12 يناير... يوم انقلب الجيش الجزائري على المسار الديمقراطي

13 يناير 2018
كانت الساحة السياسية تضمّ معسكرين لا ثالث لهما (Getty)
+ الخط -
بعد 26 سنة من انقلاب الجيش على الإسلاميين، لا تزال آثار ذلك الانقلاب ماثلة في الجزائر، برغم جهود المصالحة السياسية والقانونية التي بذلت لمعالجة كافة الآثار المترتبة على دوامة العنف والإرهاب وسنوات الدم التي شهدتها الجزائر بعد عام 1992، حتى إقرار قانون الوئام المدني في نهاية عام 1999، الذي أتاح للآلاف من المسلحين تسليم أسلحتهم والعودة إلى أحضان المجتمع، وتلاه قانون المصالحة الوطنية عام 2005، الذي أوجد معالجات قانونية لبعض الملفات العالقة من الأزمة.

في 11 يناير/ كانون الثاني عام 1992، تسمّر الجزائريون مساءً أمام شاشات التلفاز في انتظار نشرة الأخبار الرئيسية وبيان قيل إنه حاسم ومصيري. لم يكن بعلم كثر أن أحداثاً وقرارات عصيبة اتخذت في دهاليز المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات الذي كان يهيمن على مفاصل الدولة ويراقب تطورات المشهد السياسي. في تلك الليلة، أعلن الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، تحت ضغط جنرالات الجيش يتقدمهم وزير الدفاع السابق خالد نزار، استقالته من منصبه، لتدخل البلاد في حالة فراغ دستوري، خصوصاً أنّ الشاذلي كان قد حلّ البرلمان في الرابع من يناير، بعد أسبوع من إجراء الدورة الأولى من أول انتخابات برلمانية تعددية تشهدها الجزائر في تاريخها في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991، وقبل أسبوع من استقالته، ما يعني أن رئيس البرلمان المنحلّ حينها عبدالعزيز بلخادم، لم يكن في وضع دستوري يتيح له خلافة الشاذلي لفترة انتقالية، كما ينصّ الدستور.


عُدَّ هذا الفراغ الدستوري بمثابة الوضع المثالي الذي خطّط له جنرالات الجيش، لاختلاق حالة أزمة توفّر المبررات الكافية لإلغاء إجراء الدورة الثانية من الانتخابات البرلمانية، بعدما كانت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" قد حسمت أغلب مقاعد البرلمان لصالحها في الدورة الأولى، وألحقت شرّ هزيمة بحزب "جبهة التحرير الوطني"، الذي كان يمثّل الجهاز السياسي للدولة والجيش. وهي النتيجة التي لم تكن متوقعة بالنسبة لدوائر السلطة، وكان يتوجّب بالنسبة لجنرالات الجيش، اللحاق بالتطورات قبل أن يسيطر الإسلاميون على السلطة في مستواها التشريعي، خصوصاً أن "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" كانت قد أنجزت قبل ذلك في يونيو/ حزيران 1990 انتصاراً ساحقاً في الانتخابات البلدية، وحاولت تغيير الشعار الرسمي من "من الشعب وإلى الشعب" إلى "بلدية إسلامية".

كان هذا السلوك، إضافة إلى احتلال الإسلاميين للجامعات والشوارع وبوادر التمرّد السياسي الكامن لديهم، خطاباً وممارسةً، ضد السلطة والجنرالات من قبل قياداتهم، كافياً بالنسبة لجنرالات الجيش للتخطيط للانقلاب وتوقيف هذا المسار، لكنهم كانوا بحاجة إلى وجوه سياسية مدنية توفّر الغطاء السياسي وتبرر، بالنسبة للرأي العام في الداخل والخارج بشكل خاص، توقيف المسار الانتخابي والتجربة الديمقراطية الفتية.

تروي الصحافية حدة حزام، التي كانت تعمل في صحيفة "المساء" الحكومية حينها، وتدير حالياً صحيفة "الفجر" المستقلة، تفاصيل ذلك اليوم. تقول: "كنت عائدة إلى البيت من عملي في صحيفة المساء وقلبي مقبوض بسبب الأخبار التي راجت طوال اليوم في العمل، والتي تقول إن الرئيس الشاذلي بن جديد استقال. وما لبث أن أكدت الإذاعة الخبر"، وتضيف "مساءً جاءت الأخبار مرعبة في نشرة الثامنة في التلفزيون، سارت الأمور في غموض حتى تمّ تعيين أعضاء المجلس الأعلى للدولة، لخلافة الرئيس بن جديد، وعلى رأسه محمد بوضياف في 16 يناير، وألقى خطابه الذي كان مطمئناً، لكنه لم يكن استوعب عمق الأزمة".

لم يكن انقلاب الجيش وإزاحة بن جديد الحلّ الوحيد في تلك الفترة، إذ كانت هناك خيارات أخرى يمكن اللجوء إليها، بحسب ما يعتقده الزعيم السياسي المعارض حسين آيت أحمد، والذي كان يرفع شعار "لا لدولة الأصولية ولا للدولة البوليسية". ويؤكد آيت أحمد في حوارات تلت الانقلاب، أنّ الموقف كان يستدعي معالجة دستورية ممكنة من خلال ترك الفرصة للرئيس بن جديد لمواصلة المسار والتفاهم السياسي مع قيادة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" - التي حظرت لاحقاً في مارس/ آذار 1992 - أو تشكيل البرلمان الجديد ثمّ حلّه لاحقاً باستخدام صلاحياته الدستورية، وخصوصاً أنّ النتائج الوخيمة والكلفة البشرية التي دفعتها الجزائر كانت قاسية جداً، والتي بلغت 120 ألف قتيل، بحسب تقديرات رسمية و200 ألف بحسب تقديرات غير رسمية، و7400 مفقود، وأكثر من 30 ألف معتقل نقلوا إلى سجون أقيمت في مناطق مشبعة بإشعاعات نووية من مخلفات التجارب النووية الفرنسية في الصحراء، ناهيك عن تقديرات بخسائر اقتصادية فاقت الـ50 مليار دولار، وتخريب 40 ألف مؤسسة اقتصادية، وخسارة 400 ألف عامل لمناصبهم، عدا عن عشرات النساء المغتصبات وتمزّق اجتماعي عميق.


من جانبه، يعتقد الكاتب معمّر فارح، الذي كان من مؤيدي الانقلاب حينها، أنّ الساحة السياسية كانت تضمّ حينها "معسكرين لا ثالث لهما، معسكر الذين أرادوا رؤية قيام دولة إسلاموية، ومعسكر الذين يشعرون بأن الجيش أحسن صنعاً بالتدخل لحماية النظام الجمهوري، رغم ما شاب ذلك التدخل من نقائص. ليس هناك خيار ثالث". ويكشف فارح، الذي كان يعمل وقتها صحافياً في صحيفة "لوسوار دالجيري"، عن ترتيبات سياسية وأمنية تشبه تلك التي تشهدها مصر في الوقت الحالي، في علاقة بين الإعلام وجنرالات الجيش عشية الانقلاب لتبريره. ويقول إن مدير عام الصحيفة استدعي لحضور اجتماع مع وزير الإعلام حينها أبوبكر بلقايد، والذي اغتيل لاحقاً. ويوضح "حضر المدير ذلك الاجتماع الذي عُقد لمعرفة آراء إدارات الصحف حول التوقيف الوشيك للمسار الانتخابي. وعند عودته، اتصل بنا قائلاً إن: التقديرات تشير إلى سقوط 30 ألف قتيل. كان الجميع يعلم تقريباً، بأن عدداً كبيراً من الجزائريين سوف يموتون، لكنهم كانوا بعيدين عن الرقم، فالحديث اليوم هو عن 200 ألف ضحية. وليس غريباً القول إنّ تلك المرحلة لم تكن خالية من الأخطاء والانتهاكات، ولا سيما الإعدامات العشوائية وعمليات التعذيب وغيرها".

بدوره، يرى الإعلامي سليم صالحي أن تلك الفترة التي كانت بداية للجحيم الجزائري، "يجب أن يعاد فحصها وإبقائها كمحطة". ويضيف "يجب أن نذكّر جيل الشباب بأنه في مثل هذا اليوم من عام 1992، قررت عُصبة متهورة ونافذة في الحكم مُمارسة الوصاية على الشعب الجزائري، فانقلبت على إرادته، وأوقفت المسار الديمقراطي في البلاد، وأجبرت الرئيس الشرعي الشاذلي بن جديد على الاستقالة من منصبه، وأدخلت البلاد في دوامة حرب أهلية، دفع ثمنها الشعب وقواهُ الأمنية والعسكرية غالياً". ويتابع "يجب أن نُذكر جيل الشباب بأن كلّ المآسي التي يعيشها الآن، هي نتيجة طبيعية لانقلاب 1992، وأن عليه أن يناضل من أجل أن لا يعيش تلك التجربة القاسية مرة أخرى".


ومع حلول ذكرى انقلاب الجيش وتوقيف المسار الديمقراطي، تعود  المطالبات بكشف ملابسات ما حدث في تلك الفترة، وكيفية تخطيط الجنرالات لتنفيذ الانقلاب والسيطرة على مقاليد الحكم مجدداً، رغم وجود مخاطر دامية، وإمكانية حلّ الأزمات في تلك الفترة بالحوار. ويعتقد الناشط السياسي السابق في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" عبد الله بن نعوم، أن "محاسبة الانقلابيين وعلى رأسهم قائد الجيش حينها الجنرال خالد نزار، ستبقى مطلباً لكشف الحقيقة، ومحاسبة المتورطين في ما تلى ذلك من مأزق دام قاد البلاد إلى أسوأ مراحلها".

غير أنّ الكاتب نصر الدين بن حديد، يضع تطورات تلك المرحلة في سياقها التاريخي، ويرى أنّ "المؤسسة العسكرية لم تكن وحدها المسؤولة عن التطورات الدامية التي انزلقت إليها البلاد". ويضيف "يجب محاسبة الجميع. الكل مسؤول إذا أجرينا محاكمة تاريخية، وخصوصاً على صعيد المسؤولية الأخلاقية، بين الشريك بالفعل والشريك بالصمت والشريك بالغباء".

وبعد ربع قرن على الانقلاب الدموي في الجزائر، وتحوّل البلاد أسيرة للعشرية السوداء التي دمّرتها، تبقى الكثير من أسرار الانقلاب غامضة، ذلك لأن قانون المصالحة الوطنية الصادر عام 2005، لم يعالج كل شيء.