ولا تعتبر هذه الفصائل الدموية نفسها معنية لا بالثورة السورية ولا بشعاراتها، لا بل إنّها ترى نفسها في موقع معادٍ لهذه الثورة ولأدبياتها ولروحها ولناسها، لجهة أنها هادفة أولاً وأخيراً إلى إرساء الديمقراطية والحرية والمساواة بين الفئات والقوميات والطوائف والأجناس كافة، في حين أن التنظيمات المذكورة صاحبة أجندات مختلفة تماماً، تختصر بإرساء ما تسميه "دولة إسلامية". ولا تندر الأدلة على معاداة هذه الفصائل القاعدية الدموية للثورة، إذ إنّ ضحاياها من أنصار الثورة، مدنيين كانوا أو مسلحين في فصائل "الجيش السوري الحرّ"، يمكن إحصاؤهم بالآلاف، لدرجة أنّ مجرّد رفع علم الثورة السورية في مناطق سيطرة هذه الجماعات، كان ولا يزال يعتبر جريمة يجوز فرض أقسى العقاب عليها.
ورغم أنّ ملف التنظيمات "الجهادية" في سورية أُشبِعَ، خلال السنوات القليلة الماضية، نقاشاً وتحليلاً، وسيبقى موضع بحثٍ في السنوات المقبلة، لكن التحليلات حيال تضخّم هذه التنظيمات في سورية، لا تتفق كلياً حول الأسباب كافة التي حَوّلت سورية إلى قبلة "الجهاديين" من حول العالم. وفيما يُبين مُطلعون على تفاصيل القضية السورية أنّ نظام بشار الأسد ساهم بتعزيز قوة "الجهاديين" في سورية، لتذويب قوى الثورة الشعبية الديمقراطية ضدّه، وتحويل هذه الثورة بنظر العالم إلى "إرهاب"، فالأكيد يبقى أنّ النظام فعلاً كان ولا يزال أكبر المستفيدين من تنامي قوتها.
ولم يقف الأمر عند تنظيم "القاعدة"، إذ شهدت سورية ولادة تنظيماتٍ جديدة، واندماج بعضها بأخرى، وتحوّل بعضها من اسم لآخر. كما شهدت خلافاتٍ حادة بين هذه التنظيمات، واقتتالاتٍ دموية في ما بينها، خصوصاً مع تعاظم قوة تنظيم "داعش" عام 2014، وحربه العسكرية، حتى داخل الأوساط "الجهادية"، من أجل أن يحظى بتمثيل "القاعدة" في سورية ضدّ "جبهة النصرة"، في شرق البلاد بشكل خاص. وهنا وقعت فصائل الجيش الحر وبقية التنظيمات السورية المعارضة غير "التكفيرية" في معضلة صعبة دفعت ثمنها غالياً. فهي من جهة لا تريد تشتيت قواها والدخول في معارك عسكرية مكلفة مع "تنظيمات القاعدة وأخواتها" سيكون النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون واللبنانيون والعراقيون أكبر المستفيدين منها. ومن ناحية ثانية كانت موازين القوى العسكرية غير مضمونة لمصلحة الفصائل المعارضة في حال دخلت فعلاً في "حرب أهلية" مع هذه التنظيمات المعروف عنها بأسها في القتال، نتيجة لأسباب عديدة، منها خبراتها القتالية الراسخة من أفغانستان والعراق والشيشان وغيرها، في مقابل وضع صعب عاشته فصائل المعارضة منذ الانهيار التنظيمي للجيش الحر وانقساماته وتشتته.
وفيما تحوّل تنظيم "داعش" الذي أطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وغيّره لاحقاً إلى "الدولة الإسلامية"، من مجموعاتٍ صغيرة تنتشر في شمال وشرق، وشمال غرب، وجنوب ووسط سورية، إلى أقوى هذه التنظيمات سنة 2014، مع بسط سيطرته على محافظة الرقة وأجزاء واسعة من دير الزور، وريف حمص الشرقي، وريف حلب الشرقي، وغير ذلك، فقد أخذ نفوذ هذا التنظيم لاحقاً بالتراجع شيئاَ فشيئاً، حتى لم يعد لهُ نفوذٌ يذكر في سورية الآن، إذ يقتصر وجود فلوله اليوم في بعض مناطق البادية، غرب الفرات، ونقاط قليلة بمحيط بلدة هجين، شرق نهر الفرات، بريف دير الزور الجنوبي الشرقي.
ومع إعادة بسط النظام لنفوذه جنوب سورية، ومحيط دمشق، وشمال حمص وجنوب حماة، بقيت محافظة إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية المتصلة بها، تحت سيطرة المعارضة السورية، وفي الوقت نفسه معقلاً للتنظيمات الراديكالية المختلفة، التي تموضعت في شمال غرب سورية منذ سنوات.
وجاء اتفاق "سوتشي" الأخير الذي تمّ التوصّل إليه في السابع عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، ليقرّر إنشاء "منطقة منزوعة السلاح"، بمحيط إدلب، تكون خالية من المجموعات المتطرفة كافة، على أن تتعامل تركيا مع هذه المجموعات، وتنهي نشاطها في آخر معاقلها في سورية. وفي غضون ذلك، قفزت أسماء التنظيمات المحسوبة على "القاعدة" من جديد إلى صدارة أي تناول للحدث السوري، ذلك أنها تمكّنت من بناء قاعدة عسكرية كبيرة لها في المنطقة التي يفترض أن تنظّم أحوالها اتفاقية إدلب، بين ريف اللاذقية الشمالي وريف حماة الجنوبي وبعض مناطق ريف حلب، وصولاً إلى كامل محافظة إدلب. لكن الأهم اليوم يبقى معرفة ماذا سيحلّ بهذه التنظيمات، بسلاحها وعتادها ومقاتليها، على ضوء ما يعنيه اتفاق إدلب من استعادة تدريجية لسيطرة النظام والروس على الشمال السوري بعد القضاء التدريجي أيضاً على هذه الفصائل المحسوبة مباشرة أو غير مباشرة على "نهج" تنظيم "القاعدة". فهل يقرر مقاتلو هذه التنظيمات المحاربة حتى النهاية؟ هل يعلنون الحرب على تركيا والفصائل المعارضة التي تدعمها أنقرة؟ هل تنتهي رحلتهم السورية ويعود أجانبهم إلى بلادهم الأصلية وتذوب البقية منهم في المجتمع السوري في إطار تسوية شاملة لا بد لها أن تجد حلاً لكل من تورط في جرائم حرب من النظام وأجانبه وصولاً إلى القوى التي كانت تحاربه بغض النظر عن خلفياتها؟ أسئلة تبدو اليوم داهمة بعد انتهاء المرحلة الأولى من تنفيذ اتفاق إدلب في العاشر من الشهر الحالي، والتي نصت على إخراج السلاح الثقيل من المنطقة العازلة التي تقرر إنشاؤها في مناطق التماس بين النظام والفصائل المسلحة بين ريفي إدلب وحماة، وهي المرحلة الأسهل نظرياً، ذلك أن الأصعب يبقى المرحلة الثانية، التي يفترض أن تنجز في الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مع إخراج كافة مسلحي "التنظيمات الإرهابية" من هذه المنطقة العازلة، ليعود السؤال نفسه ويطرح: إلى أين سيذهب مسلحو تنظيمات "القاعدة" وأخواتها، خصوصاً غير السوريين منهم؟ سؤال ربما يفكر الروس منذ الآن بأجوبة جاهزة عنه، ربما لتبرير الانقضاض مجدداً عسكرياً على المنطقة، مع إشارة نائب وزير الخارجية الروسي أوليغ سيرومولوتوف قبل يومين، إلى أن "واحدة من أصعب المهمات الحالية هي قطع الطريق أمام عودة الإرهابيين من الشرق الأوسط، خصوصاً سورية والعراق". ولم يكشف المسؤول الروسي عن معطيات حين حذر من أن "الإرهابيين يتجهون إلى أوروبا ويدخلون لاحقاً إلى روسيا عن طريق أوكرانيا وبيلاروسيا". وادعى أن لدى موسكو معلومات عن أن "هناك محاولات لنقل الإرهابيين من إدلب إلى العراق"، مؤكداً اعتراض السلطات العراقية لهذه المحاولات.
وتعتبر "هيئة تحرير الشام" التي تشكّل "جبهة النصرة" أساسها، أكبر هذه التنظيمات نفوذاً، من حيث عدد المقاتلين والتسليح، بالإضافة لتنظيمات أخرى ولدت جرّاء انقسام آراء قياداتها حيال النشاط "الجهادي" ونهجه، كـ"حراس الدين". كما أنّ تنظيم "الحزب التركستاني" يعتبر أحد أبرز آخر التنظيمات الراديكالية في شمال غرب سورية بقياداته وعناصره الصينيين بشكل أساسي. وقد دفع الكثير من أبناء الشعب السوري ثمن رغبة هؤلاء بتصفية حساباتهم مع الصين التي تضطهد مسلميها تاريخياً، فقرروا الانتقام من بكين في حقول وأزقة إدلب. هذا بالإضافة لمجموعات صغيرة أخرى كـ"أنصار الدين" التي كانت جسماً مستقلاً قبل سنوات، قبل أن تنقسم بين رافضٍ ومبايعٍ، مع تحوّلات "النصرة" لـ"فتح الشام" ثمّ "هيئة تحرير الشام".