فيديل كاسترو... نهاية قرن سياسي

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".
27 نوفمبر 2016
42659408-0E78-4C0A-8766-F659674BD30C
+ الخط -
لعلّ ردود الفعل المنقسمة بين السعادة المطلقة في ميامي الأميركية، التي تعرف بـ"هافانا الصغيرة"، على وفاة فيديل كاسترو، والحزن المميت في أماكن كثيرة من العالم، تختصر جانباً كبيراً مما يمكن أن يقال عن الرجل الذي يصنف، موضوعياً، في خانة الظواهر السياسية للقرن العشرين. ولعلّ الكلمات القليلة التي صدرت عن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، تعليقاً على نبأ الوفاة، تختزل الجزء الآخر لشخصية الرجل وسيرته، هو الذي "جسد الثورة بآمالها وخيباتها" بحسب تعبير الرئيس "الاشتراكي" الذي لا شك في أنه نشأ، أيام كان الحزب الاشتراكي الفرنسي اشتراكياً بالفعل، على أدبيات تمجّد الزعيم الكوبي.

مات كاسترو بعد 90 عاماً قضى أكثر من 70 منها في المشاغبة والحروب والثورات والتصفيات والتأثير في أجيال على امتداد العالم. وربما ليس من المبالغة القول إنه يندر وجود أي شخص في العالم لا يعرف اسم فيديل كاسترو، بغض النظر عن الانطباع الأولي الذي يثيره الاسم، بين مجرم أو أسطورة ثورية، بين حالم بعالم أفضل بالفعل، وانتهازي جعل شعبه يموت جوعاً وحصاراً وتنكيلاً، وقائد تحرر من الإمبريالية والوصاية وقوانين رأس المال والكنيسة، قبل المراجعات الكبرى التي أجراها على كل حال. وربما يكون عدد من سمّوا أولادهم "فيديل" دليلاً على كون الرجل ينتمي إلى فئة باتت منقرضة من الزعماء التاريخيين الذي كتبوا تاريخ العالم، من صنف شارل ديغول ولينين وهو شي مينه وجمال عبد الناصر وجون كينيدي وياسر عرفات ونيلسون مانديلا وأرنستو تشي غيفارا، الذي أخذ معه، مثلما أخذ كاسترو معه، أسرار وألغاز العلاقة التي انتهت بينهما، ودياً بحسب البعض، وبشكل مأساوي بحسب كثيرين آخرين.

مات فيديل كاسترو في هافانا مثلما أراد على الأرجح. مات بعدما كاد يفعل كل ما يمكن لأي زعيم سياسي "غير عادي" أن يفعله. وحده يدرك إن كان راضياً عما انتهى إليه حال كوبا التي ارتبط اسمها باسمه، لكن الأكيد أن الرجل، بسنواته التسعين، كتب تاريخاً كاملاً، لا لبلده فحسب، بل حجز لنفسه فصلاً رئيسياً في تاريخ العالم المعاصر، على الأقل ذلك الخاص بستة عقود كاملة من منتصف القرن العشرين حتى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. كثر "يعبدونه" وكثر يكرهونه. طبع التاريخ باسمه من رمز للشيوعية الثورية "النقية" إلى جوار تشي غيفارا، فالشيوعية "المؤسساتية" بعد رحيل غيفارا. خاض حروباً لا تنتهي داخل الحدود وخارجها لإرساء "نموذج" أراده خاصاً به، وتصفية بلده من كل معارضيه بشكل دموي، وتحدّي أكبر قوة في العالم على بعد كيلومترات عن شواطئ ميامي الأميركية، وهدّد بحرب عالمية ثالثة كانت حظوظها كبيرة (أزمة الصواريخ الكوبية 1962)، وصولاً إلى مشاكسة الاتحاد السوفييتي وصنع جيلٍ من السياسيين ينظرون إليه كمثال انتهى به الحال مستقبِلاً أعداء الأمس، من رؤساء كنائس العالم ورئيس أميركي أنهى ولايتيه بمصالحة تاريخية مع العفريت الكوبي. ظل اسم الرجل طاغياً حتى عندما تنحى عن الحكم وأداره عن بعد، من خلال شقيقه راوول، لكي لا يكون هو من ينقلب على عزلة صنعها بنفسه لبلده تحت شعار "تحدي الإمبريالية"، والصمود في واحد من أطول أشكال الحصار الاقتصادي في التاريخ الحديث، قبل أن يفتح، وشقيقه، الحدود، ويصالحان "الشيطان الإمبريالي"، ويفتتحان السفارة الأميركية في هافانا، و"تهجم" طائرات السياح الأميركيين إلى شواطئ كوبا الجميلة وسيغارها وفاتناتها... ثم يعودان لإجراء تدريبات عسكرية "استعداداً لحكم دونالد ترامب"، بحسب النبأ الذي أعلن من هافانا فور الكشف عن نتائج الانتخابات الأميركية الرئاسية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي.


لا يُمكن اختصار "الرفيق" فيديل بثورة كوبية ناجحة أو بمعاصرته أرنستو تشي غيفارا. كان كاسترو أقلّ مثالية وأكثر واقعية من تشي. ترك الرومانسية الثورية لغيره، وانصرف إلى رسم خريطة سياسية مغايرة لكل ما سبق، ولكل ما أتى لاحقاً، في كوبا وفي البيئة الأميركية الوسطى. كان يحلو له ترداد: "يكفيني فخراً أنني أقمت الاشتراكية على فم الولايات المتحدة". أقامها، على الرغم من الحصار الأميركي للجزيرة. لكنه فعلها، ونجح في تحويل بلاده إلى مثال صادح لمحو الأمية ومجانية الطبابة. لكنه أيضاً حول بلده إلى بلدين: بلد الفقر للكوبيين، وبلد الجنات السياحية المحصورة بالأجانب والممنوعة على المواطنين، تماماً مثلما كان الحال في وجود عملتين، واحدة للمواطنين والثانية لأثرياء السياحة. لم يكن كاسترو قديساً، فقد ساهم في "تطهير" صفوف "الثورة" من كل رجال العهود السالفة. تحديداً عهد الرئيس السابق فولخانسيو باتيستا. اقتنع كاسترو بنصيحة غيفارا، الذي أسرّ له "أخطأ جاكوبو أربينز في غواتيمالا، حين لم يقم بتطهير صفوفه قبل الانقلاب العسكري عليه، عبر الإعدامات، لو فعلها لما قام عليه أحد". كان أربينز قد تسلّم الحكم في غواتيمالا بين عامي 1951 ـ 1954، وأُطيح به في انقلاب دبّرته الولايات المتحدة، وكان غيفارا شاهداً على ما جرى. تجربة غيفارا في غواتيمالا، سمحت لكاسترو، في حسم موقفه، فوافق على تنفيذ الإعدامات "باسم الشعب الكوبي". فعلت الإعدامات فعلها، بالنسبة إلى الثوار الجدد. كل من عارض كاسترو قُتل أو سكت أو هاجر. كانت الطريقة الأنسب للثورة الوليدة في تكريس وجوديتها. لم يكن هناك من يوثق الإعدامات. كانت "الشائعات" و"الأقاويل" هي السائدة. مع ذلك، كان هناك أمر ما سينهي مسيرة طويلة: العلاقة مع غيفارا.

كان غيفارا حالماً، أراد هافانا محطة من محطات أخرى، سعياً لـ"ثورة أممية". أما كاسترو فاكتفى بكوبا. كان أقرب، وهو الإسباني الأصل، إلى ترسيخ "قوميته" الكوبية، بفعل مراقبته مسار أزمة الصواريخ الكوبية، التي كاد يتلقاها من الاتحاد السوفييتي في عام 1961. راقب بعقله كيف "تفاهم" الروس والأميركيون على عدم اشعال حرب عالمية ثالثة بسبب جزيرة لا تزيد مساحتها على 110 آلاف كيلومتر مربّع، ولا تُشكّل أكثر من 1 في المائة من مساحة الولايات المتحدة و0.1 في المائة من مساحة الاتحاد السوفييتي. تصرّف كاسترو بواقعية. غادر غيفارا كوبا، في رحلة "مقاومة يسارية"، واستمرّ فيديل في هافانا، مانحاً الحرية لشقيقه راوول في السلطة. كان قريباً من الأضواء وبعيداً في الوقت عينه. يُمكن أن يختفي لفترة طويلة، مكتفياً ببعض المقالات، الموقعة تحت اسم "تأملات فيديل"، كما يُمكن أن يتلو خطاباً لساعات طويلة، مكتوباً أو مرتجلاً، لكنه كشف في النهاية إلى وصوله إلى إستنتاج "ربما متأخر قليلاً، وهو أن الخُطَب يجب أن تكون قصيرة"، هو الذي ألقى مرة خطاباً دام سبع ساعات متواصلة. علم أن الحدود الكوبية "المضمونة" أفضل من ثورة لن يسمح بها أحد لاستيلاد "طرف ثالث" عالمي. مع أنه انضمّ إلى دول عدم الانحياز في عام 1961، غير أن كاسترو، لم يُظهر ما أراد إظهاره، سوى في "إعلان هافانا"، في القمة السادسة لدول عدم الانحياز في 1979. أوضح في حينه ميله إلى حرية الشعوب وحقّها في تقرير مصيرها. أي ما اكتفى به في كوبا.

كان كاسترو ذكياً كفاية ليُصيغ "إعلان هافانا" بحسب أهواء ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، التي استقلّ فيها عدد هائل من الدول، الآسيوية والأفريقية. كان منشغلاً، في متابعة مآل الثورة الإيرانية، والاجتياح السوفييتي لأفغانستان في عام 1979. كان منتبهاً لـ"البينغ بونغ" الأميركية ـ الصينية في 1971، ولتراجع الأميركيين في حرب فيتنام. وجوده في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في فترة أوجدت فيها الولايات المتحدة ومعها الاتحاد السوفييتي، مساحة واسعة لحرب باردة بينهما، كان مزعجاً، بالتالي كان هدفاً لمحاولات اغتيال. فكاسترو وعلى الرغم من واقعيته، إلا أنه كان حجر عثرة بالنسبة إلى رجال واشنطن، خصوصاً أنهم كانوا قد "باركوا" له انتصار الثورة، قبل أن يعمد إلى تأميم الشركات الأجنبية، الأميركية بمعظمها. حينها قرروا التخلّص منه بسبب معاداته لهم. بالنسبة إلى الأميركيين لم يكن باتريس لومومبا أفضل من كاسترو، ولا مارتن لوثر كينغ، ولا غيفارا نفسه. "لا أستطيع أن أفعل ذلك، فيديل"، تلك كانت كلمات "المرأة القاتلة"، التي وظّفتها الاستخبارات الأميركية لاغتيال كاسترو. لا تُذكر السجلات أسباب تردد المرأة، التي كانت تستهدف اغتياله بحبوب مسممة داخل البوظة. لم تكن المحاولة الأولى من نوعها. في الواقع تعرّض الرجل لحوالي 360 محاولة اغتيال، أو هكذا يقال على الأقل، لم تنجح أي منها. فشل بعضها بفعل الصدفة، وبعضها الآخر بفعل فطنته. كان كاسترو براغماتياً بشكل هائل. لم يكشف كل أوراقه بعد انتصار الثورة الزاحفة من جبال سييرا مايسترا إلى هافانا. لم يكن نموذجاً مشابهاً لديكتاتوريي أميركا الجنوبية، الذين ارتقوا إلى السلطة بانقلابات دموية وهبطوا منها بإهانات شعبية: أوغوستو بينوشيه في تشيلي نموذجاً. المجلس العسكري في الأرجنتين مثالاً. الحكومة العسكرية في البرازيل أيضاً. كان الرجل أذكى من التصرّف كأنداده. رآهم يتهاوون، فيما استمرّ هو في الرقص على الحبال.

دفعته "واقعيته"، إلى التخلّي عن دينه المسيحي، ويقول في هذا الصدد "أبلغني والدي بضرورة أن أعترف عند الكاهن في كل مرة أنظر فيها إلى فتاة نظرة خاطئة. حسناً، اعترفت في اليوم الأول والثاني والثالث، على مرّ أسبوع كامل. حينها أدركت أن الدين ليس لي". الواقعية نفسها، دعته إلى استقبال البابا يوحنا بولس الثاني في كوبا، في يناير/كانون الثاني 1998. كان ذكياً كفاية، ليُدرك أن لا ضرورة لمعاداة البابا، بعد رؤيته أنصار "لاهوت التحرير"، ينهارون في الجوار. كما أن نهاية الحرب الباردة أعادت رسم خريطة سياسية جدية للعالم، أعلنت فيها الولايات المتحدة، زعامتها المطلقة فيه. فكان أن أفسح المجال لعودة العمل الكنسي إلى كوبا واستقبال البابا الحالي فرنسيس والتطبيع الكامل للعلاقة مع الكنيسة. ويُسجّل له أنه الرجل الذي استقبل في بيته، رأسي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والأرثوذكسية، البابا فرنسيس في 20 سبتمبر/أيلول 2015، والبطريرك كيريل الروسي في 13 فبراير/شباط الماضي. لم يكن فيدل كاسترو مجرّد رئيس لدولة ما، بل كان فعلاً رئيساً غير عادي لدولة عادية. ترك أثره لدى العديد من يساريي العالم. على رأسهم اللاعب الأرجنتيني الأسطورة، دييغو مارادونا. كان يبدو قوياً للغاية، ولم تكن أخبار مرضه لتثير المخاوف، بل كانت أخباراً "عادية". حتى أن وقوعه أثناء نزوله من المنبر بعد أحد الخطابات، لم يكن دليلاً على ضعفه، لأنه فيديل كاسترو، الذي صنعت منه القوة ما يكفي لإبعاد صفة "الضعيف" عنه.

ذات صلة

الصورة
تحطم طائرة في كوبا ADALBERTO ROQUE/AFP/Getty Images

أخبار


ذكر التلفزيون الرسمي الكوبي أن "أكثر من مئة شخص لقوا حتفهم إثر تحطم طائرة ركاب من نوع بوينج 737 في كوبا اليوم الجمعة". وقال الرئيس الكوبي إن "هناك ثلاثة ناجين من الحادث من بين 110 من الركاب وأفراد الطاقم".
الصورة
كوبا/سياسة/18/4/2018

سياسة

بعد 62 عاماً على تلاحم 82 رجلاً لإسقاط نظام فولخنسيو باتيستا بكوبا، يقف الرجل الأخير من بين الثوار لتسليم الراية إلى خلفٍ جديد. اليوم الخميس تستيقظ كوبا من دون راوول كاسترو رئيساً، في ظلّ بدء عهد ميغيل دياز ـ كانيل.
الصورة
إعصار إيرما/ فلوريدا/ Getty

أخبار

تستعد العاصمة الكوبية هافانا للفيضانات خلال الساعات القادمة، بعدما اقتلع الإعصار إيرما الأشجار ودمر أسقف المنازل، اليوم السبت، في وقت ضربت رياح قوية سلسلة جزر فلوريدا كيز.
الصورة
هولاند وماكرون/Philip Rock/Anadolu Agency

سياسة

مع نهاية ولاية الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، اليوم الأحد، تطوي فرنسا صفحة مهمة من تاريخها، مع رئيس خيّب آمال ناخبيه ويحمّله كثيرون مسؤولية هائلة في انهيار حزبه الذي اتجه به يميناً، في ظروف حرب جعلت من هولاند "رئيس الطوارئ".
المساهمون