمرة، وتوجد الكثير من بقايا الصواريخ في منزلنا. أشعر بالخوف دائماً لأن الحرب يمكن أن تتكرر في أي لحظة. والدي كان يكذب عليّ ويقول إن الحرب لن تحصل لكنها حصلت. أتمنى أن ننتقل من منزلنا هذا، وأريد جيشاً كبيراً قادراً على حمايتنا نحن الأطفال من الموت من جراء القصف الإسرائيلي".
في شارع الوحدة، لم يعد كل من ساري علوان (13 عاماً)، وشقيقه إبراهيم (10 سنوات)، يرغبان في البقاء في الحي، فقد شاهدا المجزرة وقضيا ليلة صعبة، ولم يتناولا الطعام إلّا بعد يومين، بعدما شاهدا عبر النافذة المطلة على الشارع انتشال بعض الجثث. يقول ساري: "غزة كلّها خراب، ولا أريد اللعب في الشارع ولا حتى في الملعب. أشعر بأنني لو خرجت، يمكن أن أموت وتأتي الحرب، وهذه أحلام أشاهدها كثيراً هذه الأيام".
والدهما مؤمن علوان (40 عاماً)، يقول إنه يعجز عن تهدئتهما في بعض لحظات انفعالهما. ويتابع: "لم أمنعهما من مشاهدة المجزرة في الحي. حتى لو لم يشاهداها من النافذة، كانا سيريانها من خلال شاشة التلفاز. جميع أطفال الحي يعانون من الصدمات النفسية، بالإضافة إلى أطفال في مناطق مختلفة. لكن لا أعلم كيف نعالج أطفالنا ولم يُزَل الركام بعد ولا توجد أماكن غير البحر المكتظ بالناس أصلاً للترفيه عن النفس".
من جهته، يقول أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى في غزة، درداح الشاعر، إنّ أثر الصدمات النفسية على الأطفال كبير، وقد يعانون من التبوّل اللاإرادي والفزع والقلق والأرق والكوابيس، وصولاً إلى السير أثناء النوم. كذلك يشير، استناداً إلى ما عاناه أطفال حروب سابقة، إلى عزوف البعض عن الدراسة، وتفضيل العزلة بدلاً من التواصل مع المحيط، وقد يصبح البعض أكثر التصاقاً بأهلهم، ما يؤثر على قدرة الطفل على التفاعل مع المحيط في المستقبل.
ويقول الشاعر لـ"العربي الجديد": "الناس في غزة يكرهون الليل بعدما دمّرت الحروب الإسرائيلية علاقتهم به، وقد بات يقترن بأصوات مرعبة بالنسبة إليهم، الأمر الذي ينتج عنه سلوك عنفي لدى الأطفال في أحيان كثيرة. لذلك، فهناك ضرورة لتقديم برامج دعم نفسي وأخرى ترفيهية ضمن المناهج الدراسية لمساعدة الأطفال على تجاوز الصدمات النفسية".
يشار إلى أن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، والذي امتد على مدى 11 يوماً، أدى إلى سقوط 254 شهيداً، منهم 66 طفلاً، و39 امرأة، و17 مسناً، ولإصابة 1948 شخصاً بجراح مختلفة، بالإضافة إلى تدمير الممتلكات والمنشآت السكنية والتجارية والمؤسسات الحكومية، من بينها تلك الطبية، بالإضافة إلى الأراضي الزراعية.