مصر في اليوم التالي للحرب... المعبر وحده لا يكفي

28 يناير 2024
نازحون فلسطينيون يتحدثون إلى جندي مصري على حدود رفح غزة في 11/1/2024 (عبد زقوت/الأناضول)
+ الخط -

الأمر الوحيد الذي يمكن تأكيده في ما يتعلق بترتيبات ما بعد العدوان على قطاع غزّة هو أن ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لن يشبه ما قبله. وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف خطط ما بعد الحرب، إلّا أنّه بالإمكان، في الشهر الرابع للحملة العسكرية، استبعاد بعض السيناريوهات التي راجت في بداية الحرب. أبرز السيناريوهات التي يمكن استبعادها الآن هو سيناريو التهجير، الذي لم يصمد كثيرًا أمام الرفض الفلسطيني والمصري، والعزوف الأميركي.

السيناريو الثاني الذي أصبح بدوره من الماضي، هو نجاح الحملة العسكرية الصهيونية في تصفية المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة وتفكيكها، فبعد مرور أكثر من مئة يوم على الهجوم الوحشي بكلّ الأسلحة الممكنة، ما زالت المقاومة الفلسطينية تثبت قدرتها على الاستمرار، وتكبيد قوات الاحتلال خسائر يوميةٍ، لم يعتد فداحتها، بل إنّ الأرجح الآن هو أنّ المقاومة قد أصبحت قادرةً على التوسع نحو الضفّة. معنى ذلك إنّ أيّ خططٍ لما بعد الحرب، أيًّا كانت، وأيًّا كان واضعها، يجب أن تبنى على أنّ قطاع غزّة سيبقى بعد العدوان فلسطينيًا ومقاومًا.

الأمر الآخر الذي لا نستطيع تفادي نقاشه في ترتيبات ما بعد العدوان، هو دور الجار العربي الوحيد لقطاع غزّة، أي الدور المصري. لكن في الوقت نفسه لا يجب تجاهل أن الوقائع المتتالية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ربما تؤدي إلى تغيراتٍ في الدور المصري إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

أعادت عملية "طوفان الأقصى" الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية تحررٍ وطنيٍ من الاحتلال، وليست قضيةً إنسانيةً فقط

استمر الدور المصري تجاه غزّة مركزيًا طوال السنوات الماضية، كون مصر هي الدولة الوحيدة صاحبة الحدود مع غزّة، وجعلت طبيعة العلاقات المصرية الإسرائيلية من مصر الطرف الرئيسي في جهود الوساطة والتهدئة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وهو الدور الذي قامت به مراتٍ متتاليةٍ ونجحت فيه بالفعل.

منحَ هذا الدور مصر مكانةً إقليميةً خاصّةً، ساعدت الحكومة المصرية على مقاومة الضغوط الأميركية في مراتٍ عديدةٍ، وفي عددٍ من الملفات، فمهما كانت طبيعة الخلافات بين مصر وأميركا، هناك أيضًا حاجة للدور المصري، القادر على التدخل للتهدئة في لحظاتٍ كثيرةٍ. ليس بعيدًا عن ذلك، تغير موقف الرئيس الأميركي جو بايدن من نظيره المصري، بعد تدخل الأخير للتهدئة بين حركة حماس وإسرائيل في بداية ولاية جو بايدن. كذلك تغير لهجة صندوق النقد الدولي، والاتّحاد الأوروبي تجاه دعم الاقتصاد المصري المأزوم في بداية الحرب الحالية، تحت عنوان دعم استقرار مصر.

لكن لا نستطيع إغفال بعض المتغيرات، التي من شأنها أن تنعكس على حجم، وطبيعة الدور المصري في مرحلة ما بعد العدوان، أولى تلك المتغيرات، هي أنّ الدور الرئيسي الذي لعبته مصر في التهدئة والوساطة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية لم يعد حكرًا على مصر، بل اتضح أن أطرافًا أخرى، أبرزها قطر، قد أصبحت تشارك مصر هذا الدور، وربّما تفوقت قطر على مصر في بعض المحطات خلال الحرب الحالية. الملاحظ هنا في هذا الصدد أنّ مشروع التسوية المصري، الذي طرح قبل انقضاء ديسمبر/كانون الأول الماضي، لم يحظ بقبول أيٍّ من أطراف الصراع.

المتغير الآخر؛ الذي قد يؤثر على الدور المصري، هو أن الأحداث الأخيرة، رغم أنّها لم تساهم في كسر عزلة المقاومة الفلسطينية جغرافيًا، إلّا أنّها ساهمت بفاعليةٍ كبيرةٍ في كسر عزلتها السياسية، وحتّى العسكرية. انعكست الحملة الوحشية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة في موجة تضامنٍ عارمةٍ على مستوى العالم. ولاحقًا، انتقل التضامن من القطاعات الشعبية إلى المستوى الرسمي في العديد من البلدان، وأخذت القضية الفلسطينية مكانة قضية فيتنام في السياسة العالمية، شعبيًا ورسميًا، وهو ما غير بدوره التصورات التي نسجت حول المقاومة الفلسطينية لعقودٍ من الزمن، لتأخذ مكانها كحركة تحررٍ وطنيٍ، وليست مجرد جماعاتٍ إرهابيةٍ مسلحةٍ.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

اتخذ التضامن مع المقاومة الفلسطينية طابعًا مسلحًا في محيط المنطقة، سواء في باب المندب، أو جنوب لبنان، أو في العراق وسورية، ما يعد امتدادًا حقيقيًا للمقاومة الفلسطينية، قفزًا على العزلة الجغرافية المفروضة عليها، لدرجة أن الحدود المصرية قد أصبحت تمثّل هاجسًا لإسرائيل، مع تزايد الغضب الشعبي في مصر. بلغ الأمر حدّ اعتبار مراقبين أنّ تسلل المجند المصري محمد صلاح عبر الحدود المصرية إلى الداخل الإسرائيلي، واشتباكه مع جنودٍ إسرائيليين، شكل إلهامًا للمقاومة. كما لم تقنع رواية تسلل 20 مهربًا من الحدود المصرية قبل أيّامٍ واشتباكهم مع قواتٍ إسرائيليةٍ الكثيرين، وحامت التوقعات حول طبيعة العملية ومدى ارتباطها بالتضامن مع المقاومة الفلسطينية، خاصّةً مع تكرارها.

التطور الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية في الآونة الأخيرة، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الشعبي، يحمل في طياته أيضًا معنىً مهمًّا للدور المصري المفترض في المرحلة المقبلة، لأن المقاومة التي أسست في الآونة الأخيرة مرحلةً جديدةً من النضال الوطني، تتصدرها الفصائل الإسلامية، حركتا حماس والجهاد الإسلامي. لا يعد ذلك خبرًا جيدًا للنظام المصري، الذي بنى شرعيته منذ عام 2013 على معاداة الإسلام السياسي في مصر، بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، واعتبر أنّ معركته الأساسية هي تفكيك هذه الجماعة واستئصالها من مصر، وهو ما صاحبه أيضًا خطابًا معاديًا لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، حتّى أنّ أحد أبرز الاتهامات التي واجهها قادة الجماعة في مصر؛ في حينها، هي التخابر مع حركة حماس، ليجد نفسه بعد ذلك بسنواتٍ أمام حركة مقاومةٍ تحمل الأيديولوجية نفسها، وتتمتع بشعبيةٍ وتضامنٍ واسعين، حتّى داخل مصر.

لكن، ورغم أيّ متغيراتٍ قد تطرأ على الصراع، فإن الدور المصري في مرحلة ما بعد العدوان، وفي أيّ سيناريوهاتٍ مستقبليةٍ لا يمكن استبعاده، حتّى لو تغيرت طبيعته وحجمه، فأيّ تغيراتٍ تطرأ على معطيات الصراع لن تغير واقع الحدود الجغرافية بين مصر وقطاع غزّة، كونها المنفذ الوحيد للقطاع غير الخاضع للسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، حتّى لو لم يمثّل هذا المنفذ كسرًا حقيقيًا للحصار الذي فرضته إسرائيل على غزّة خلال الحملة العسكرية الأخيرة وقبلها.

الحقيقة أنّ طبيعة وحجم الدور المصري، في خطط ما بعد الحملة العسكرية الصهيونية على قطاع غزّة، يتوقف على السيناريو الذي سيتحقق عقب الحرب. ربّما كان السيناريو الأمثل للدور المصري، هو السيناريو الأميركي، الذي يسعى إلى إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزّة، ودعمها وتقويتها.

الأمر الآخر الذي لا نستطيع تفادي نقاشه في ترتيبات ما بعد العدوان، هو دور الجار العربي الوحيد لقطاع غزّة، أي الدور المصري

من البديهي؛ أنّ التعامل مع سلطة أوسلو هو تعاملٌ نموذجيٌ بالنسبة للحكومة المصرية، إذ سيكون من الأسهل التعاون بين طرفين لهما المرجعيات نفسها، ويتفقان حول رؤية تسوية القضية الفلسطينية، متمثّلةً في حلّ الدولتين، مع عدم معارضة وجود دولةٍ فلسطينيةٍ منزوعة السلاح.
رغم ملاءمة هذا السيناريو لطبيعة الدور المصري، إلّا أنّ تطبيقه قد أصبح صعبًا للغاية، لأن قدرة السلطة الفلسطينية، التي تسعى الولايات المتّحدة إلى جلبها لقطاع غزّة، على الاستمرار أصلًا في الضفّة الغربية باتت أمرًا محاطًا بالشكوك والاحتمالات، ناهيك عن إمكانية قبولها في غزّة، سواء شعبيًا أو من جانب المقاومة.

في المقابل يبدو التصور المصري المبني على تأليف حكومة وفاقٍ وطنيٍ فلسطينيٍ، تقبل بها كلّ الفصائل الفلسطينية، أكثر واقعيةً، إذ يأخذ في اعتباره قبول المقاومة الفلسطينية بالحكومة التوافقية، وبالتالي إمكانية التعاون معها. هذا ما تسعى إليه مصر بالفعل، عبر مباحثاتٍ مع الفصائل الفلسطينية، كما أوردت وسائل إعلامٍ مصريةٍ.  يبدو ذلك مناسبًا أيضًا لاستمرار الدور المصري بثقله في أوضاع ما بعد العدوان، فالمساعي المصرية لتأليف حكومة وفاقٍ وطنيٍ فلسطينيٍ، تعتبرها الحكومة المصرية خطوةً تمهيديةً ضروريةً للمضي قدمًا بطريق حلّ الدولتين.

لكن هذا السيناريو بدوره سيكون مرهونًا بقبول المقاومة الفلسطينية، خاصّةً فصائل المقاومة الإسلامية، حماس والجهاد الإسلامي، اللتين لا تتفقان مع الرؤية المصرية للتسوية، حول دولةٍ فلسطينيةٍ منزوعة السلاح.

ربّما يسهل الاتّفاق على أنّ عملية "طوفان الأقصى" وتبعاتها نقلت القضية الفلسطينية إلى مرحلةٍ جديدةٍ، فلم تعد القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول مجرد قضية لاجئين، أو أزمةٍ في توفير مواد الإغاثة. إذ أعادت عملية "طوفان الأقصى" الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية تحررٍ وطنيٍ من الاحتلال، وليست قضيةً إنسانيةً فقط، تشبه قضايا الكوارث الطبيعية، لم يعد بالإمكان التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية ضحايا فحسب، لكن كقضية مقاومةٍ أيضًا.

ستعيد هذه الصورة الجديدة للقضية الفلسطينية تنظيم الكثير من الأدوار، بعد انتهاء الحملة العسكرية الصهيونية، من ضمن تلك القضايا مسائل الإغاثة، وإمداد قطاع غزّة بالوقود والمواد الغذائية والمستلزمات الطبية، التي يصبح للمعبر المصري فيها دور مركزي، في حين يبرز في قضايا المقاومة والتحرر الوطني، إلى جانب دور المعابر المهمة جدًا طبعًا، دور الدعاوى القضائية في المحاكم الدولية، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، وفرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ عليها، ومساندة المقاومة بالسبل الممكنة.

اقتصار الدور المصري بعد تلك التحولات على الوساطة، وإدارة المعبر يتركان مساحةً واسعةً لأدوار أطرافٍ أخرى ترى في ما يجري في قطاع غزّة من جرائم وحشيةٍ أكثر بكثيرٍ من الكوارث الطبيعية، وتقدم ما يتجاوز الإغاثة الإنسانية.

المساهمون