لم يكن الإنسان الضحية الوحيدة للحرب اليمنية المستمرة منذ 7 سنوات، إذ تعرضت القوانين النافذة إلى انتكاسة كبيرة أيضاً مع بعث الأعراف القبلية إلى الواجهة مجدداً في حسم الخلافات استناداً إلى أحكام تشرّعها تقاليد اجتماعية موروثة، ولا تهدف إلا إلى "إنقاذ" جناة من العقوبات.
تبنّت السلطات الحوثية هذا التوجه خلال السنوات الأخيرة في مناطق المحافظات الشمالية الخاضعة لسيطرتها، والتي تتركز فيها القبلية بالدرجة الأولى، بخلاف مدن الجنوب والشرق الأكثر تمدناً.
وتبرر سلطات صنعاء إعادة الأعراف القبلية إلى الواجهة بمساهمتها في تجسيد مبدأ التسامح والإخاء ولمّ الشمل وتخطي العقبات الكثيرة للحرب التي تستدعي توحيد الصف لمواجهتها، وإفشال محاولات إحداث خرق في نسيج المجتمع.
وعالجت هذه السلطات عبر هذه الأعراف التي تفرضها بـ"الترغيب والترهيب"، ملفات عدة، بينها قضايا رأي عام، ومنها حادث الاعتداء الشهير على الطفل مصطفى اليحيصي في مديرية أرحب، والذي أخضع لما يسمى حكم "بنادق التحكيم والتهجير والعقير" المتوارثة قبلياً.
يرى خبراء ومحللون أن "تآكل" مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء، جعل المحاكم تفقد هيبتها لصالح الزعماء القبليين والمشايخ الذين يعتمدون الأعراف في حسم النزاعات، والتي تطبق فيها دائماً "عقوبات معنوية" تستند إلى "بنادق التحكيم".
ويشكل شيوخ القبائل الحجر الأساس في إطلاق هذا النوع من التحكيم، إذ يذهبون مع أسرة الجاني إلى قبيلة أو منزل المجني عليه، ويشرفون على تقديم أفرادها اعتذاراً علنياً عن الجريمة المرتكبة، وتركهم عدداً من بنادق الكلاشنكوف كتعويض، إلى جانب ذبحهم ماشية.
ظاهرة نادرة
وتؤكد مصادر في محافظتي صنعاء وعمران، لـ"العربي الجديد"، أن عرض القضايا على المحاكم بات ظاهرة نادرة خلال العامين الأخيرين، إذ تحسم الأعراف القبلية أحكامها، وهو ما تشجعه جماعة الحوثيين.
يقول محمد القيسي، المتحدر من محافظة عمران، لـ"العربي الجديد": "يختصر تطبيق القوانين القبلية أحياناً الطريق أمام المتخاصمين الذين تحسم النزاعات بينهم خلال ساعة واحدة من الزمن، وتجعلهم يتفادون سلوك مسار القضاء لسنوات، ودفع غرامات وأموال طائلة. أما سيئات التحكيم القبلي فتشمل منح حصانة لجناة عبر أعراف استخدمت سابقاً في فض نزاعات بسيطة، وليس في قضايا قتل متعمد، كما هي الحال اليوم".
صلح بقوة السلاح
في مديرية مقبنة، غربي محافظة تعز، أجبرت السلطات الحوثية قبيلتين من آل العشملي وآل الشميري على تسوية جريمة قتل راح ضحيتها المقدم عبد الحكيم علي العشملي وشخص آخر، إثر خلاف نشب داخل سوق شعبي.
وأوضح مصدر لـ"العربي الجديد"، أن "السلطات الحوثية أوفدت في سبتمبر/ أيلول الماضي مسؤولين إلى المنطقة من أجل إقناع آل العشملي بالعفو عن قاتل ابنهم "لوجه الله وتكريماً للحاضرين"، وحل القضية بحسب الأخلاق والأعراف القبلية.
وحاولت السلطات الحوثية امتصاص غضب أسرة المجني عليه، عبر تشييع الضحية في موكب جنائزي ضخم وإعلان مقتله في مواجهات اندلعت مع القوات الحكومية وليس في مشاجرة، لكنها فشلت في تسوية الخلاف تنفيذاً لتوجيهات قادتها الكبار الذين دعوا قبل أشهر إلى حلّ الخلافات وإصلاحها عبر تطبيق الأعراف القبلية، باعتبارها "تعزز التلاحم ووحدة الصف".
وأرغمت أسرة العشملي على قبول حكم الشيوخ الموالين لجماعة الحوثيين، تحت تهديد التعرض لتدابير أمنية وعمليات بطش أو السجن في حال مخالفة أوامر السلطات. من هنا تعتبر مصادر قبلية أن "فرض الحلول العرفية بقوة السلاح الحوثي لن يصفي النفوس، بل سيُرحّل قضايا الثأر إلى المستقبل، باعتبار أن بعض الأسر لن تترد في الانتقام بمجرد زوال نفوذ السلطات الحوثية التي فرضت الصلح".
تحضيراً لمواجهة العدوان
وتلفت هذه المصادر إلى أن "السلطات الحوثية لا تطبق أحكام الأعراف القبلية فقط لطي صفحات الخلافات بين أبناء البلدات والمناطق وحقن الدماء، وتحقيق هدف التعايش السلمي والآمن بينهم، بل لتحقيق أجندتها الخاصة في الحكم".
ويتحدث الباحث الاجتماعي في محافظة ذمار محمد الموشكي، لـ"العربي الجديد"، عن أن "السلطات الحوثية ترى في الخلافات حاجزاً كبيراً يمنع عملية التجنيد والتعبئة العامة الضرورية لإرسال مقاتلين إلى جبهات القتال. لذا تجهد لإزالة أي قضايا تشوّش على الأحداث العامة".
وتحتضن محافظات عدة، بينها ذمار، التي توفر خزاناً بشرياً للمقاتلين الحوثيين، قضايا ثأر بعضها منذ أكثر من عقدين، والتي تجعل القبائل توجه سلاحها بعضها نحو بعض، وهو ما لا يريده الحوثيون الذين لا يجدون حرجاً في الإفصاح عن مقصدهم في الضغط على القبائل لإنهاء خلافاتها الداخلية. ففي نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، دعا عضو المجلس السياسي الأعلى في الجماعة محمد علي الحوثي القبائل إلى إصلاح ممارساتها، وإشاعة ثقافة الأخوة وتعزيز قيم التسامح والعفو والصفح في أوساط المجتمع، ومعالجة قضايا النزاعات بينها بطرق مرضية تمهيداً للتفرغ لمواجهة ما سمّاه "العدوان الأميركي - السعودي".
وأدلى المسؤول بتصريحاته خلال إشرافه على إنهاء قضية ثأر بين قبيلتي مُريد والمشاخرة في مديرية الحداء بمحافظة ذمار، والتي استمرت ثلاث سنوات، وخلّفت أكثر من 26 قتيلاً و117 جريحاً، بينهم أطفال ونساء، علماً أن السلطات الحوثية ترى أن سقوط هؤلاء القتلى كان يجب أن يحصل في جبهات القتال، وليس في قضايا "ثأر عبثي"، كما تقول وسائل إعلامها.
دفن المؤسسات
بالطبع ليس حضور الأعراف القبلية أمراً طارئاً في المجتمع اليمني، لكن خبراء يعتقدون بأن قوانينها ظهرت بشكل واضح وجليّ خلال حكم السلطات الحوثية، والتي استخدمتها لنسف المؤسسات الرسمية.
ويرى المدير التنفيذي لمركز "العربية السعيدة" للدراسات أحمد العرامي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "سلوك الحوثيين يمنحهم ميزات إرضاء القبائل، وعدم تحميل نفسها وزر الخطأ الذي يراد تصحيحه، بل أفراد من القبائل. وفي السياق، يحل الحوثيون وحلفاؤهم قضية اعتداء أحد قادتهم على شيخ أو فرد من قبيلة أو قتله، من خلال التحكيم القبلي والتعامل مع الجرم كخطأ فردي".
وفعلياً، أدت الأعراف القبلية إلى تآكل مؤسسات الدولة، وتراجع دور القضاء على حساب منح الأعراف القبلية وزعماء العشائر والمشايخ الكلمة العليا.
الجدلية
واللافت أن القوانين العرفية القبلية حسمت خلافات جوهرية خلال الحرب الدائرة منذ 7 سنوات، والتي أعجزت حتى مسؤولي الأمم المتحدة ووسطاء دوليين، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة تبادل الأسرى.
وتكشف مصادر لـ"العربي الجديد"، أن الوساطات القبلية أثمرت تبادل أكثر من 8 آلاف أسير حرب وجثامين قتلى بين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي وجماعة الحوثيين.
وتؤكد ذلك ثقة غالبية الناس بالأعراف القبلية في ظل تراجع دور مؤسسات الدولة خلال الحرب حتى في المناطق الخاضعة لنفوذ الحكومة المعترف بها دولياً، لكن مراقبين يحملون المجتمع مسؤولية ما آلت إليه الأمور.
ويقول المحامي في مدينة تعز عبد الواسع الشرعبي، لـ"العربي الجديد": "ساهم المجتمع في اغتيال القوانين وقبول حلول الأعراف القبلية بدلاً منها. وهذا خطأ فادح يجعل البلاد محكومة بقانون الغاب فقط". يضيف: "يحصل هذا الأمر اليوم حتى في تعز التي كانت تعرف بمدنيتها، إذ يرضخ المجني عليه للتحكيم القبلي ويُسقط الحق العام في قضايا تستند إلى أدلة شهود، وانتهاكات موثقة بكاميرات المراقبة، وعمليات شروع في القتل، ويجبر على قبول الاعتذار، كما حصل مع بائع لنبتة القات يدعى أيمن أبو رأس، الذي تعرض لهجوم مسلح نفذه ضابط في سلاح الدفاع الجوي بشارع الجملة، وسط مدينة تعز الغارقة في الفوضى الأمنية". يختم: "صحيح أن مؤسسات الدولة ضعيفة وغير قادرة على تنفيذ أحكام القضاء حالياً، لكن أحكام الأعراف هي وسيلة تحايل الجناة على القوانين".