أكثر من أربعين دقيقة خصصها ترامب للتهديد بتغيير الأنظمة، وللمجاهرة بعدم الاكتراث بالحلفاء ولا بـ"المجتمع الدولي" بل حصراً بمصلحة المواطن الأميركي. 40 دقيقة من دون أن يذكر، ولو لمرة واحدة كلمة فلسطين، في سابقة تاريخية بالنسبة للرؤساء الأميركيين، على الأقل منذ عقود. وفي هذا السياق ربما أمكن للضحكة العريضة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والتصفيق الحماسي الذي أدّاه بعدما أنهى ترامب كلمته، أن يفسّرا كثيراً من الغبطة الإسرائيلية لتحريض ضد إيران، ولتجاهل الاحتلال ووجود قضية فلسطينية ربما في قاموس ترامب، وهو ما عبّر عنه نتنياهو لاحقاً حينما أثنى على الخطاب قائلًا: "منذ أكثر من 30 عاماً لي في الأمم المتحدة، لم أسمع أبداً خطاباً بهذه الشجاعة والوضوح. الرئيس ترامب قال الحقيقة حول الأخطار الكامنة في العالم، ودعا إلى معالجتها بصرامة، لضمان مستقبل الإنسانية".
لقد كانت كلمة ترامب، اليوم الثلاثاء، نقيضاً كاملاً للكلمات التي عرفتها أميركا في سنوات رئاسة باراك أوباما، فحدّد فيها محور شر جديداً في العالم، قوامه كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا "الشيوعية"، والتي نالت من الرئيس الأميركي مجموعة ملاحظات "مكارثية" تعود إلى أدبيات الحرب الباردة وزمن القطبين. هكذا، غابت عناوين فلسطين والاحتلال والتغير المناخي، لتحضر التهديدات بإزالة كوريا الشمالية من الوجود كما قال، ولضرورة تغيير النظامين الإيراني والفنزويلي. حتى الرئيس جورج بوش الابن لم يستخدم ما نطق به ترامب اليوم ضد إيران، فوصف نظامها بـ"المجرم والمارق والقاتل والممول للإرهاب"، ممهداً الطريق ربما لقرار قد يصدره في 15 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حين يبلغ الكونغرس الأميركي ما إذا كانت طهران قد التزمت ببنود الاتفاق النووي (2015)، أم أنها لم تلتزم، وبالتالي وجب سحب توقيع الولايات المتحدة على الاتفاق الذي وصفه الرئيس الأميركي، مجدداً، بأنه "من أسوأ الاتفاقات التي توقّع عليها أميركا على الإطلاق"، و"الاتفاق المحرج" بالنسبة لواشنطن.
وقبل التفرغ للتهديد وللوعيد، أعلن ترامب العودة بالزمن إلى ما قبل تأسيس الأمم المتحدة وإرساء النظام العالمي الجديد ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما قال إن "أساس النظام العالمي يجب أن يكون دولاً مستقلة وقوية". وبحسب كلمته التي دامت لأربعين دقيقة، فإن المصلحة الأميركية ستبقى فوق العالم، ما دام رئيساً للولايات المتحدة، وهو الذي خصص دقائق طويلة من خطابه للحديث عن "كم أن أميركا قوية"، فأسهب في تعداد عناصر قوة بلده عسكرياً وفي أسواق المال وفي انخفاض مستويات البطالة وازدياد فرص العمل في عهده.
واعتبر ترامب أن الإرهاب والتطرف "جمعا قوتهما ونشراها في مختلف أنحاء العالم"، وخلص إلى أن أميركا لا تسعى إلى فرض أي نمط حياة على أي طرف. وتعهّد بإبقاء شعار "أميركا أولاً" ما دام رئيساً للولايات المتحدة، قبل أن يخبر الحاضرين أن "المواطنين الأميركيين دفعوا أثماناً باهظة من أجل حريات شعوب العالم من دون أن نسعى إلى أي توسع أو إلى فرض طريقة حياتنا على الآخرين"، على حدّ تعبيره.
وتساءل ترامب: "هل لدينا ما يكفي من القوة لمواجهة المخاطر التي تتهددنا"؟ وأجاب بنفسه عن تساؤله، فجزم بأن "علينا أن نكون أقوياء من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، وعلينا أن نعمل معاً ضد كل من يهددنا بالفوضى والإرهاب". واعتبر أنه "إذا ما لم نواجه من يهددوننا اليوم فسينتشر الشر في العالم، مثل النظام البائس في كوريا الشمالية المسؤول عن المجاعة والسجن والإبادة"، على ذمة الرئيس الأميركي. وأشار إلى أن كوريا الشمالية "تهدد العالم كله وهو ما لا نقبله، لدينا صبر لكن لن نتردد في حال تعرضنا للخطر، بتدمير كوريا الشمالية بالكامل في حال كان ذلك ضرورياً، وآن الأوان لكوريا الشمالية أن تدرك أن إزالة سلاحها النووي هو الحل الوحيد المقبول".
واعتبر ترامب أن العالم "لا يواجه هذا الخطر فقط من كوريا الشمالية، بل أيضاً من النظام الإيراني الذي وصفه بالديكتاتورية الفاسدة التي تدّعي زوراً أنها ديمقراطية، وقد تحوّلت إلى دولة مارقة تستخدم العنف وسفك الدماء والفوضى، وأكثر ضحايا حكومة إيران هم شعبها الإيراني، وهي تستغل مواردها المالية من أجل تمويل تنظيمات مثل حزب الله (اللبناني) وديكتاتورية بشار الأسد وفي اليمن".
وتابع ترامب: "لا يمكن أن نسمح لنظام إجرامي بأن يخل بالاستقرار ولا نوافق على أي اتفاق قد يكون تغطية على برنامج نووي خطير"، في إشارة إلى الاتفاق النووي (2015) الذي كررّ توصيفه الشهير له على اعتبار أنه "من أسوأ الصفقات التي دخلتها أميركا في التاريخ وهو مصدر إحراج للولايات المتحدة".
وبدا ترامب وكأنه يهدد إيران عندما لفت إلى أن "القوة العسكرية الأميركية هي ما يخشاها النظام الإيراني الذي لا يمكن أن يدوم إلى الأبد وسيأتي يوم يواجهه فيه الشعب". وانتقل ترامب إلى عدوه الذي يسمّيه "الإرهاب الإسلامي المتطرف الذي لا يمكن أن نسمح له بتمزيق العالم برمته، وعلينا أن نمنع خطته الشريرة وأن نطردهم من بلادنا وأن نحاسب الدول التي تموّل وتدعم الإرهاب".
ثم عرّج ترامب على الملف السوري، وتحديداً على "إجرام نظام بشار الأسد واستخدامه السلاح الكيميائي الذي هزّ ضمير كل شريف، لذلك ضربنا القاعدة الجوية التي استخدمت لقصف الكيميائي"، في إشارة إلى القصف "الرمزي" لمطار الشعيرات في ريف حمص.
وأعرب ترامب عن تقديره أدوار الأمم المتحدة في دعم تركيا ولبنان والأردن في استضافة اللاجئين، وكشف أن أميركا تدعم "إعادة توطين اللاجئين في أقرب مكان من بلدانهم وإعادة الباقين لإعادة إعمار بلدهم سورية، لأن الهجرة غير المسيطر عليها سلبية على الدول المستقبلة وعلى الدولة الأم".
ثم انتقل ترامب إلى مهاجمة الحكومة الفنزويلية، ليعلن أن هدف أميركا هو مساعدة الشعب الفنزويلي على ما سمّاه "استعادة الديمقراطية وإدانة النظام الفنزويلي"، قبل أن يدعو الدول الأميركية اللاتينية الشريكة للولايات المتحدة لكي "تكون جاهزة"، في إشارة ربما إلى العقوبات الأميركية الاقتصادية ضد فنزويلا. واعتبر أن المشكلة في فنزويلا لا تكمن في تطبيق سيئ للاشتراكية، بل في التطبيق الحرفي للشيوعية وللاشتراكية، "وكل من يدعو إلى هذه الأفكار والأيديولوجيا الشيوعية والاشتراكية يدعو إلى قمع الشعوب"، ليختم ترامب خطابه المطول بكلام "مكارثي" ذكّر مستمعيه بحقبة الحرب الباردة، بعدما أعادهم مراراً إلى زمن ما قبل تأسيس الأمم المتحدة.
وقبل أن يُدلي ترامب بخطابه الذي تضمّن سيلاً من التهديدات المباشرة وغير المباشرة، كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، قد حدّد عددًا من أكبر المخاطر التي تهدد الاستقرار والسلم في العالم، وعلى رأسها التهديد باستخدام الأسلحة النووية والإرهاب والصراعات المستمرة.
وفي كلمة له خلال افتتاح الدورة الـ72 للجمعية العامة للمنظمة الدولية، قال غوتيريس إن "العالم يواجه تحديات خطيرة، والغضب يُسيطر على الناس وهم يرون أن انعدام الأمن وعدم المساواة وانتشار الصراعات وتغيّر المناخ آخذ في الازدياد، وإحساسنا بالمجتمع العالمي قد يتفكك".
وحذّر، أمام رؤساء الدول والحكومات المشاركين، من "تنامي القلق العالمي بشأن الأسلحة النووية بمعدلات هي الأعلى منذ نهاية الحرب الباردة (1947-1991)، إذ يعيش الملايين تحت ظلال من الرهبة بسبب التجارب النووية والصاروخية الاستفزازية لكوريا الشمالية".