ماريوبول الأوكرانية: "نصر" روسي فوق القبور

21 ابريل 2022
مبانٍ مدمّرة في ماريوبول أمس (ألكساندر إيرموشنكو/رويترز)
+ الخط -

بعد أكثر من ستة أسابيع على القصف والمعارك العنيفة، بات إعلان سقوط مدينة ماريوبول الأوكرانية مسألة تحديد الوقت المناسب بالنسبة للروس لا أكثر. وبدا أن مصير نداءات الاستغاثة الأخيرة من المدافعين عن آخر معاقل المقاومة في مصنع "آزوفستال" لم تختلف عن سابقاتها.

وفيما يستعد المدنيون للخروج ضمن ممرات آمنة إلى مناطق في أوكرانيا، رفض من تبقى من مقاتلي البحرية الأوكرانية وكتيبة "آزوف" عرضاً روسياً ثالثاً في الأيام الأخيرة لتسليم أسلحتهم، ولم يستجيبوا لنصيحة وزارة الدفاع الروسية في بيان أول من أمس الثلاثاء، ذكرت فيه: "لا تعاندوا القدر واتخذوا القرار الصحيح الوحيد بوقف العمليات العسكرية وإلقاء السلاح".

أعلام النصر فوق الركام

وبعد نشر رايات قوات "أحمد سيلا" (قوة أحمد، نسبة لوالد رئيس الشيشان الحالي رمضان قديروف) التي تشارك بفعالية منذ أسابيع في معارك ماريوبول، تحضر القوات الروسية والشيشانية لرفع مزيد من أعلام النصر على ركام مدينة كانت تزخر بالحياة، ولكن الآلة العسكرية الروسية حوّلتها أثراً بعد عين في تكرار لمشاهد العاصمة الشيشانية غروزني في عامي 1999 و2000 وشرقي مدينة حلب السورية في عام 2016.

وحول تطورات ماريوبول، قال سيرغي فولينا من لواء مشاة البحرية 36، المتحصن في مصنع "آزوفستال" الضخم، بحسب ما نقلت وكالة "فرانس برس" إن "العدو يفوقنا عدداً بمعدل عشرة إلى واحد".


اتُهمت روسيا بجريمة حرب بعد قصفها مسرح ماريوبول

 

وأضاف: "نطلب نقلنا إلى منطقة تابعة لطرف ثالث"، مشيراً إلى أن القوات الروسية تتمتع "بأفضلية في الجو وسلاح المدفعية والقوات على الأرض والمعدات والدبابات".

ويطوي هذا النداء مرحلة طويلة من مقاومة المتحصنين في المدينة على الرغم الكلفة العسكرية والبشرية الباهظة، وجاء إثر انقطاع الإمدادات من الجانب الأوكراني منذ أسابيع.

ومنذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي فرضت البحرية الروسية حصاراً خانقاً على ميناء ماريوبول الاستراتيجي، المطلّ على بحر آزوف المتفرّع من البحر الأسود، والذي تصدر منه أوكرانيا كثيراً من المحاصيل الزراعية ومنتجات التعدين في منطقة دونباس (الذي يضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) الأوكرانية.

وانتقلت روسيا من حصار المدينة براً وقصفها في الأيام الأولى إلى السيطرة على محيطها، وأطلقت لاحقاً عمليات عسكرية باتجاهها من محورين الأول. الأول من شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمّتها روسيا بالقوة في عام 2014، والثاني من إقليم دونيتسك الانفصالي.

إجلاء مدنيين من مارويوبول أمس (ألكساندرإيرموشنكو/رويترز)
إجلاء مدنيين من مارويوبول أمس (ألكساندرإيرموشنكو/رويترز)

وتتهم السلطات الأوكرانية وبعض المنظمات الحقوقية روسيا بارتكاب جرائم حرب في ماريوبول، وتتواصل التحقيقات حول قصف مسرح المدينة (في 16 مارس/آذار الماضي) الذي لجأ إليه كثير من المدنيين، وقُتلوا نتيجة قصف تنكر روسيا مسؤوليتها عنه، وتتهم من تسميهم بـ"الجماعات النازية" بتنفيذ الهجوم الذي أودى بحياة مئات بينهم أطفال من أجل إلصاق التهمة بالجيش الروسي وتشويه سمعته.

ورفضت روسيا نداءات ووساطات من عدة دول لوقف القصف وتأمين خروج المدنيين والمسلحين من المدينة. وعانى المدنيون في ماريوبول لعدة أسابيع من انقطاع الكهرباء والاتصالات والمياه، إضافة إلى توقف المحلات التجارية عن العمل وانتهاء مخزوناتها.

وأظهرت مقاطع بثها التلفزيون الروسي في الأسبوعين الأخيرين مدينة أشباح مدمّرة، مع بعض كبار السن والأطفال الذين يشكرون القوات الروسية على تقديم مساعدات من الماء وأرغفة خبز، في مدينة كانت تخرج منها صادرات من الحبوب تكفي لإطعام عشرات الملايين حول العالم قبل الحرب الأخيرة.

وفقاً للسلطات المحلية في المدينة فقد قُتل ما لا يقل عن 21 ألف مدني

 

ووفقاً للسلطات المحلية في المدينة فقد قُتل ما لا يقل عن 21 ألف مدني في القصف والعمليات العسكرية الروسية، إضافة إلى تدمير المدينة بشكل شبه كامل، بما في ذلك الميناء ومصانع الصلب التي كانت يوماً ما فخراً للصناعة السوفييتية ولاحقاً الأوكرانية.

وبدأت المعركة للسيطرة على ماريوبول في 25 فبراير الماضي، أي في اليوم التالي للحرب. وتضاربت البيانات الروسية حول حجم القوة المدافعة عن المدينة.

وقدّر النائب الأول لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، الجنرال سيرغي رودسكي، العدد الإجمالي للمقاتلين الأوكرانيين بنحو 7 آلاف عنصر في 25 مارس الماضي. وفي 16 إبريل/ نيسان الحالي قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف، إن عدد المقاتلين عند تطويق المدينة في 11 مارس الماضي بلغ قرابة 8100 مقاتل، موزعين على اللواء 36 من مشاة البحرية واللواء 109 وكتيبة 503 لمشاة البحرية ووحدات من اللواء السابع المضاد للدبابات، إضافة إلى عناصر من مجموعة "آزوف" و"أيدار" و"القطاع الأيمن"، التي تصنّفها روسيا كوجدات للنازيين الجدد.

ولكن قائد القوات الانفصالية في دونيتسك، ستيبان سيلفرستوف أفاد في 9 مارس الماضي، أن عدد المقاتلين المدافعين عن ماريوبول بلغ 20 ألف عسكري، إضافة إلى آلاف المقاتلين من كتيبة "آزوف".

ومن الجانب الروسي شارك في المعارك اللواء 810 من مشاة البحرية 12 والفرقة المدرعة الآلية 150، إضافة إلى خمسة آلاف جندي من القوات الشيشانية الخاصة.

تعرضت المدينة للقصف المدفعي منذ 24 فبراير الماضي، وفي اليوم التالي تحركت القوات الروسية من الجهة الشرقية للمدينة عبر الأراضي التي يسيطر عليها الانفصاليون في دونيتسك.

وحسب البيانات الروسية فقد حاصرت قوات "جمهورية دونيتسك الشعبية" الانفصالية المدينة من جميع الجهات في 28 فبراير، وأطبقت الحصار بشكل كامل في 3 مارس.

وبعدها بيوم أعلن نائب رئيس القوات الانفصالية في دونيتسك، إدوارد باسورين، أن قواته ضيّقت الخناق على المدينة وسيطرت على مصنع "لينين" للصلب.

جندي روسي على دبابة في ماريوبول (ماكسيميليان كلارك/Getty)
جندي روسي على دبابة في ماريوبول (ماكسيميليان كلارك/Getty)

وبدأت على أثرها عمليات إجلاء المدنيين، مع تبادل الطرفين الاتهامات بقصف الممرات الإنسانية. وفي 6 مارس أعلنت قوات دونيتسك السيطرة على "ستاري كريم" على مشارف ماريوبول.

وفي صفحة مأساوية من يوميات الحرب في ماريوبول أعلنت سلطات المدينة في 9 مارس عن إصابة 17 شخصاً، بينهم مرضى وأطباء في قصف روسي على مستشفى الولادة رقم 1 في المدينة، وهو ما نفته روسيا.

وذكرت في بيان أن جميع المستشفيات والمستوصفات توقفت عن العمل، ونظراً للظروف المأساوية وصعوبة العمل، قرر الصليب الأحمر وقف خدماته في المدينة نهائياً في 16 مارس.

وفي 17 مارس قال حاكم الشيشان، رمضان قديروف، إن قواته تشارك في عملية تحرير المدينة ونشر مقاطع فيديو لجنوده في شوارع المدينة. وذكر في 24 مارس ان قواته سيطرت على مبنى البلدية، قبل أن يتراجع عن تصريحاته بعدما ثبت أنها بعيدة عن المركز.

واعتباراً من 19 مارس لجأت روسيا إلى استخدام الصواريخ والقنابل الثقيلة لتدمير مصنع "آزوفستال" وتصفية المقاتلين أو إجبارهم على الاستسلام.

وفي 29 مارس أعلنت القوات الانفصالية في دونيتسك السيطرة على مركز المدينة، وانتقلت بعدها المعارك إلى الميناء ومصنع الصلب. وفي نهاية الشهر الماضي، أعلن مجلس المدينة أن 90 في المائة من البنى التحتية بات مدمراً، من ضمنها 2140 عمارة سكنية، و61 ألف منزل منفصل، و7 مستشفيات، و57 مدرسة، و7 مراكز تعليمية و70 حديقة أطفال.

من المؤكد أن "بروباغاندا" الكرملين ستسوق السيطرة على ماريوبول على أنه نصر كبير

 

وشكّل الاستيلاء على المدينة ومحيطها هدفاً استراتيجياً مهماً للعملية العسكرية الروسية، نظراً لأنها ضمن الحدود الإدارية لإقليم دونيتسك الانفصالي في عام 2014، الذي اعترفت روسيا به جمهورية مستقلة قبل يومين من العملية العسكرية، ووقّعت مع الجمهورية الانفصالية اتفاقية صداقة وتعاون تتضمن الدفاع عنها.

ومع سيطرتها على المدينة، تحقق موسكو هدفاً مهماً آخر وهو وصل شبه جزيرة القرم التي ضمتها في 2014 براً بالأراضي الروسية، عبر إقليمي دونيتسك ولوغانسك.

كما أن الاستيلاء على ماريوبول يحول بحر آزوف إلى بحيرة روسية مغلقة، وينهي أي امكانية لدخول السفن العسكرية الغربية إلى البحر عبر مضيق كيرتش، الذي يفصل البحر الأسود عن بحر آزوف.

وتفتح السيطرة على ماريوبول الباب أمام تقدم القوات الروسية نحو مناطق أوسع في جنوب أوكرانيا، والتركيز على استعادة السيطرة على كامل الحدود الإدارية لإقليم لوغانسك في 2014 الذي لم تستطع القوات الانفصالية بمساعدة الروس إلا من السيطرة على قرابة 55 في المائة من مساحته بعد 55 يوماً من بدء الحرب. كما من شأن سقوط ماريوبول بيد الروس، أن يدفعهم للتركيز على أوديسا، في الجنوب الشرقي.

ولهذه الخطوة انعكاسات سلبية على حكومة كييف، لأن السيطرة على أوديسا، ستجعل من أوكرانيا بلادا من دون بحر عملياً، وحينها يكون الروس قد نجحوا في ربط مواقعهم براً، من المنطقة روستوف في الغرب الروسي إلى إقليم ترانسنستريا الانفصالي المولدافي في الغرب الأوكراني.

ومن المؤكد أن "بروباغاندا" الكرملين ستسوق السيطرة على ماريوبول على أنه نصر كبير، بغض النظر عن الخسائر العسكرية والبشرية التي تكبدتها، أو أعداد القتلى الأوكرانيين والدمار الهائل في المدينة المنكوبة.

الحاجة الروسية لـ"النصر"

وعلى الرغم من حاجتها الماسة إلى إعلان إنجاز عسكري كبير بعد تعثر العملية العسكرية في محيط كييف وغيرها من الأماكن، فمن غير المستبعد أن تؤجل روسيا إعلان "النصر" على ماريوبول، والسماح لوسائل الإعلام المستقلة بدخول المدينة، إلى حين إنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بضمان عدم تكرار فضيحة مقابر بوتشا الجماعية، في ضواحي العاصمة كييف، التي تكشفت فيها انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب قامت بها القوات الروسية أثناء احتلالها قبل اضطرارها إلى الانسحاب في نهاية مارس الماضي.

وتؤمن السيطرة على ماريوبول للجانب الروسي حزاماً أمنياً واقياً لشبه جزيرة القرم في الأراضي الأوكرانية، يمتد من شمال شرقي شبه الجزيرة إلى شمالها الغربي بعد سيطرة الجيش الروسي على منطقة خيرسون.

وتسعى روسيا إلى استكمال هذا الحزام الأمني عبر السيطرة على مدينة ميكولاييف، ومن المتوقع أن تصبح المدينة الاستراتيجية على البحر الأسود الهدف المقبل لتكثيف العمليات العسكرية، بما تشكله من بوابة نحو التقدم جنوباً نحو ميناء أوديسا أو شمالاً نحو وسط أوكرانيا.


ترغب روسيا بربط الطريق بين دونباس والقرم عبر ماريوبول

 

وعلى خلفية تقارير غربية بأن روسيا حشدت في إقليم دونباس 78 مجموعة تكتيكية، مكوّنة من عناصر أسلحة مشتركة، مثل الدفاع الجوي والدبابات والمركبات التكتيكية والمدفعية والمروحيات والدعم الهندسي واللوجيستي، مع إمكانية انضمام 22 كتيبة تكتيكية روسية انسحبت من شمال كييف، بعد إعادة إمدادها وتجهيزها وتجديدها، فالأرجح أن تكون العمليات العسكرية الروسية أكثر حدة.

وقد تضع روسيا أهدافاً تصل إلى العمل على احتلال كامل شرق وجنوب أوكرانيا ومن ضمنها العاصمة، وثاني كبرى مدن أوكرانيا، خاركيف التي تتعرض للقصف منذ نحو 40 يوماً، بالإضافة إلى زابوريجيا، في مسعى للسيطرة على كامل إقليم دونباس ومنطقة "روسيا الجديدة"، التي ضمّت في القرنين 18 و19 مناطق واسعة من شرق وجنوب أوكرانيا.

ويرتبط تحقيق الأهداف العسكرية الروسية المستقبلية بمدى صمود الأوكرانيين على الأرض ووصول المساعدات العسكرية الغربية في الوقت المناسب، لتعطيل مخططات الكرملين، الذي أكد أكثر من مرة أن العمليات العسكرية تسير وفق الخطة المقرّة من دون كشف تفاصيل إضافية.

جرائم إبادة في ماريوبول وبوتشا

وبات واضحاً أن ما بعد ماريوبول وبوتشا ليس كما قبلها. فالمدينتان تحولتا عالمياً إلى رمز لإدانة روسيا وتوجيه اتهامات لها بجرائم حرب ترقى وفق بعض الساسة ورجال القانون إلى جرائم إبادة جماعية. وربما استطاع الكرملين السيطرة على "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) التي تفاخر بها القياصرة يوماً على أنها أهم المراكز الصناعية في الإمبراطورية، ولكن هذه المناطق مدمّرة وتحتاج استثمارات هائلة لإعادتها إلى ما كانت عليه قبل 24 فبراير الماضي.

وعلى الرغم من العقوبات والأزمة الاقتصادية، فقد يوظف الكرملين وأوليغارشيته المليارات لإعادة الإعمار، ولكن المؤكد أن اتهامات جرائم الحرب ستلاحق النخب الروسية الحاكمة في أوكرانيا والعالم.

كما أن المليارات لن تستطيع تبديل مشاعر الأوكرانيين الذين بات معظمهم ينظر إلى الروس كمحتلين ومرتكبي جرائم ضد بلادهم، ويرغب كثير منهم بقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية والدينية مع روسيا التي كسبت أرضا تضاف إلى 17 مليون كيلومتر مربع، ولكنها خسرت الأوكرانيين الذين يشكلون حسب سردية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التاريخية، الضلع الثالثة للشعوب السلافية الشرقية مع الروس والبيلاروسيين، وعاصمتهم كييف مركز انطلاق الحضارة الروسية في القرن التاسع.

المساهمون