الصورة السوداوية لأوروبا في مواجهة كورونا، وبأحادية وطنية، تُظهر أن دول القارة وقفت لأسابيع من دون أن تستطيع التوصل لمواجهة مشتركة على المستوى السياسي. فالقرارات في كل السياسات، بما فيها الصحية، تبقى في نهاية المطاف بأيدي الحكومات الـ27 الممثلة في هذا الاتحاد. وعلى الرغم من الحاجة لتنسيق سياسي لمواجهة "حالة الحرب" ضد فيروس كورونا، فقد ظهر الاتحاد الأوروبي مشتتاً و"القارة ليست دولة عظمى تضم 550 مليون إنسان، في ظل غياب أمثلة تظهر التضامن البيني"، وفق وصف صحيفة "بوليتيكن" الدنماركية صباح الثلاثاء.
وبات الاتحاد الأوروبي في مأزق وأزمة حقيقيين هذه المرة، مع غياب الإستراتيجيات المسبقة عما يجب فعله بشكل جماعي إذا ما واجه أزمة جماعية بهذا المستوى، فيما يدعو البعض إلى إيجاد سياسة أخرى شاملة للاتحاد بعيداً عن سياسة صحية منفردة للبلدان. هذا الواقع سيعزز موقف القوى السياسية اليمينية المتشددة، التي تواصل الحديث عن وجود خلل في منظومة عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إلى جانب انتقادات من اليسار ويسار الوسط في ما يخص تقييد حرية الحركة والتجارة البينية، فيما يبدو قادة بروكسل بعد انتشار الوباء أكثر عجزاً عن الاتفاق على سياسة جماعية حدودية.
سلسلة أزمات
في إيطاليا ليسوا سعداء بغياب التعاون الأوروبي المشترك لمكافحة فيروس كورونا. السويد تستهجن إغلاق الدنمارك لحدودها معها ووقف إرسال معدات طبية اشترتها من ألمانيا. الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش يقول إن "التضامن الأوروبي لا وجود له"، وألمانيا تعيق تصدير مواد طبية بين دول الأسرة الأوروبية. تلك فقط عينات من تخبّط عاشته أوروبا منذ الإعلان الإيطالي عن انتشار كورونا، وتصنيف منظمة الصحة العالمية، أوروبا كمصدر جديد لانتشار كورونا، لتبرز سلسلة من الأخطاء تحت سطح الإجراءات الأوروبية، وعلى رأسها الأخطاء في مجال التنسيق لمواجهة الوباء.
وعلى سبيل المثال نداء إيطاليا للاتحاد الأوروبي بمساعدة البلاد من خلال مدها بأدوات طبية وأجهزة تنفس صناعي، لم يحرك بقية الدول الأعضاء. وجاءت قرارات إغلاق الحدود البينية لتشكّل نقطة أخرى في الانغلاق على الذات، بشعار "نحن أولاً" وتزيد الطين بلة بحسب تعبير وزيرة التجارة السويدية، آنا هالبيرغ. فقد أدت سياسة إغلاق الحدود، بما فيها بين ألمانيا والدنمارك وبولندا والنمسا، بالإضافة إلى فرنسا وتشيكيا، إلى امتعاض سويدي من سياسة مجابهة الفيروس بشكل منفرد أوروبياً.
وأدت سياسة فرض قيود على الصادرات الطبية، تزامناً مع الإغلاق الذي أعلنته فون ديرلاين، وإعلان مبادئ توجيهية جديدة حول كيفية تداول الدول الأعضاء مع المسائل التجارية ومبادئ حرية انسياب البضائع بين دول الاتحاد الأوروبي، إلى شكوك كبيرة بقدرة الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يصب في مصلحة قوى اليمين المتشدد في إيطاليا ودول اسكندينافيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وغيرها من دول الاتحاد. فتأكيدات فون ديرلاين "أهمية استمرار عمل السوق الداخلي الأوروبي المشترك في الاتحاد، وبالأخص السماح بتدفق السلع من دون عوائق"، لا يبدو أنها ستخفف من تقوية موقف تلك القوى اليمينية المتشددة، هذا إلى جانب انتقادات من اليسار ويسار الوسط.
وعلى الرغم من أنه من المبكر الحكم على من اختار الإستراتيجية الصحيحة لمواجهة جائحة كورونا من القيادات الأوروبية، إلا أنه من الصحيح أيضاً أنها تضع على المحك أوروبا التي تملك مروحة واسعة من المؤسسات، والتي بدت خلال الأسابيع الماضية في حالة ارتباك وغير قادرة على التصرف الجماعي، أو التضامن، كما وصفها الرئيس الصربي مساء الأحد في انتقاده اللاذع للمفوضية الأوروبية التي تعمل على الحفاظ على وسائل العناية الطبية داخل أسوار الاتحاد الأوروبي.
وأثار كلام الرئيس الصربي سجالاً على مواقع التواصل وردوداً غاضبة على الاتحاد الأوروبي، وصلت بالبعض إلى توديع فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فبلاده، صربيا، هي في مرحلة تفاوض منذ سنوات للانضمام لهذا الاتحاد، الذي وجّه له صفعة في خطاب عبّر عن غضب من فون ديرلاين، موجّهاً نظره نحو الصين على أمل الحصول على مساعدة لمواجهة الوباء. وقال فوتشيتش، إنه سيفعل كما فعل الإيطاليون "فالبلد الوحيد الذي يمكنه مساعدتنا الآن هو الصين، أما بالنسبة للبقية فشكراً على لا شيء". ووجّه فوتشيتش كلاما مباشرا عن بكين بالقول "أؤمن بأخي وصديقي (الرئيس الصيني) شي جينبينغ، وأؤمن بالمساعدة من الصين". وأكد أنه "لا يوجد تضامن أوروبي في مواجهة الوباء ، فنحن أمام مغامرة على الورق".
عقيدة "أنا أولاً" تهيمن
من الواضح أن عقيدة "أنا أولاً" لم تعد تقتصر على طريقة تفكير الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في مسعاه لكسب سياسي عبر محاولة جذب شركة ألمانية تبحث عن علاج للفيروس. فالأمر، وفقاً لرصد الأوروبيين أنفسهم، تحوّل إلى سياسة انغلاق على الذات، من خلال غلق حدود الدول الأوروبية، وبإجراءات صارمة تعيد من هم على الحدود، حتى مواطن ألماني يعمل في الدنمارك من منطقة حدودية "لأنه لا يمكنني الدخول طالما أنا في إجازة نهاية الأسبوع وسيسمح لي فقط من يوم الإثنين"، كما نقلت صحيفة دنماركية عن ذلك الرجل.
وقبل نحو 10 أيام كانت أوروبا تبدو موحّدة في مسألة الحدود بين تركيا واليونان، لوقف تدفق المهاجرين، لكن قادة بروكسل يبدون أكثر عجزاً بعد انتشار الوباء عن الاتفاق على سياسة جماعية حدودية. فعلى الرغم من الاجتماعات الطارئة، قبل أن تتحوّل إلى لقاءات عبر "فيديو كونفرنس"، ها هي منظومة الاتحاد تقف شبه عاجزة عن سياسة تنسيق تجاه الفيروس، ما يجعل مهمة رئيسة المفوضية، أورسولا فون ديرلاين، أصعب من مسألة إغلاق الحدود الخارجية للدول الأعضاء. فالمتأثرون من التخبّط السياسي الأوروبي، ليسوا فقط غير الأوروبيين، بل ثمة دول أعضاء في الاتحاد، كإيطاليا والسويد، تعاني من هذا التخبّط.
مبادرة فون ديرلاين، بإغلاق حدود أوروبا 30 يوماً، يقرؤها بعض الأوروبيين الذين سارعوا لإغلاق حدودهم الوطنية قبل ذلك الإعلان، كما في الحالة الدنماركية والألمانية خلال الأيام الأخيرة، مجرد محاولة أخرى لجمع العمل الأوروبي المشترك. فأصلاً أساس الاتحاد يقوم على حريتي حركة الناس والبضائع، وبهذا المعنى يبدو أن أهم أسس الاتحاد الأوروبي يجري العبث فيه، أقله وفقاً لقراءة البرلماني الأوروبي عن اليسار الدنماركي، نيكولاي فيلومسن.
وركزت إجراءات الأسابيع الماضية وبشكل ضيق على الحالة الوطنية لكل دولة، وارتكزت في معظمها على المصالح الذاتية الضيقة. فحتى الغضب الألماني من كشف "دي فيلت" محاولة ترامب شراء أبحاث شركة الأدوية كيورفاك، أو جذبها مالياً بنحو مليار دولار، بدا غضبا لأجل مصلحة ألمانيا، قبل أن يجري تعديل الخطاب بأنه يتعلق بإيجاد "دواء للبشرية جمعاء". وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، ذكر الأحد الماضي أنه "لا يجب أن نعمل بعضنا ضد بعضنا الأخر، ومن غير المسموح تجيير نتائج الأبحاث لإبعاد أطراف"، وأنه سيبحث هذه القضية مع مجموعة الدول السبع، إلا أن الوضع الأوروبي المشترك ليس بخير.
فسياسة إغلاق الحدود الأوروبية، وانتهاج سياسة حمائية، بقرار سياسي، تجاه ما تحتويه مخازن الدول من مواد أساسية لمساعدة الناس على مكافحة أعراض كورونا، تزيد من الغضب الإيطالي الذي يمكن أن يستغله حزب "ليغا" بزعامة وزير الداخلية السابق ماتيو سالفيني الذي بدأ يوجّه انتقادات لاذعة للاتحاد الأوروبي، وإن لم يظهر بعد شعبياً بفعل سياسة الحجر والتضامن الداخلي الإيطالي. وبينما أرسلت الصين 33 طناً من المساعدات، أرسلت ألمانيا فقط 7 أطنان من المواد الطبية. دخول الصين على الخط الأوروبي من القضايا الحساسة التي لا تعجب أطرافاً سياسية من اليسار واليمين. وهو ما أشارت إليه صحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية الاثنين بعنوان لافت عن أن بكين "ترسل طائرة ومعها إشاعة نظرية المؤامرة لتلميع صورتها في الغرب". وما مخاطبة الرئيس الصربي لنظيره الصيني بـ"الأخ والصديق" سوى واحدة من معضلات أوروبا المستقبلية، بعد تخطي مرحلة الوباء الحالي. فسياسة ألمانيا تحديداً في فرض منع تصدير المواد الطبية كانت رسالة سيئة لدول البلقان غير المنضوية في نادي بروكسل، وفقاً لما يقرأ خبراء في الشؤون الأوروبية في اسكندنافيا.
انحسار الخيارات
منذ الأربعاء الماضي حاول وزراء الصحة الأوروبيون، من خلال لقاءات متكررة بتقنيات التواصل عن بُعد، تنسيق جهود الاتحاد الأوروبي، لكن هذه الاجتماعات، بحسب مصادر صحافية لـ"العربي الجديد"، باتت "غير رسمية وينسحب منها وزراء، وبعضهم لا يأخذ الأمور على محمل الجد، ولا يدرون أصلاً ما يتوجب فعله جماعياً"، وفقا لتلك المصادر، التي تضيف "هي اجتماعات تجري بعيدا عن الأعين ولا ترافقها الصحافة كما في الاجتماعات العلنية في بروكسل". الإيطاليون، وفي تلك الاجتماعات، كانوا يذكّرون بمطلبهم مد يد العون من الاتحاد الذي شاركت روما بشكل أساسي في تأسيسه كسوق اقتصادي مشترك في الخمسينيات من القرن الماضي.
أمام هذا الواقع، رأى الخبير السياسي الأوروبي إيان بوند، من مركز أبحاث مركز الإصلاح الأوروبي ومقره لندن، أنه من الضروري أن يجد الاتحاد الأوروبي سبلاً لإيجاد حلول مشتركة. وأضاف بوند بحسب ما نقلت عنه "ألتينغ" الدنماركية الثلاثاء، أن "المفوضية تحاول القيام بشيء ما في إطار ما لديها. المشكلة هي عدم وجود قيادة مبادِرة في الحكومات الأوروبية، وعدم وجود إيمان بأن الحل الأوروبي المشترك يمكن أن ينجح".
ومع اعتراف الأوروبيين في تقييمهم بأن إعادة فرض الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي هذه المرة، وبهذه الشمولية، فيه ارتداد عن المبادئ الأساسية التي قام عليها، لكن في المقابل يعترف هؤلاء أن الاتحاد ليس بمقدوره فعل الكثير في ظل أزمة طارئة وفي غياب إستراتيجيات محددة ومشتركة.