نجح الشعب الأردني في تثبيت الحكومة والدولة عند حدود غضبه وصبره، على الأقل مؤقتاً، ليتدخل الملك عبدالله الثاني، صباح أمس، ويوعز لرئيس الحكومة، هاني الملقي، بوقف قرار رفع أسعار المحروقات للشهر الحالي، وهو الذي دفع بقطاعات واسعة من الأردنيين إلى الاحتجاج ومناشدة الملك، ودعوته إلى حل مجلس النواب ورحيل الحكومة. وبذلك، يكون التدخل الملكي المؤقت، محاولة ربما تكون الأخيرة، لإنقاذ حكومة الملقي المرتبكة والمشبعة بالتعديلات، من تدحرج كرة الغضب الشعبي، وبالتالي تلافي ما كان يظن الأردن أنه غادره من نزول الجمهور غاضباً إلى الشارع جراء سياسات الحكومات الاقتصادية. وما كاد قرار الحكومة برفع الأسعار ينشر، حتى تداعى الناس إلى الميادين لتنفيذ وقفات احتجاجية، أبرزها أمام الدوار الرابع في جبل عمّان (قرب مقر الحكومة)، حيث تدخل الأمن لتفريقهم، وإطفاء محركات السيارات وقطع حركة المرور في مناطق حيوية، لتأتي الهتافات عقب ذلك متجاوزة السقوف.
وفيما قدّم المتظاهرون الماء والعصير لقوات الدرك قريباً من مقر رئاسة الحكومة، في رسالة على سلمية التجمهر، كان على محافظ العاصمة، سعد شهاب، الذي كان في صفوف المحتجين، ومعه بعض من فريق مكتب الملقي، أن يسمعوا دعوة الناس بسقوط الحكومة ونهج الجباية والجوع والسرقة. وبينما صدر بيان سياسي عن تجمعات شبابية عشائرية، أبرزها بيان شباب بني حسن، الداعي إلى محاسبة الفاسدين وإقالة الحكومة ومراجعة نهج الخصخصة، توالت دعوات أخرى إلى حكومة إنقاذ وطني عاجلة. وتوالى النقد وحرق الإطارات ليل الجمعة وحتى مطلع الفجر، مع هتافات ضد نهج الحكومة الاقتصادي، وعصابة "الأربعين حرامي" التي يرى البعض أنها تحكم مصير البلد، بحسب بعض الهتافات.
وبما أن تدخل الملك بوقف قرار رفع أسعار المحروقات والكهرباء أسقط حجة الحكومة في السبب الموجب له، إلا أنّ الشارع لن يهدأ على المدى القريب. فلم تكد شمس الإضراب العام الذي عمّ الأردن، الأربعاء الماضي، والذي دعت له النقابات المهنية احتجاجاً على مشروع قانون الضريبة الجديد، والمرسل إلى مجلس النواب، تغيب، حتى خرجت حكومة الملقي على جمهورها بردة فعل غريبة، وقعتها بتوقيع لجنة تسعير المحروقات، والقاضية برفع أسعار المشتقات النفطية. وقالت الحكومة إن القرار "استجابة لمعادلة سعرية دورية"، وهذه حجتها التي ساقتها لكي يقبل الشعب بها. وبدا أنه لم يكن لدى الحكومة مراصد تقرأ المجتمع الناهض وتخبرها أن الغضب الشعبي ليل الجمعة كان يعتمل تحت رماد الإضراب الذي قادته النخب النقابية، والذي ذهبت لتشكك به، وتقول إنه مؤامرة من الخارج، وإن أموالاً تدفع وتعليقات يأتي معظمها من سورية.
وصار العبء على الحكومة أكبر، بعد قرار رفع الأسعار. فقبل ليل الجمعة، كانت الحكومة تخاطب وتفاوض نقباء بثوب ساسة. وبعد قرارها برفع سعر المحروقات، أضحت تخاطب كتلة غاضبة، تدحرجت حتى علا سقف هتافها إلى حدود خارقة. ويؤرق هذا المشهد الأجهزة الأمنية التي لا ترى في حساباتها الدقيقة أن رئيس الحكومة رجل فذ مهيأ لصد الغضب الشعبي أو مواجهة الجمهور، وهو في كل ظهور إعلامي وخطابي يبدو مرتبكاً وغاضباً أمام شعب مسّه الجوع ومهدد بسيف قانون الضريبة، الأمر الذي لا يبشر بخير آتٍ بالنسبة إلى السلطة، خصوصاً مع توالي تراجع الثقة بالحكومة وفشلها في أي حوار، فالملقي الذي خاطب الشباب في ليلة رمضانية عن العدالة وقانون الضريبة الجديد، فاجأه الشباب بالوعي الكبير والحدّة المماثلة.
ولاحقاً، ظهر حنق الملقي جلياً، الإثنين الماضي، حين دعا مجلس النقباء إلى لقاء قبيل الإضراب. وكان توتره وعناده سبباً في خروج ممثلي مجلس النقباء من الاجتماع. وهنا دخل وزير المالية، عمر ملحس، للدفاع عن عدم صحة الدعوة بسحب مشروع قانون الضريبة من مجلس النواب، معتبراً أن "سحب المشروع من بيت الشعب يعتبر نوعاً من أنواع الدكتاتورية". وسارع الوزير الأسبق والخبير القانوني أحمد المساعدة لتلقف الأمر والرد عليه بقوله "وفقاً للمجلس العالي لتفسير القوانين في قراره رقم 1/2001 تاريخ 28/8/2001، يحق لمجلس الوزراء استرداد مشروع القانون المحال إلى مجلس النواب في أي مرحلة من مراحل التشريع والمداولة، طالما أنه لم يجر التصديق عليه من قبل الملك، لأنه فقط في تلك المرحلة يتحول المشروع إلى قانون". لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد سبق الإضراب وقرار رفع المحروقات آراء صدرت عن رجال دولة يعدّون من بنية الحكم. وانتقد رئيسا وزراء سابقان، هما عبد الكريم الكباريتي وسمير الرفاعي، سياسات الحكومة المالية، وآثارها السلبية على الاقتصاد. كما أن هناك بيانات ورسائل مباشرة صدرت عن قادة متقاعدين، انتقدوا الملقي وفريقه الاقتصادي. وأرسلت 48 شخصية وطنية رسالة إلى الملك، تدعو فيها الحكومة للعودة عن خطئها ومعالجة الخلل بطرق أكثر حكمة.
وعلى الرغم من الإلغاء، بتدخُل الملك، إلا أن هذه الوضعية تعطي الجمهور في الشارع شعوراً بالنصر والقدرة على التأثير، في بلد تتدخل فيه المؤسسة الملكية، كلما ارتفع منسوب الغضب الشعبي، وتدحرجت كرته لتتجاوز الحكومة إلى الحكم. وهنا يمكن التحدث عن ثلاثة مصائر محتملة للوضع في الأردن، أولها أن ما حدث يوم الجمعة من عودة إلى التظاهر مجرد هبّة سياسية شعبية، تعيد إلى الأذهان هبّة إبريل/نيسان 1989، وما جرى بعدها من تحول وانفتاح سياسي، وبالتالي تنتهي الهبة بانقضاء سببها، خصوصاً في ظل عدم وجود رموز حراكية. والثاني بقاء الناس على غضبهم، مع دعم النقابات لهم، حتى تعود الحكومة عن مشروع قانون الضريبة. ومعنى هذا استمرار التأزيم، حتى رحيل الحكومة مبكراً ومعها مجلس النواب، والدعوة إلى حكومة انتقالية تُعدّ قانون انتخاب جديدا، يوافق رغبة الملك التي تحدّث عنها أخيراً. ويبقى الاحتمال الثالث، وهو بقاء الوضع على ما هو عليه، وتصاعد غضب الناس، مع عناد للحكومة التي تزداد أزماتها، خصوصاً مع ظهور قوائم متهربين ضريبياً. ومع الأخذ بالاعتبار اتساع رقعة معارضي الحكومة من النخب الثقيلة المحسوبة على "السيستم" (الأجهزة)، يدخل الأردن أزمة كبيرة، ويمضي إلى انفجار اجتماعي كبير، ما لم يتم الاستدراك، برحيل الحكومة فقط.