قدرات الكونغرس محدودة بعد "عفو" ترامب عن بن سلمان

22 نوفمبر 2018
لا قدرة كبيرة للكونغرس للتأثير على سياسات ترامب(فرانس برس)
+ الخط -


شمل "العفو" الرئاسي الأميركي، أول من أمس، بمناسبة عيد الشكر، كلاً من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والديك الرومي، "بيز"، اللذين نجيا من "مقصلة الذبح"، ولكن بارتدادات مختلفة، وبمفعولٍ قد يكون مؤقتاً. فما كان متوقعاً، ومتسّقاً مع الخط الذي سلكه ترامب في تعاطيه منذ بداية أزمة قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، لم يهبط فقط، في بيان الدعم لبن سلمان والمملكة، الهزيل والمُربك، والمهين بصياغته وعلامات التعجب التي احتواها، إلى مستوى لم تعهده الولايات المتحدة سابقاً، بل أسّس لنمطٍ من إدارة الملفات الدولية، تعاظم معه الإدراك لدى المنظومة السياسية الأميركية بأنه بات يحتاج إلى المساءلة. وعلى الفور، شككت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية بإمكانية صدور تقرير نهائي للاستخبارات الأميركية بشأن جريمة قتل الصحافي السعودي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، بعد البيان الصادر من البيت الأبيض مساء الثلاثاء. فترامب ناقض خلاصات تسربت عن التقرير، وتشير بأصابع الاتهام المباشر لبن سلمان بالوقوف خلف قرار ارتكاب الجريمة أو الدراية بها مسبقاً على الأقل. وتشكيك الصحيفة يحمل دلالات عدة، أهمها اشتداد حدة الصراع بين ترامب، وكل ما يمثله في الداخل الأميركي، وبين "الدولة العميقة".

أما الكونغرس، الذي ألقى الرئيس الأميركي عليه بمهمة التعاطي مع ملف جريمة قتل "انتهى" هو شخصياً منه، بإعلان موقفه النهائي، فيواجه تحديات متعددة الأضلع: كيفية معاقبة السعودية، وحفظ ماء الوجه في رفع لواء حقوق الإنسان، وحماية المؤسسات الأميركية من الدرك الذي أوصلها إليه ساكن البيت الأبيض، من جهة، والحفاظ على المصالح المشتركة التي لطالما حددت ورسمت العلاقات الأميركية - السعودية منذ عقود، الاقتصادية، والسياسية، فيما لا يزال الخطر الإيراني، والحفاظ على أمن إسرائيل، من ضمن الأولويات الثابتة.
ورأت الصحيفة، في تحليلٍ لها لموقف ترامب، أن الرئيس الأميركي لم يشأ في بيانه إظهار الدعم للنظام السعودي، المتمثل بمحمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة، بقدر ما أراد قطع الطريق أمام أي محاولة للكونغرس لفرض عقوبات "ذات ثقلٍ وقيمة" على السعودية. وسارع نواب وأعضاء في مجلس الشيوخ، ديمقراطيون بأغلبيتهم، وجمهوريون، إلى التنديد ببيان ترامب، مشددين بشكل خاص على خطر تقويض المجتمع الاستخباري الأميركي.

ولوّح كبير الديمقراطيين في اللجنة المالية في مجلس الشيوخ الأميركي، رون وايدن، بطرح مشروع قانون يجبر وكالة الاستخبارات المركزية على نشر تقييمها حول مقتل خاشقجي علناً، فيما طالبت العضو الديمقراطية في لجنة القوات المسلحة جين شاهين، الكونغرس، بإدانة قتل خاشقجي، بـ"إصرارٍ لا حزبي"، مشيرةً إلى أنها ستعمل على تمرير قانون للرد على الجريمة والجرائم السعودية الأخرى. ودعا عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب آدم كينزينغر، بصرخةٍ يائسة، الولايات المتحدة إلى "الثبات والثقة في استخباراتنا"، فيما اعتبرت الديمقراطية كارولين مالوني أن رفض ترامب القبول بتقييم "سي آي إيه" بأن بن سلمان هو من أمر بقتل خاشقجي، "خيانة للمجمع الاستخباري الأميركي". من جهته، طالب عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب بـ"الحصول على التفاصيل حول الجهة التي كتبت بيان ترامب"، بينما اعتبر بيرني ساندرز أن البيان ينثر الشك في تقييم الاستخبارات، مذكراً بمشروع القرار 54 الذي سيتم طرحه الأسبوع المقبل، مع عودة الكونغرس للعمل، من أجل إنهاء الدعم الأميركي للحرب على اليمن.


ولكن ما هي الآفاق المحتملة لأي تحرك ممكن في الكونغرس؟ مما أصبح معروفاً، فإن نتائج الانتخابات النصفية الأميركية، التي أفرزت مجلس نواب بغالبية ديمقراطية، ومجلس شيوخ لا يزال يسيطر عليه الجمهوريون، غير قادر على التأثير بشكل قوي على السياسة الخارجية التي سيعتمدها ترامب في ما تبقى من ولايته. وما يملكه الديمقراطيون في أيديهم، من دون تعاون الجمهوريين، هو العمل على خلق جو من المساءلة والنقاش حول السياسة الخارجية للإدارة الأميركية الحالية، من خلال فتح تحقيقات في أوجه مختلفة من هذه السياسة، ومنها العلاقة مع السعودية (والإمارات بطبيعة الحال)، بهدف إضعاف موقع ترامب في استحقاق 2020 الرئاسي. أما بالنسبة إلى مشاريع القوانين، التي ستأخذ طريقها إلى الكونغرس للتصويت عليها، فلا يزال الجمهوريون يقفون سداً منيعاً في وجه إقرار أي منها، ما يجعل أي معاقبة ملموسة للنظام السعودي صعبة المنال.

وكان الجمهوريون قد عرقلوا الأسبوع الماضي، في مناورةٍ مثيرة للجدل، فتح نقاش وعملية تصويت داخل مجلس النواب، لإنهاء المشاركة الأميركية في حرب اليمن، من خلال استغلال "قانون الذئاب الرمادية"، لوقف تمرير مشروع قانون النائب الديمقراطي رو كانا (H Res 138)، مضيفين صياغة وصفت بـ"الخبيثة"، تمنع المجلس من التصويت على ما إذا كان يجب توجيه ترامب لوقف الانخراط الأميركي في الحرب. وسيعيد النائبان الديمقراطيان بيرني ساندرز ومايك لي، الأسبوع المقبل، طرح مشروع قرارهما الذي يحمل الرقم 54، لإنهاء المشاركة الأميركية في الحرب، بعدما فشل التصويت عليه، في شباط/ فبراير الماضي، بحصوله على موافقة 44 مشرعاً فقط.

ويرى مدير مركز البحوث الاقتصادية والسياسية في واشنطن، مارك ويسبروت، في مقال نشره في صحيفة "الغارديان"، أن مشروع قرار ساندرز من المرجح جداً أن يمر في ظلّ تنامي الغضب داخل الكونغرس من السعودية، على خلفية قتل خاشقجي، والتورط المتزايد في الحرب اليمنية، لافتاً إلى أن إدارة ترامب تعلم ذلك، ولذلك فقد استبقت عرض القرار بالإعلان عن وقف إعادة إمداد المقاتلات السعودية والإماراتية التي تضرب اليمن بالوقود. وبرأي الكاتب، الذي كانت له مقالات عديدة منددة بالدور الأميركي في إحداث أسوأ أزمة إنسانية في العالم (اليمن)، فإن هذا القرار الذي أعلنه وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، لم يُنفذ بعد، و"بالتأكيد، فإن أي تعليق لإعادة الإمداد بالوقود لم يقرها الكونغرس، بإمكان الحكومة العودة عنه". وبحسب مصادر لويسبروت في الكونغرس، فإن ترامب قد يفعل شيئاً قبل تصويت مجلس الشيوخ، بهدف كسب أصوات مشرعين جمهوريين مترددين لصالحه، وضمان فشل التصويت على وقف الحرب. لكنه يرى أنه مع كونغرس جديد العام المقبل، فإن عملية معارضة حرب اليمن تشريعياً سوف تزداد زخماً.

وكان موقع "فوكس" قد كشف في بداية الشهر الحالي، عن مسودة قرار قدّمها النائب الديمقراطي براد شيرمان، لوقف الصفقة النووية بين واشنطن والرياض، معرباً عن اعتقاده أن الصفقة ستحظى بدعم مع أحداث إسطنبول. وفي شهر أكتوبر/ تشرين الأول، تقدّم أعضاء الكونغرس ليندسي غراهام وتود يونغ وروبرت مينينديز وتيد ليو وجيم ماكغفرن، باقتراحين تشريعيين يتعلقان بإعاقة تزويد السعودية بأنواع من الأسلحة. وقال السيناتور كريس مورفي تعليقاً على بيان ترامب، إنه سيدفع خلال الأسابيع المقبلة باتجاه التصويت على مشروع قرار قدّمه لإنهاء دعم الولايات المتحدة للحرب على اليمن. ويحرك السيناتوران بوب كوركر وروبرت مينينديز مجدداً قانون ماغنيتسكي، للضغط على الإدارة الأميركية تحديداً بشأن تورط بن سلمان.
ورأى الباحث في "معهد بيكر"، كريستيان أولريشسن، أن ما يقوله ترامب أو يريده، قد لا ينفع هذه المرة أبداً مع الكونغرس، إذ يتفق شخصان من نقيضين، كساندرز وغراهام، هذه الأيام، عندما يكون الكلام عن السعودية.

من جهته، يبدي الباحث في "معهد الشرق الأوسط" (Middle East Institute)، في واشنطن، توماس ليبمان، تشاؤمه من قدرة الكونغرس على التحرك لمعاقبة السعودية. ويقول ليبمان، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن "الكل في واشنطن يحاول أن يُظهر أنه غاضب من السعودية بسبب جريمة خاشقجي، لكنه في الحقيقة لا يعمل شيئاً، لأن العلاقة مهمة. أما الكونغرس فليس بإمكانه فعل الكثير: قد يرفض بعض صفقات بيع السلاح المقترحة، لكن ذلك يتطلب موافقة ثلثي الكونغرس ومجلس النواب، ولذلك فإن الأمر مستبعد. وقد يحاول وقف الدعم الأميركي لحرب اليمن، لكن ذلك مستبعد أن يحصل كذلك، لأن ترامب سوف يستخدم الفيتو عندئذٍ".

ويرى ليبمان أن "هناك فرصة ضئيلة بأن ينتج عن قضية خاشقجي أي تغيير جوهري في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية. ففي السنوات الـ75 من عمر العلاقة، اعتمد أحد الطرفين مرات سياسات أو تحركات أغضبت الجانب الآخر، الاعتراف بإسرائيل وحظر النفط وغزو العراق، لكن العلاقة تخطت ذلك، لأن البلدين يحتاجان لبعضهما، وهما اليوم لا يزالان كذلك، تضاف إليها علاقة شخصية اليوم لآل ترامب وآل سعود"، مضيفاً "لن يكون هناك أي خرق بسبب مصير رجل. لا أحد يصدق الروايات السعودية، لكن البعض في واشنطن سيدّعي أنه يصدق، لأن ذلك أسهل".

بدا خبر أول زيارةٍ خارجية لمحمد بن سلمان بعد أزمة جريمة خاشقجي، وتحديداً إلى قمة العشرين في الأرجنتين نهاية الشهر الحالي، وكأنه مزحة، أو نكتة سمجة. لكن مع بيان ترامب، تدخل الوقاحة الأميركية مرحلة "ما قبل أزمة خاشقجي، وما بعدها". القضية لم تغلق، فصولها لم تنته بعد، في الداخلين الأميركي والسعودي، إذ سيحل سفير أميركي جديد في الرياض هو جون أبي زيد لترتيب الفوضى والأولويات. الكرة التي في ملعب الكونغرس، قد تحصل على الزخم من الغضب المتنامي، ومعها صراع ترامب والدولة العميقة. منذ 11 سبتمبر/ أيلول 2001، هناك "قرف متزايد وغضب ترتفع حدته في الولايات المتحدة من السعودية"، يقول الباحثون في صناعة القرار الأميركي. لكن التغطية على التمادي السعودي، هي صناعة أميركية أيضاً. مع ذلك، يصر وزير الخارجية مايك بومبيو على أنه "عالم دنيء وشرير... في الخارج!".

المساهمون