هكذا تمكنت بكين من الهيمنة على بحر الصين الجنوبي وإبقاء أميركا خارجاً

12 مارس 2023
جزيرة اصطناعية بنتها الصين في جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي (عزرا اكيان/Getty)
+ الخط -

تمكنت الصين عبر اتباع سياسة خطوة بخطوة على مدار العقد الماضي من أن تصبح القوة المهيمنة على بحر الصين الجنوبي، وقامت بتغيير توازن القوى لمصلحتها دون إثارة صراع مباشر مع القوى الأخرى، ولا سيما الولايات المتحدة

ويعتبر بحر الصين الجنوبي طريقاً تجارياً مهماً، وهو واحد من الطرق التجارية الرئيسية في العالم، وتحيط بالبحر الصين وتايوان ودول جنوب شرق آسيا، لكن بكين تطالب بكل البحر تقريباً، وتستعرض صحيفة "وول ستريت جورنال" في تقرير مطوَّل كيف تمكنت الصين من ترسيخ نفوذها وزيادته في بحر الصين الجنوبي أمام أنظار الولايات المتحدة الأميركية.

بينما كانت أميركا مشغولة  

حولت الصين على مدار السنوات الماضية الشعب المرجانية إلى جزر اصطناعية وقواعد عسكرية، مجهزة بصواريخ وأنظمة رادار وممرات جوية، ما يمثل مشكلة للبحرية الأميركية. 
وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة مشغولة بالحروب في العراق وأفغانستان، كانت الصين توطد سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، وبدلاً من منعها، كانت واشنطن تركز في علاقاتها مع الصين على بؤر توتر أخرى مثل كوريا الشمالية وإيران. 
ويهدد تحدي الصين للهيمنة الأميركية المعتادة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان، ويُعرض التجارة العالمية للخطر، مثل عمليات شحن أشباه الموصلات المتقدمة التي تُنتَج في تايوان، كذلك إن الحشد العسكري الصيني في "الجنوبي" يهدد بشكل خاص الفيليبين، حليفة الولايات المتحدة.
ويحذر المسؤولون والمحللون الأمنيون السابقون في الولايات المتحدة وجنوب شرق آسيا من أن مكاسب الصين في المياه باتت أمراً واقعاً وقوة متمكنة من الصعب التصدي لها أو التقليل منها إلا عبر الصراع العسكري المباشر.
وقال الأدميرال المتقاعد هاري بي هاريس جونيور، ضابط بحري بالقوات الأميركية في المحيط الهادئ من عام 2015 إلى عام 2018، إن الصين لديها الآن قوة بحرية وجوية في بحر الصين الجنوبي، ويمكنها عرقلة التجارة الدولية أو التدخل فيها، وسيتعين على الولايات المتحدة أن تقرر ما إذا كانت ستخوض حرباً مع الصين إذا نفذت مثل هذه الإجراءات.
من جهتها رفضت الصين حكماً صدر عام 2016 عن المحكمة الدولية يقول إن مطالبتها بالحقوق التاريخية في بحر الصين الجنوبي ليس لها أساس قانوني، وتتهم الصين أميركا بالتدخل في المنطقة.

لعبة طويلة   

غالباً ما أربك نهج الصين التدريجي خصومها، ما جعلهم غير متأكدين بشأن ما إذا كان بإمكانهم الرد دون تصعيد التوترات، وقال نائب قائد الأسطول السابع، الأدميرال كارل توماس، في مقابلة العام الماضي: "هذه هي اللعبة الطويلة التي يلعبونها غالباً. سيبنون قدراتهم، وسيزيدون من وجودهم تدريجاً".

قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، اللفتنانت كولونيل مارتن ماينرز، إن قرار الصين "إجراء عمليات استصلاح الأراضي على نطاق واسع وبناء مواقع استيطانية وعسكرة الأراضي المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، أمر مزعزع للغاية للاستقرار، وقد أدى إلى زيادة التركيز على لجوء بكين المتزايد إلى الإكراه والخداع لتغيير الحقائق على الأرض".
وأضاف ماينرز أن الولايات المتحدة ستحافظ على وجود عسكري نشط في بحر الصين الجنوبي من خلال الدوريات الاستراتيجية والتدريبات المشتركة ومتعددة الجنسيات، وأكد أن الولايات المتحدة تعمل أيضاً على رفع مستوى قوتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لبناء وجود أكثر ديناميكية ومرونة في المنطقة.
وتمثل البؤر الاستيطانية الصينية تهديدات محتملة إضافية للجيش الأميركي، وثلاثة من هذه البؤر في مجموعة جزر سبراتلي هي قواعد عسكرية كاملة تستضيف مطارات وصواريخ أرض-جو وصواريخ مضادة للسفن ورادارات وأجهزة استشعار تسمح للصين برؤية وسماع كل ما يحدث في المنطقة تقريباً.
ويذكر توماس شوغارت، الزميل الأول المساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد، أنه عندما بدأ بناء القواعد، كان الكثير من الناس "رافضين لقواعد الجزر تلك"، واستهانوا بها، معتقدين أنهم قادرون على "تنظيفها باستخدام صواريخ توماهوك في الساعة الأولى من الصراع "، مضيفاً: "لا أعتقد أن الناس يرون الأمر بهذه الطريقة بعد الآن".

ورغم كل شيء، لا يزال الجيش الأميركي أكثر قدرة من خصومه، ولا سيما أن للجيش الصيني عوائق خاصة به على نطاق أوسع، بما في ذلك تطوير القدرة على تنفيذ غزو محتمل لتايوان.
وتواجه الصين تحديات في الحفاظ على قواعد الجزر في بحر الصين الجنوبي، ولم تتمكن من فرض هيمنة كاملة، حيث تقوم دول جنوب شرق آسيا بتحدي بكين من خلال بعض مشاريع النفط والغاز وتحديث الهياكل في الجزر التي تسيطر عليها وتحافظ على مواقع عسكرية فيها.

20 بؤرة استيطانية   

أقامت الصين بؤراً استيطانية في مجموعتين من الجزر في بحر الصين الجنوبي، "جزر باراسيل" الأقرب إلى البر الرئيسي، و"جزر سبراتلي" التي تقع على مسافة أبعد بكثير. وطُوِّرَت أجزاء من باراسيل، وعلى مدار العقد الماضي استمرت الصين في استعادة الأراضي ونقل المزيد من المعدات العسكرية هناك، لديها الآن حوالى 20 بؤرة استيطانية هناك، معظمها صغير، وبعضها مزود بالبنية التحتية للطاقة، ومهابط للطائرات المروحية والموانئ، بالإضافة إلى المطارات في أكبرها.

وعمقت الجزر الاصطناعية في سبراتلي سيطرة الصين، فالبؤر الاستيطانية السبع هناك، بما في ذلك ثلاثة مواقع كبيرة معروفة دولياً باسم Mischief Reef و Fiery Cross Reef و Subi Reef، توسع مدى وصول الصين إلى أقصى جنوب ساحلها، وتجعل من الممكن لقواربها البحرية وخفر السواحل وقوارب الصيد أن تبحر باستمرار عبر المياه في بكين.
وبدأ حشد سبراتلي منذ حوالى عقد من الزمان، عندما كان الجيش الأميركي لا يزال متورطاً بعمق في الصراعات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وكانت إدارة أوباما تسعى للتعاون مع الصين بشأن الأولويات، بما في ذلك تأمين الاتفاق النووي الإيراني والحد من الاستفزازات الكورية الشمالية، وإحراز تقدم بشأن تغير المناخ ووقف سرقة الملكية الفكرية والتجسس الإلكتروني.

أوباما وشي جين بينغ    

وقامت الصين ببناء Mischief Reef، وهي شعاب مرجانية في جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي، إلى جزيرة اصطناعية تُستخدم كموقع عسكري.
وقال مسؤولون سياسيون وعسكريون سابقون في الولايات المتحدة إنه في السنوات التي أعقبت صعود شي جين بينغ، الرئيس الصيني، إلى السلطة، لم يدرك المسؤولون الأميركيون الدرجة التي يمكن أن يبتعد بها عن الماضي في اتباع نهج سياسة خارجية أكثر تصادمية.

الجزيرة الاصطناعية التي بنتها الصين في جزر سبراتلي (عزرا أكيان/Getty)
الجزيرة الاصطناعية التي بنتها الصين في جزر سبراتلي (عزرا أكيان/Getty)

وقال غريغوري بولينغ، مؤلف كتاب عن تاريخ مشاركة أميركا في بحر الصين الجنوبي، ومدير مبادرة الشفافية البحرية الآسيوية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومقره واشنطن: لقد "وجدوا أنّ من الصعب جداً تصديق أن الصين ستفعل شيئاً قسرياً ووقحاً للغاية، وبحلول الوقت الذي فهموا فيه مدى الطموح الصيني وكيف أصبحت هذه الأشياء كبيرة وعسكرية، كان قد فات الأوان لفعل أي شيء". 

وتوقع بعض المسؤولين والمحللين الأميركيين في البداية أن يواصل شي بينغ القيادة الجماعية التي سادت في عهد أسلافه في الآونة الأخيرة، ولكنه بدلاً من ذلك، عزز على مرّ السنين سيطرته الفردية كما فعل ماو تسي تونغ، ما جعل من الصعب التنبؤ بسياساته. 
وقال دانييل راسل، الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ من 2013 إلى 2017، إن استراتيجية إدارة أوباما بإدارة الخلافات مع الصين، دون السماح للمنافسة، أدت إلى "التدهور إلى منافسة حاقدة".

لكسب الوقت فقط   

في عام 2012 وبعد مواجهة بين السفن الفيليبينية والصينية، استولت الصين على جزيرة مرجانية تسمى "سكاربورو شول"، وقال مسؤولون فيليبينيون سابقون إن المسؤولين الأميركيين حاولوا التوسط، لكن عندما سيطرت بكين، توقعت مانيلا عرضاً مباشراً أكثر للدعم من حليفها.
وفي أوائل عام 2014، رُصدَت جرافات صينية تراكم الرمال على الشعاب المرجانية في سبراتلي، وقال راسل إن المسؤولين الأميركيين كانوا يعرفون أن المتشددين في الجيش الصيني يسعون للسيطرة على المياه، لكن لم يكن واضحاً أنهم سينتصرون.

وأضاف: "في البداية، كان هناك المزيد من عدم اليقين والغموض بشأن مدى جدية هذا، وما هي احتمالات التسوية الدبلوماسية"، ليتبين لاحقاً "أن الصينيين لم يكن لديهم أبداً نية للمساومة، وكانوا يكسبون الوقت فقط".

وأضاف السيد راسل أن زملاءه العسكريين في ذلك الوقت لم يروا أن الجزر تشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي للولايات المتحدة، وشُبِّهَت البؤر الاستيطانية في تلك المرحلة بحفنة من السفن الحربية المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة، التي لم تستطع التحرك، وقال الأدميرال هاريس إنه أوصى بإبحار سفينة حربية أميركية بالقرب من إحدى الجزر لإثبات جدية الولايات المتحدة، لكن الاقتراح رفضه رؤساؤه.

المطارات والمباني والهياكل على الجزر الاصطناعية التي بنتها الصين  في جزر سبراتلي (عزرا أكيان/Getty)
المطارات والمباني والهياكل على الجزر الاصطناعية التي بنتها الصين في جزر سبراتلي (عزرا أكيان/Getty)

كانت المرة الأولى التي أثيرت فيها قضية الجزر في سبتمبر/ أيلول 2014 بين قائد البحرية الأميركية آنذاك، الأدميرال جوناثان جرينرت، مع نظيره الصيني، وقال الأدميرال وو شنغلي، قائد البحرية الصينية آنذاك، إنه فوجئ أصلاً بتأخر الولايات المتحدة طرح ذلك الموضوع، وفقاً للأدميرال جرينيرت المتقاعد الآن من البحرية، وقال جرينيرت إن المعنى كان أن الصين ربما كانت تتوقع مواجهتها بشأن نشاطها في بحر الصين الجنوبي قبل ذلك الوقت.

وقال الصينيون وقتها عن الجزر إنها ستدعم السفن والأطقم الصينية، وسيكون لها "إجراءات دفاعية افتراضية"، رغم أن زخم البناء في الجزر كان يشير إلى أن المقصود بناء قدرات هجومية بحسب جرينيرت.
ويقول المحللون إن 2014 كان عاماً حاسماً، وكانت الجرافات الصينية تبدأ أولاً بالأصغر بين الجزر لجسّ النبض وردود الفعل.

ترامب يقلب الطاولة    

وقال دانييل راسل إن المسؤولين الأميركيين أخبروا الصينيين مراراً أنهم يدفعون دول المنطقة إلى الاقتراب من الولايات المتحدة عسكرياً ويضرون بعلاقات الصين مع واشنطن، مضيفاً أن إدارة أوباما حاولت أيضاً مساعدة دول جنوب شرق آسيا على وضع قواعد أساسية جديدة للسلوك في بحر الصين الجنوبي مع الصين، ولكن لم ترغب معظم الحكومات في الضغط بشدة.

أعمال بناء كبيرة وجرف تجريها الصين في Mischief Reef في عام 2015 ( DigitalGlobe/ Getty)
أعمال بناء كبيرة وجرف تجريها الصين في Mischief Reef في عام 2015 (DigitalGlobe/ Getty)

لكن الفيليبين كانت استثناءً، ورفعت قضية تحكيم تاريخية في محكمة دولية للطعن في مطالبات بحر الصين الجنوبي في الصين، بعد خسارة Scarborough Shoal، التي فازت بها، على الرغم من رفض الصين للحكم. وساعدت واشنطن في حشد الدعم للقضية، ووقعت اتفاقية أمنية جديدة مع مانيلا في 2014.
وكان هناك غموض حول اتفاقية أقدم "معاهدة الدفاع المشترك" بين البلدين، وقال مسؤولون فيليبينيون إنهم يعتقدون أن المعاهدة تغطي هجوماً في بحر الصين الجنوبي، لكن واشنطن لم تعلن ذلك وقتها صراحةً، لتعود وتفعل ذلك في عام 2019 عندما ضغطت إدارة ترامب على الصين مباشرةً بشأن قضايا تراوح من التجارة إلى التكنولوجيا.
بحلول منتصف عام 2015، كانت أكبر ثلاث جزر، كانت الصين تبنيها، تتطور بسرعة، وفي سبتمبر/أيلول أثار الأدميرال هاريس، الذي تولى حينها مسؤولية قيادة المحيط الهادئ، مخاوفه أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، واستجوب السناتور الراحل جون ماكين، وهو ضابط سابق في البحرية وعضو جمهوري، وزارة الدفاع حول سبب عدم رد الولايات المتحدة على تصرفات الصين بالإبحار بالقرب من إحدى الجزر الجديدة.
في الشهر التالي، ستقوم البحرية الأميركية بالمناورة المعروفة باسم "عملية حرية الملاحة" أو Fonop، وهي تقوم الآن بانتظام بعمل "فونوب" في بحر الصين الجنوبي، وهي أعمال تصفها الصين بأنها غير قانونية.
في أواخر سبتمبر 2015 قدم شي جين بينغ طمأنات بعد اجتماع في البيت الأبيض مع باراك أوباما، وقال شي إن بلاده لا تنوي عسكرة بحر الصين الجنوبي، وقال بعض المسؤولين الأميركيين إنهم رأوا في هذا التعهد العلني نقطة تحول، ما يشير إلى أنه لن يُسمح للصقور في الجيش الصيني بتنفيذ جميع خططهم.
ولكن سرعان ما اتضح أن الأمر لم يكن كذلك، حيث تمّ الانتهاء من معظم جزر سبراتلي الصناعية السبع بحلول أوائل عام 2016، ثم أضافت الصين البنية التحتية العسكرية: 72 حظيرة طائرات وأرصفة ومعدات اتصالات عبر الأقمار الصناعية ومجموعة هوائي ورادارات وملاجئ محصنة لمنصات الصواريخ والصواريخ نفسها.

وقال الأدميرال السابق روميل أونج، الذي تقاعد كنائب لقائد البحرية الفيليبينية في عام 2019، إن المشاريع الاقتصادية في بحر الصين الجنوبي أصبحت أكثر خطورة بالنسبة إلى دول جنوب شرق آسيا بسبب احتمال نشوب صراع مع السفن الصينية، وغيرت الديناميكيات الإقليمية.
لكن إدارة ترامب اتخذت موقفاً أكثر تشدداً، برفضها رسمياً المزاعم الصينية المحددة في بحر الصين الجنوبي وتصوير الصين كمتنمّر. وبنت إدارة بايدن على ذلك من خلال تعميق تحالف الولايات المتحدة مع الفيليبين وتوسيع وصول الولايات المتحدة إلى القواعد الفيليبينية. ويصف بايدن تصرفات الصين في بحر الصين الجنوبي بأنها مزعزعة للاستقرار وقسرية.
وقال الأدميرال هاريس: "نحن لا نبني قواعد عسكرية في المياه الدولية لمجرد أننا نستطيع ونريد ذلك" ولكن "من الواضح أن الصينيين يستطيعون، وقد فعلوا ذلك".