أكثر من شهرين مرا على توقيع الاتفاق الروسي-التركي حول إدلب، الذي بدا غامضاً ومنقوصاً لجهة إغفاله تلبية المطالب التي دفعت تركيا لتنفيذ عمليتها العسكرية ضد قوات النظام أواخر فبراير/شباط الماضي، وفي مقدمتها انسحاب النظام من كامل "منطقة خفض التصعيد" (إدلب وما حولها)، تطبيقاً لاتفاق سوتشي وحدوده الجغرافية الموقع بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، في سبتمبر/أيلول 2018.
انسحاب النظام من كامل "منطقة خفض التصعيد"، ولا سيما من القرى والمدن التي سيطر عليها خلال حملاته العسكرية الأخيرة، التي بدأت في إبريل/نيسان 2019، وانتهت بتوقيع اتفاق موسكو في 5 مارس/آذار الماضي، يعني عودة النازحين إلى منازلهم، في أرياف إدلب الجنوبي والشرقي، وحماة الشمالي والغربي، وحلب الجنوبي والغربي، وذلك مطلب يُصر النازحون على تنفيذه، بسبب الظروف المأساوية الصعبة التي يعانونها جراء النزوح. علماً أن الاتفاق الأخير لم يتطرق إلى هذه المسألة، إلا بشكل هامشي ضمن مقدمة الاتفاق، وليس في بنوده الثلاثة.
وجراء المعارك الأخيرة، التي امتدت على مدار نحو عام، واستطاع النظام خلالها قضم مساحات واسعة من "منطقة خفض التصعيد"، بدعم روسي من الجو وإيراني على الأرض، نزح نحو مليون و700 ألف مدني عن تلك المناطق، أكثر من 80 في المائة منهم يعيشون داخل المخيمات، في ظل نقص المساعدات والخدمات وأبسط مقومات المعيشة، في حين يتوزع الباقون في القرى والبلدات التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة وسط وشمالي إدلب. لكنهم جميعاً باتوا يضغطون باتجاه تطبيق اتفاق سوتشي، وتحقيق عودتهم. وأخذت جهود النازحين والمهجرين في هذا الإطار تتجه نحو التنظيم، لبدأ حراك مدني ضاغط على فصائل المعارضة، ولا سيما الموالية لتركيا، لتحقيقه.
ورأى أحمد خطاب، وهو ناشط مدني مهجر من مدينة سراقب التي باتت تسيطر عليها قوات النظام، أن "المدنيين تهجروا من مناطقهم بسبب إجرام النظام أولاً، ومن ثم بسبب ارتهان فصائل وتنفيذها أجندات الدول". وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الأوضاع الصعبة التي نعيشها في أماكن النزوح من استغلال وضيق سبل العيش، دعتنا للتحرك للضغط باتجاه العودة. ونحن نريد أن نعود من دون وجود أي مظاهر مسلحة، لا نظام ولا فصائل، ونحن نركز على هذا المطلب حالياً، على مبدأ لا يموت حق وراءه من يطالب به، ونأمل أن يتحقق ذلك في القريب العاجل". وأشار إلى أن "النازحين تهجروا بسبب اتفاقيات لا علاقة لهم بها، لذلك سنتوجه للأمم المتحدة والضامن التركي الذي نفذ هذه الاتفاقيات، التي لم تحقق لنا سوى الخسارة ومزيد من الدم وعدم الأمان، بضرورة الوقوف عند التزاماتهم لإعادتنا إلى منازلنا".
وتضمّن اتفاق موسكو ثلاثة بنود في مقدمتها وقف إطلاق النار، وإنشاء ممر آمن على طول الطريق الدولي حلب-اللاذقية "أم 4" المار من إدلب، وتسيير دوريات روسية - تركية على طول الطريق. وعارض كثير من المدنيين، والنازحون منهم على وجه الخصوص، تسيير الدوريات المشتركة حتى تبيان مصير المناطق التي سيطر النظام عليها. ولم تستطع العربات الروسية مشاركة العربات التركية تسيير الدوريات، حتى أول من أمس الخميس، بعد أن كان الطريق مقطوعاً أمامها من بعض المحتجين عند بلدة النيرب. وانطلقت الدورية المشتركة من قرية ترنبة قرب طريق "أم 4" وصولاً إلى محيط مدينة أريحا جنوب إدلب، فيما حلقت طائرات حربية روسية، وطائرات الاستطلاع بشكل مكثف في سماء مدينة إدلب وريفها وعلى طول الطريق الدولي. وهذه هي المرة الثانية التي تصل دورية مشتركة لهذه المسافة منذ بدء تطبيق الاتفاق الروسي-التركي الأخير، فيما تعد هذه الدورية التاسعة من نوعها بين الجانبين على طريق "أم 4"، حيث كانت الدوريات تكتفي بالوصول إلى أماكن وجود المحتجين، ومن ثم العودة.
الرائد يوسف حمود، المتحدث باسم "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، والذي دفع بتعزيزات كبيرة من معقله بريف حلب الشمالي إلى إدلب خلال المرحلة الأخيرة من المعارك، أشار إلى أن "مطالب المهجرين محقة ومشروعة، لكن تدويل القضية السورية يجعل حساباتنا مضبوطة لجهة فتح أو استئناف المعارك، في ظل التفاهمات الحالية، الإقليمية والدولية، سواء حول إدلب أو الملف السوري عموماً". وأضاف حمود، في اتصال مع "العربي الجديد": "لا شك في أن من أولوياتنا تحرير كل شبر فقدناه في المعارك الأخيرة، ونسعى للوصول إلى هذا الأمر ضمن الظروف المتاحة، ولا ضير أن يطالبنا المدنيون بذلك، سواء نحن أو الضامن التركي".
من جانب آخر، لا يزال الجيش التركي يدفع بمزيد من التعزيزات نحو إدلب، لتوزيعها على أكثر من 45 نقطة عسكرية باتت منتشرة في المنطقة. وعبر رتل تركي أمس الجمعة نقطة كفرلوسين الحدودية وتوجه نحو الداخل للتوزع على النقاط. يأتي ذلك في ظل مواصلة النظام خروقاته المتكررة لوقف إطلاق النار، لا سيما جنوبي إدلب، حيث قتل وأصيب عدد من عناصر قوات النظام السوري أمس الجمعة، إثر استهدافهم من قبل الفصائل المقاتلة بريف إدلب الجنوبي، أثناء محاولتهم التسلل في المنطقة. وذكرت "غرفة عمليات إدلب" أن "مجموعة كاملة من المليشيات الطائفية قتلوا وجرحوا، نتيجة استهدافهم بصاروخ موجه، أثناء محاولتهم التسلل على محور كنصفرة بريف إدلب".
وفي مواجهة التعزيزات التركية المستمرة إلى إدلب، يواصل النظام وحلفاؤه كذلك، ولا سيما المليشيات المدعومة من إيران، الزج بمزيد من التعزيزات نحو جبهات معرة النعمان وكفرنبل جنوب إدلب، وسراقب وسط المحافظة، وسط تكهنات بانهيار وقف إطلاق النار واستئناف المعارك عند انتهاء الدول المتنفذة من مواجهة فيروس كورونا ضمن مجتمعاتها. وأشار عضو الهيئة السياسية للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عبد المجيد بركات إلى أن الوضع العسكري في إدلب سيتغير تدريجياً، بناء على العديد من المعطيات، وسيتبع ذلك تغيرات على مستويات مختلفة، سياسية وخدمية. وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "خلال الاجتماعات الأخيرة مع الجانب التركي، كانت الرسائل واضحة من قبلهم للمعارضة السياسية والعسكرية، بأن النقاط العسكرية القديمة داخل المناطق التي سيطر النظام عليها لن يتم سحبها، بل على العكس سيتم تثبيتها. ولا تزال تركيا تنظر إلى اتفاق أستانة، ومن ثم سوتشي، على أنه الاتفاق الأساسي، وبالتالي فإن الاتفاقات الحالية هي مؤقتة، ولهذا لم يتم سحب النقاط القديمة". وتابع "هذا يعطي مؤشراً على أن كل شيء قابل للاسترداد، على الرغم من ضبابية الخريطة العسكرية. ولا شك في أن تركيا والمعارضة تفكران بعودة هذه المناطق لأهلها، لكن الآن الأولوية لتقوية الجبهة الداخلية، وإحداث تغيرات سياسية ومن ثم عسكرية، بالإضافة لمعالجة الوضع الخدمي والإداري، ومن ثم سيفتح ملف المناطق التي قضمها النظام وحلفاؤه في العمليات الأخيرة".
ولفت بركات إلى أن "العملية العسكرية التركية في إدلب، غيرت الكثير من التوازنات، ومنها توازنات القوى المحلية في إدلب، ولاحظنا تدفق الأرتال التركية، ولجوء بعض الفصائل لترتيب أوراقها خلال فترة الهدنة. كما لاحظنا من خلال اجتماعاتنا الأخيرة، مع المستويات المختلفة في إدلب، أن هناك رغبة في فرض شرعية سياسية على المحافظة ومحيطها، وإخراجها من دائرة وسمها بالإرهاب، في ظل وجود هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). ولا شك في أن الهيئة أو غيرها من الفصائل الراديكالية، ستكون خاضعة للتغيرات المقبلة والتي ستحقق مصلحة المحافظة".