مع إعلان "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، أول من أمس الجمعة، انتهاء العمليات العسكرية في ريف دير الزور، شرقي سورية، بعد مواجهات دامية استمرت نحو 10 أيام مع مقاتلي العشائر العربية في المنطقة، تثار أسئلة حول ما إذا كانت هذه التطورات ستشكّل منعطفاً إيجابياً في سياسة "قسد" تجاه منطقة شرق الفرات، كما توحي بذلك التصريحات الصادرة عن قيادتها، أم أن هذه التصريحات مجرد محاولة لامتصاص الغضب الشعبي والعشائري، وستعود "قسد" لسياساتها القديمة التي استفزت السكان، حالما تهدأ الأمور.
وذكرت "قسد"، في بيان نشرته عبر معرفاتها الرسمية، أن العملية المسماة "تعزيز الأمن"، والتي أطلقتها في 27 أغسطس/آب الماضي ضد ما قالت إنها خلايا لتنظيم "داعش" و"تجار المخدرات" و"العناصر الإجرامية المطلوبة للعدالة"، انتهت وبدأ العمل الآن ضمن نطاق "العمليات الأمنية المحدودة". وأشارت "قسد" إلى أن هذه العملية أسفرت عن مقتل 25 عنصراً من "قسد"، و29 "مسلحاً"، فضلاً عن مقتل 9 مدنيين زعمت أنهم قضوا "برصاص المسلحين الذين استخدموا الأسلحة الثقيلة في المواجهات"، إلى جانب اعتقال عنصرين من "داعش" و4 عناصر من "الدفاع الوطني" التابع لقوات النظام السوري.
وطوال المواجهات، تجنّبت "قسد" في بياناتها الإشارة إلى الطرف الثاني بوصفه مقاتلي العشائر أو سكان المنطقة، وظلت تصفهم بـ"الخارجين عن القانون"، لكنها اتهمت "بعض القوى"، وعلى رأسها قوات النظام السوري، "بخلق فتنة ما بين الأهالي وقوات سوريا الديمقراطية". وقالت إن عناصر تابعة للنظام تسللوا من غربي نهر الفرات واتحدوا مع مسلحين من المنطقة تحت مسمى "جيش العشائر".
"فرات بوست": دفعة من الآليات العسكرية سُلّمت إلى "قسد" بعد مفاوضات مع وجهاء المنطقة
وبالتزامن مع إعلان "قسد" عن توقف العمليات العسكرية، وردت معلومات غير رسمية عن التوصل إلى اتفاق بين العشائر العربية في ريف دير الزور الشرقي و"قسد"، يقضي بتسليم الأخيرة الآليات التي استولى عليها مقاتلو العشائر ودخول "قسد" المناطق التي خرجت عن سيطرتها خلال الأيام الماضية من دون قتال.
وذكرت شبكة "فرات بوست" المحلية، أن دفعة من الآليات العسكرية التي استولى عليها المقاتلون سُلّمت بالفعل إلى "قسد" بعد مفاوضات مع وجهاء المنطقة، تم خلالها الاتفاق على السماح لـ"قسد" بدخول مناطق الريف الشرقي تباعاً من دون قتال، مع التشديد على عدم التعرض للمدنيين والممتلكات الخاصة.
ودخلت "قسد" إلى بلدتي الجرذي وأبو حردوب بدون قتال تنفيذاً لشروط الاتفاق، بحسب شبكة "فرات بوست"، فيما أقام عناصر "قسد" عدداً من الحواجز داخل البلدتين.
تواصل التوتر في ريف دير الزور
ورغم هذه الإعلانات عن التهدئة، إلا أن أنباء متقاطعة أكدت تواصل التوترات ولو بحدة أقل، حيث قتل عنصران من قوات "قسد" ليل الجمعة – السبت برصاص مجهولين يستقلون دراجة نارية على طريق الخرافي الواصل بين الحسكة ودير الزور. كما هاجم مسلحون في بلدة جزرة البوحميد بريف دير الزور الغربي، أول من أمس، حاجزاً لـ"قسد" وسيطروا عليه لبعض الوقت، قبل أن تبادر الأخيرة إلى اقتحام البلدة.
كذلك شنّ عناصر "قسد" حملة اعتقالات بالقرب من محطة القطار غربي دير الزور، وداهموا تجمعات النازحين في المنطقة، بعد تعرّض حاجز المحطة لهجوم، ليل الجمعة - السبت من قبل مقاتلي العشائر.
وفي السياق، عثر الأهالي على جثة الشاب المدني زاهر أحمد الكمال بين بلدتي الطيانة وذيبان، وتظهر عليها آثار التعذيب داخل منزله، وذلك بعد فقدانه منذ اقتحام "قسد" للمنطقة قبل يومين.
كما قام عناصر "قسد" بتفتيش الهواتف المحمولة للمدنيين بشكل دقيق في بلدة درنج شرقي دير الزور، صباح أمس، وتعرّضوا للمدنيين بألفاظ نابية، وفق مواقع محلية. كذلك شنّ عناصر "قسد" حملة مداهمات في شارع العشرين بمدينة البصيرة بريف دير الزور الشرقي. وسبق ذلك ورود شكاوى عن قيام عناصر "قسد" بسرقة محال تجارية في الشارع العام وسط بلدة العزبة شمال دير الزور، تزامناً مع استمرار حواجزها في تفتيش الهواتف المحمولة الخاصة بالمدنيين بحثاً عن مواد مصورة تخص الحراك الأخير في دير الزور.
شنّت "قسد" حملة اعتقالات في ريف دير الزور
وقال الناشط أبو عمر البوكمالي، المقيم في شرقي دير الزور، لـ"العربي الجديد"، إن الأمور انحسمت ميدانياً تقريباً لصالح "قسد"، لكن هناك حملات تفتيش تقوم بها الأخيرة، وما تزال الطرق الرئيسة مقطوعة. كما لفت إلى أن الوضع الإنساني ما زال صعباً بسبب قطع الطرق، خصوصاً لجهة توفر المواد الأساسية مثل الطحين.
تحرك أميركي وجهود للتهدئة
وكانت جهود التهدئة قد تزامنت مع وصول وفد أميركي إلى شمال شرقي سورية برئاسة نائب مساعد وزير الخارجية إيثان غولدريتش لبحث التطورات الأخيرة.
وقال نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية، فيدانت باتل، إن مسؤولين أميركيين، على رأسهم غولدريتش، وقائد عملية "العزم الصلب" اللواء جويل فويل، أجروا (الأحد الماضي) اجتماعاً في شمال شرقي سورية مع قادة من "قوات سوريا الديمقراطية" و"مجلس سوريا الديمقراطية" وزعماء عشائر عربية في دير الزور.
وأوضح باتل أنه تم "الاتفاق على أهمية معالجة مظالم سكان دير الزور، ومخاطر التدخل الخارجي في المدينة، وضرورة تجنب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وضرورة وقف التصعيد والعنف في أقرب وقت ممكن".
وفي سياق هذه الجهود، تعهد قائد "قسد" مظلوم عبدي، بتلبية مطالب العشائر العربية شرقي سورية وإصلاح ما دعاه بالأخطاء التي قال إنها ارتكبت في إدارة المنطقة. وأضاف عبدي، في حديث لوكالة "رويترز"، الخميس الماضي، أنه التقى بزعماء العشائر وسيحترم طلبهم بالإفراج عن عشرات المقاتلين المحليين الذين شاركوا في المواجهات ضد "قسد"، واعتقلوا خلال المواجهات الاخيرة.
كما وعد عبدي باستضافة اجتماع موسع مع وجهاء العشائر العربية وممثلين آخرين من دير الزور لمعالجة "المظالم" القائمة منذ فترة طويلة، من التعليم والاقتصاد إلى الأمن، مشيراً إلى أنه يقر بوجود "عيوب" في مدى شمول المجالس المحلية لمختلف العشائر.
وتعهد عبدي بإعادة هيكلة كل من "المجلس المدني" التابع لـ"الإدارة الذاتية" والذي يحكم المحافظة، إلى جانب "مجلس دير الزور العسكري" التابع لـ"قسد"، بحيث يكونان أكثر تمثيلاً لجميع العشائر والمكونات في دير الزور، وفق قوله. وأكد انفتاح "قسد" على كل الانتقادات، وسيتم دراستها بحيث تعود "قسد" بكل مكوناتها بشكل أقوى، مؤكدا أنها لن تنسحب من المنطقة. وكتب عبدي على موقع "إكس"، أنه دعا شيخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل، إلى الجلوس والتفاوض وحل المشكلات العالقة، لكن الأخير لم يتجاوب مع الدعوى.
تعهدات "قسد" مجرد وعود
وأعرب الباحث والأكاديمي الدكتور فريد سعدون، عميد كلية الآداب في جامعة الحسكة، شمالي شرق سورية، في حديث مع "العربي الجديد"، عن اعتقاده بأنه لن تطرأ تغييرات جوهرية على سياسة "قسد" في المنطقة، وهي سياسة تعتقد "قسد" أنها تحافظ على سلطتها هناك.
فريد سعدون: تمتلك العشائر الثقل السكاني والقومي، وستظل قادرة على إثارة المتاعب
وأضاف سعدون أن "الانتصار العسكري لا يعني شيئاً، فما زالت هناك حاجة إلى عملية سياسية تحل الأمور العالقة وتعالج مظالم الناس"، ملاحظاً أن كلا الطرفين، "قسد" وزعماء العشائر، يحاولان استقطاب الأهالي إلى صفهما. وفي هذا الإطار، "تحاول قسد بشكل مستمر الاجتماع مع بعض شيوخ العشائر الموالين لها، وإظهارهم على أنهم يمثلون المنطقة"، وفق قوله.
وأضاف سعدون أن الطرف الآخر "رغم أنه أضعف عسكرياً، لكنه يمتلك الثقل السكاني والقومي، وسيظل قادراً على إثارة المتاعب أمام قسد في حال لم تتمكن الأخيرة من استيعابه وإرضائه".
ورأى سعدون ضرورة أن تتشكل إدارة مدنية حقيقية في كل منطقة، مشيراً إلى أن "قسد تتبنى نظرياً سياسة الإدارات المحلية لكل منطقة، لكن على أرض الواقع لا تطبق ذلك، وهناك دائماً سلطة أقوى تتبع لجهة ما من خارج إطار هذه الإدارات". وأعرب سعدون عن اعتقاده بأن العشائر "لن تتنازل عن حقها في إدارة مناطقها، خصوصاً في دير الزور ومنبج والرقة، وهي مناطق عربية خالصة، ولن يقبل أهلها بوجود عنصر آخر يشاركهم في إدارة مناطقهم".
من جهته، نفى سيهانوك ديبو، الرئيس المشترك لمكتب العلاقات العامة في حزب الاتحاد الديمقراطي (الحزب الأم الذي يقود "قسد") في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن تكون التطورات الأخيرة تمثل حرباً عرقية بين العرب والأكراد، أو بين "قسد" والعشائر العربية، واصفاً العشائر العربية بأنها "إحدى أهم الدعامات المجتمعية" بالنسبة لـ"قسد".
واتهم ديبو "بعض الجهات ضمن نقطة الصراع الدولي والإقليمي في الساحة السورية وبعد أن استعصى عليه طيلة السنوات الماضية تحجيم وإفشال الإدارة الذاتية، يسعون إلى إفشال هذه التجربة وخلط الأوراق كمحاولة لتعزيز المواقع للدول المتصارعة في هذه المرحلة الانتقالية".
واعتبر ديبو أن "حملة تعزيز الأمن التي قامت بها قسد، تفتح مرحلة جديدة لصالح مكونات المنطقة والتمهيد لحل الأزمة السورية".
وكانت المواجهات المسلحة في دير الزور اندلعت بعد اعتقال "قسد" قائد "المجلس العسكري" في دير الزور أحمد الخبيل في 28 أغسطس/آب الماضي، ما أسفر عن تحالف عشائر من المنطقة مع مقاتلي المجلس، وبدأت اشتباكات عسكرية في بعض قرى وبلدات دير الزور خرجت عن سيطرة "قسد" بالكامل لبعض الوقت.