تشرذم الأحزاب الفرنسية يجعل ميلانشون المعارض الرئيسي لماكرون

18 يوليو 2017
ميلانشون خلال تظاهرة ضد قانون العمل (برتران غاي/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو حزب "الجمهوريون" الفرنسي حزب المعارضة الرئيسي لحكومة إدوار فيليب لجهة عدد نوابه، لكن الواقع ليس كذلك، إذ استطاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يفكك هذا الحزب ويزرع فيه عبوات ناسفة قد تنفجر في أية لحظة، ليصبح عاجزاً عن الفعل والحركة. عاجز حتى عن تسريح أو "طرد" نوابه "الخائنين"، والذين أعلنوا خروجهم عنه بشكل واضح، وبعضهم أعضاء نافذون في الحكومة الفرنسية.

يستطيع زعيم المجموعة البرلمانية لـ"الجمهوريون"، كريستيان جاكوب، أن يعلن أنه موجود لوقف كل انحراف لماكرون نحو التسلط وإهانة المعارضة، ولكنه لا يفعل شيئاً أو لا يستطيع فعل شيء. وليس الأمر سهلاً على هذه القوة السياسية التي كانت مرشحة لحكم فرنسا، قبل أشهر فقط، لولا تسريبات صحيفة "لوكنار أونشينيه" التي طاولت مرشح الحزب للرئاسة فرانسوا فيون، وما ترتَّب عنها، ما أصبح يُطلق عليه الآن "فضائح بينيلوبي".
فالخلاف لم يعد مقتصراً بين "الجمهوريون" ومجموعة قررت دعم رئيس الحكومة الخارج من رحمها، والعمل بشكل إيجابي وبنّاء مع ماكرون، واضطرت لتشكيل مجموعتها البرلمانية الخاصة بها حتى يكون لها الوزن السياسي الذي تستحقه، بل تعداه إلى ما تبقى من أعضاء الحزب، والذين لم يعودوا على قلب رجل واحد. فلا يبدو أن شيئاً يجمع سياسياً وأيديولوجياً، بين أعضاء الحزب الداعين للمواجهة مع سياسات ماكرون والتقارب مع حزب "الجبهة الوطنية"، وبين آخرين يتبعون سياسة "نقول لماكرون أخطأتَ حين يخطئ وأصبتَ حين يصيب"، ثم بين هؤلاء جميعاً وبين رئيس الحكومة الأسبق جان بيار رافاران، والذي كان ينتقد المرشح ماكرون لحداثة سنّه، فإذا به يتحول إلى حامل رسائله إلى القيادة الصينية. كما أن الانتخابات القريبة التي سينظّمها الحزب اليميني لتجديد قيادته، والتي قد يخرج منها التيار المتطرف فائزاً، قد تعصف بما تبقى من وحدة هذا الحزب، ويصبح حينها في وضعية الحزب الاشتراكي نفسها.

أمام هذا الواقع، يبدو أن لا معارضة قوية لماكرون ورئيس حكومته. فمجموعة فرانسوا بايرو، "موديم"، هي من داخل الأغلبية الرئاسية، والحزب مُمثَّل في الحكومة، على الرغم من استقالة ثلاثة من قيادييه من الحكومة بسبب تحقيقات قضائية.
والحزب الثاني الذي كان يُفترض أن يعارض الحكومة هو "الاتحاد الديمقراطي المستقل"، المتحالف مع "الجمهوريون"، لكن سياساته المتقلبة جعلته يتحالف مع النواب اليمينيين الذين يناصرون الحكومة، ويصف رئيسه جان كريستوف لاغارد هذا التحالف بأنه "بنّاء لحركة كبيرة في الوسط واليمين التقدمي"، واضعاً نفسه في تناقض مع تيارين آخرين في اليمين، وهما تيار يمين ينحرف أكثر إلى اليمين ولا يحقق سوى الهزائم منذ 2010، ثم التيار الثاني، المناصر ليمين أكثر تقليدية وأكثر شيراكية (نسبة إلى جاك شيراك).

أما الحزب الاشتراكي الفرنسي، فيوجد في وضعية غير مسبوقة، ليس فقط بسبب عدد النواب القليل، نحو ثلاثين نائباً، بل أيضاً لأنه لا يوجد ربّان حقيقي في السفينة، وهي في حالة غرق دائم، ولدى أدنى نقاش برلماني. فعلى الرغم من انتخاب أوليفيه فور، رئيساً للمجموعة البرلمانية، إلا أنّها انقسمت عند التصويت على منح الثقة لرئيس الحكومة بين مؤيّد ومعارض وممتنع عن التصويت. هذه الاختلافات مرشحة للتفاقم، كما أن المجموعة البرلمانية والحزب، والذي لا أمين عاماً له حتى الآن، مرشحان للانفجار.

يمكن تلمّس المعارضة في الحزب الشيوعي، والذي فاز بأحد عشر نائباً برلمانياً، ولكنه اضطر لتشكيل مجموعته البرلمانية بالتحالف مع خمسة نواب يساريين من الجُزر الفرنسية، وعليه في مواقفه أن يراعي وضعيته الهشة.
هذه المعارضة للحكومة يمكن إيجادها بشكل أكثر قوة لدى مجموعة "فرنسا غير الخاضعة" التي يقودها شخص كاريزمي، هو جان لوك ميلانشون، والذي لا يتوانى عن الدعوة إلى "العصيان المدني"، والذي يفرض نفسه "حين يتوقف القانون أن يكون شرعياً". ولا تكمن قوة ميلانشون فقط في خطابيته والكاريزما التي يتمتع بها، بل كذلك لأنه ورفاقه يعرفون استغلال الرموز والمناسبات. فأي قوة تعادل رفض ميلانشون دعوة ماكرون لاجتماع مجلسي الشيوخ والنواب في قصر فيرساي لتكريس نفسه في وضعية تشبه الملك، واختيار ميلانشون مع مجموعته البرلمانية، بصحبة آلاف من أنصاره، ساحة الجمهورية في باريس للتظاهر والتنديد بـ"انحراف" ماكرون السلطوي، والمطالبة بانبثاق الجمهورية السادسة.


لا يراهن ميلانشون وحركته السياسية ونوابها في البرلمان على الرموز فقط، بل إن المواجهة بدأت حول قانون العمل الجديد، والذي يريد الرئيس الفرنسي وحكومته التعجيل بفرضه على النقابات. وقد كانت تظاهرة الأربعاء الماضي ضد هذا القانون، دليلاً على أن ماكرون، والذي لم يَعد اليمين التقليدي يقلقه، وفي ظل غياب لليمين المتطرف العاجز عن تكوين مجموعة برلمانية، سيجد في ميلانشون مصدر إزعاج مستمراً. هذه المواجهة الآن تنذر بمواجهات صاخبة ستعرفها الساحة السياسية والاجتماعية في سبتمبر/ أيلول، كذلك بما سيأتي من معارك أخرى.

وليس خافياً على أحد أن المجموعة البرلمانية لحركة "فرنسا غير الخاضعة" هي المجموعة البرلمانية الوحيدة التي تتمتع بانسجام قوي وظاهر، خلافاً لكل لمجموعات الأخرى التي تخترقها صراعات بادية للعيان. وخلافاً لكل الذين يتوقعون أنه سيكون من الصعب على نواب مجموعة ميلانشون أن يوجدوا مع قائدهم، فقد أثبتت النقاشات البرلمانية التي جرت حتى اليوم أن كثيراً منهم بدأ يطلّ ويخرج من قبضته، كما هو حال أدريان كاتينونس، وطبعاً برضى القائد وتشجيعه، لأن حركة "فرنسا غير الخاضعة"، مؤهلة للديمومة، كما يقول ميلانشون، وصاحبها في الخامسة والستين من عمره، وهي محتاجة كما فرنسا في عهد ماكرون، لجيل شاب جديد.

وغالباً ما يُنظر إلى نائبين اثنين باعتبارهما عصيَيْن على الترويض، وهما كليمونتين أوتان، المتحدثة باسم حركة "معا"، أحد مكوّنات جبهة اليسار، ومؤسس ومدير تحرير صحيفة "فكير" المخرج الشاب فرانسوا روفان. ولكن مواقف هذين النائبين لا تختلف في كثير عن مواقف حركة "فرنسا غير الخاضعة"، وقد أثبتتها تدخّلات روفان قبل أيام، حول قانون العمل الجديد الذي تستعد الحكومة الفرنسية للإعلان عنه. في حين أن كليمونتين أوتان، والتي غالباً ما تثير مواقفها الحازمة في فرنسا ضد كل أشكال العنصرية وضد الغطرسة الإسرائيلية، الجدل، ومن بينها اتهامات لها من قبل رئيس الحكومة الأسبق مانويل فالس، بعقد صفقات مع حركة "الإخوان المسلمين"، فتؤكد أن مواقفها معروفة من الجميع، في رسالة إلى كل من يتنبأ بصدام بينها وبين ميلانشون.

لا أحد إذاً يحتل منصب زعيم المعارضة الآن سوى ميلانشون وحركته، وخلفهم الحزب الشيوعي بتردد، وليس خافياً أنّ المعارضة قد تشتد إذا كانت التعبئة الاجتماعية على موعد مع بداية السنة البرلمانية الجديدة، وإذا لم ينجح ماكرون ومستشاروه ووزراؤه في شقّ الوحدة النقابية أو ما تبقى منها، أي ما بين نقابتي "سي جي تي" و"قوات عمالية"، على الأقل.