لماذا لا يكترث العالم: النّكبة المستمرة بعد قرارات الأمم المتّحدة "الألف"

28 مايو 2023
احتفال بالذكرى الـ 75 للنكبة في قاعة الجمعية العامة ( مايكل إم سانتياغو/Getty)
+ الخط -

في حديثه في الأمم المتّحدة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين قال الرئيس الفلسطينيّ، محمود عباس، يوم 15 مايو/أيّار 2023، أنّ المنظّمة الدّولية، تبنّت نحو ألف قرار يثبت الحق الفلسطينيّ، ولم تنفّذ أيّاً منهم، وطلب تنفيذ "ولو قرار واحد". جاء ذلك أثناء تقديمه عرضاً تاريخيًّا مطولاً استغرق 56 دقيقة للقضيّة الفلسطينيّة. والسؤال الذي يبرز هنا، لماذا يجب رواية تفاصيل القضيّة الفلسطينية أكثر من مائة عام؟ هل يعني هذا أنّ جدل الرواية يراوح نفسه؟ والعالم يجادل في حق الشعب الفلسطينيّ، وفي نكبته، بل في وجوده؟ هل ما زالت النّكبة بحاجة إلى إثبات؟

هُناك الكَثير من المؤشرات الّتي توضح؛ أنّه بقدر تَقدّم حُضور الخِطاب الفِلسطينيّ أكاديميًّا وجماهيريًّا وحتى قانونيًّا ودبلوماسيًّا، تتراجع السياسات الرسميّة الدوليّة إزاء الحقّ الفلسطينيّ، سواء لأنّ هناك مصالح تتسع مع الطرف الإسرائيليّ، أو هناك تراجع في دعم حركات التّحرّر عموماً.

في عام 2017، استعد الفلسطينيّون لذكرى وعد بلفور المئوية، للحصول على اعتذار دوليّ؛ خصوصاً من المملكة المتّحدة، الّتي أطلق وزير خارجيتها آرثر بلفور وعد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. فوجئ الفلسطينيّون أنّ بريطانيا لا تنوي تقديم اعتذار، بل الاحتفال بالوعد وذكراه.

هذا كله؛ يقلل من الحاجة إلى التوصل لتفاهمات وترتيبات مع القيادة الرسمية الفلسطينيّة، على اعتبار أنها لا تملك قرار الحرب والسّلام

قبل الحديث عن مؤشرات تراجع موقف كثير من دول العالم، يجب ذكر بعض النجاحات الفلسطينيّة، مثل انتشار حملة مقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل (BDS)، أو حصول فلسطين على عضويّة "دولة مراقب" في الأمم المتّحدة عام 2012، ونجاح دخول فلسطين منظمات مهمة مثل منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة -اليونسكو (عام 2011)، وعضويّة عشرات المنظّمات الدوليّة (يشير موقع منظّمة التّحرير الفلسطينية إلى عضويّة 33 منظّمة تابعة للأمم المتّحدة)، واللجوء إلى محكمة الجنايات الدوليّة.

لكن هذه النجاحات لا تلغي التراجع الذي يفسر تساؤل "الألف قرار" الذي قدمه عباس، وقبل توضيح أسباب التراجع يجدر توضيح بعض معالم هذا التراجع.

تقدم المصالح مع إسرائيل: الصين والهند نموذجاً

إذا كانت الصين في الماضي، وتحديداً في الخمسينيّات والستينيّات مصدراً أساسيًّا لدعم الثورة الفلسطينيّة، عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وكذلك كانت الهند تعبّر عن صداقة خاصة مع الفلسطينيّين ودعم حقوقهم، فإنّ نمو علاقات هذين البلدين العملاقين مع إسرائيل منذ أواسط التّسعينيات يكشف الكثير.

تتملّك الصّين الآن عدداً من أهم وأكبر المشاريع الإسرائيليّة. لقد ارتفعت استثمارات الصّين في إسرائيل من 40 مليار دولار عام 2000 إلى 200 مليار دولار عام 2022، ولدى الصين مئات الاستثمارات في القطاع التّكنولوجيّ الإسرائيليّ، وتدير الصّين مشاريع بنيّة تحتيّة حيوية مثل ميناء في حيفا.

بالنسبة للهند، فهي أكبر مشتر للسلاح الإسرائيليّ، ودخلت الدّولتان تجمع I2U2 (إسرائيل، الهند، والإمارات العربية المتّحدة، والولايات المتّحدة)، الذي تأسس في عام 2022 لتنفيذ مشاريع إقليميّة مشتركة، ومثل الصين، قفزت تجارة الهند مع إسرائيل من 200 مليون دولار عام 1992 إلى أكثر من 8 مليارات دولار عام 2022، ويصل الرقم إلى نحو 10 مليارات دولار إذا أضيف له مبيعات السلاح الإسرائيليّة للهند.

اللاساميّة والحملات على شرعيّة النضال الفلسطينيّ

هناك هجمة منظّمة من عدد من الدول على الحق الفلسطينيّ، نيابة عن الإسرائيليّين، فمثلاً تتولى هنغاريا إعاقة المساعدات من الاتّحاد الأوروبيّ لفلسطين، بحجة أنّ كتب التدريس الفلسطينيّة تتضّمن إشارات لاساميّة، وقد نجحت هذه الدولة بتأجيل مساعدات الفلسطينيّين من الاتّحاد الأوروبيّ شهوراً، بهذه الحجة عام 2022، مستفيدةً من ضرورة الإجماع الأوروبيّ في بعض القرارات. وتشن جهات أوروبيّة ودول حملة على السلطة الفلسطينيّة بسبب المناهج، وفي عام 2020 أوقفت النرويج مثلاً، نصف مساعداتها للفلسطينيّين، بسبب كتب التدريس الفلسطينيّة وادعاء نشر الكراهية فيها. في الوقت ذاته ترفض الدّول ذاتها دراسة المناهج الإسرائيليّة، أو اعتبار ما تتضّمنه الكتب الاسرائيليّة أمراً يجب أنّ تتابعه أو تلاحقه.

في موضوع آخر؛ تشترك دول أوروبيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة، في شن حملة على الفلسطينيّين، بسبب نظام الرواتب أو المخصصات، الذي تقدمه منظّمة التّحرير للأسرى، وقد استغل أعضاء كونغرس أميركيّون قانوناً أقر عام 1987 يعتبر المنظّمة إرهابية، (أخطأت المنظّمة بتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 دون إلغاء هذا القانون) لبناء قوانين أخرى عليه. ويوجد الآن مجموعة قوانين أميركية ضد الفلسطينيّين، من ضمنها قانون تايلور فورس لعام 2018، الذي يوقف مساعدات الفلسطينيّين، حتى تشهد وزارة الخارجيّة الأميركيّة أنّ منظّمة التّحرير، أو أيّ هيئة تحل مكانها، تقوم بما يكفي لمنع العنف ضد الإسرائيليّين والأميركيّين، وإلغاء أيّ قانون أو نظام يتيح تعويضات للأسرى، وتحديداً الأنظمة الّتي تربط التعويضات أو الراتب بمُدّة الحُكم، وهذا مجرد واحد من القوانين الّتي تصنف الفلسطينيّين ضمن الجهات المستهدفة بمناهضة الإرهاب.

بقدر تَقدّم حُضور الخِطاب الفِلسطينيّ أكاديميًّا وجماهيريًّا وحتى قانونيًّا ودبلوماسيًّا، تتراجع السياسات الرسميّة الدوليّة إزاء الحقّ الفلسطينيّ

لتفسير هذا التقارب بين دول رئيسيّة وإسرائيل، أو زيادة الضغط على الفلسطينيّين، يمكن الإشارة إلى عدد من الأسباب.

أولّاً: نهاية عهد حركات التّحرّر

 لقد انتهى مع بداية التسعينيات عهد حركات التّحرّر، عدا سقوط المعسكر الاشتراكيّ، فإنّ تقدم الزّمن بعد أنّ نالت كثير من الدول استقلالها من الاستعمار، أدّى إلى وجود أجيال جديدة من السياسيّين تفكر بمصالح دولها براغماتيًّا واقتصاديًّا تحديداً، ودون رؤية لوحدة أو تضامن حركات التّحرّر في العالم. ساعد على هذا حركة اللبرلة الاقتصاديّة الّتي انتشرت بعد سقوط الاتحاد السوفييتيّ، وهذا العامل يفسر جزئيًّا أيضاً ميل دول عربيّة نحو التطبيع وتهميش مسألة التضامن العربيّ لصالح المصالح القوميّة الخاصة للدولة.

ثانياً: اتفاق أوسلو

لا شك في أنّ توقيع اتّفاقات السّلام الانتقاليّة المؤقّتة، المعروفة باتّفاقيات أوسلو عامي 1993 و1994، سهّلت اتّجاه كثير من الدول للاعتراف بإسرائيل، وبداية علاقات علنية معها، وهو ما استغلته إسرائيل جيداً. إذ إنّ توقيع أصحاب القضيّة؛ ممثلين بمنظّمة التّحرير، اتفاقيات سلام مع إسرائيل، أزّال الحرج أمام عن دول وأنظمة، أو حتى وضعها في موقف حرج، لا يمكن أن تدافع فيها أمام قوى غربيّة، وإسرائيل، وجهات مختلفة، عن الاستمرار في عدم التطبيع مع إسرائيل.

ثالثاً: تراجع خطاب المقاومة فلسطينيًّا وعربيًّا

يمكن القول إنّه مع عام 1974 كان كثير من الأهداف الّتي سعى إليها مؤسِّسو منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، والفصائل الوطنيّة الفلسطينيّة، قد تحققت، ولا سيمّا على صعيد الاعتراف بالمنظّمة، "ممثلاً شرعيًّا ووحيدًا"، من قبل الأمم المتّحدة.

يلاحظ أنّ تلك الانجازات كانت عقب ثلاثة تطوّرات أساسيّة حينها، تؤكد فرضيّة أنّ العالم يحترم القوي. الأوّل؛ هو النضال الفلسطينيّ وخصوصاً المسلّح المشفوع أو المتبوع، بالعمل الدّبلوماسيّ والإعلاميّ. التطور الثاني، الصعود العسكريّ العربيّ، عبر حرب أكتوبر/تشرين الأوّل 1973 السوريّة- المصريّة ضد إسرائيل. والتطور الثالث، كان تحرير النفط، ففي عام 1973، وبالتّوازي مع حرب أكتوبر، لم تحظر الدول المنتجة للنّفط النّفط ضدّ الدّول الغربيّة الدّاعمة لإسرائيل وحسب، بل الأهم من ذلك أجبرت شركات النفط على بيع حصصها، وتم تأميم النفط، هذا كلّه غير الموقف الدوليّ من القضايّا العربيّة، وفي مقدمتها الفلسطينيّة.

كلّ ذلك بموازاة استمرّار النّضال الفلسطينيّ، والمواجهات والعمليات الفدائيّة في النصف الثاني من السبعينيات، وثلاثة حروب في جنوب لبنان (1978، 1981، 1982)، اتسع الاعتراف بالحق الفلسطينيّ، على غرار بيان البندقية (13 يونيو/حزيران 1980)، عندما أقرت المجموعة الأوروبيّة أنّ "التوتر المتنامي الذي يمس هذه المنطقة" يزيد الحاجة إلى حل الصراع العربيّ الإسرائيليّ، على أسس منها "الاعتراف بالحقوق المشروع للشعب الفلسطينيّ"، و"إيجاد حلٍّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة، والّتي هي ليست مجرّد قضيّة لاجئين".

بعد انتفاضة 1987 اتسعت جهود التسويّة الدوليّة، وصولاً إلى اتفاقيات السّلام المؤقّتة الانتقاليّة عامي 1993 و1994، ثم خطة الرباعيّة الدوليّة عام 2002، لإقامة دولة فلسطينيّة، وذلك على وقع انتفاضة الأقصى.

في الوقت ذاته ترفض الدّول ذاتها دراسة المناهج الإسرائيليّة، أو اعتبار ما تتضّمنه الكتب الاسرائيليّة أمراً يجب أنّ تتابعه أو تلاحقه

اختيار قيادة منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، خصوصاً بعد العام 2004 خطاب الحل الدبلوماسيّ والقانونيّ والمقاومة السلميّة حصراً، قلّل من شعور الإلحاح عند دول العالم لإبداء التّضامن مع الفلسطينيّين؛ فجزء كبير من دول العالم تتحرّك إذا كان هناك توتّر، أو عدم استقرار لاحتوائه فقط.

رابعاً: ما بين أولويات السلطة والتّحرير

إنّ تحول مهام القيادة الرسميّة الفلسطينيّة، ليصبح القيام بأعباء الحكم والسلطة؛ من دفع أجور، وتسيير الحياة اليوميّة، وضعها في موقع ضعيف، يسهل معه الضغط عليها. ورغم قيام هذه القيادة برفض الضغط الدوليّ ودفع ثمن كبير جراء ذلك، كما حدث في رفض مبادرة الصفقة النهائيّة، الّتي قدمها الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب، جعل من دول العالم تدرك أنّ الضغط على هذه القيادة قد يؤدي إلى تهدئة خطابها واحتواء أيّ تصعيد.

وقد انضمت حركة "حماس"؛ باعتبارها سلطة أمر واقع في غزّة، إلى هذه المعادلة، فأصبحت تتحاشى المواجهة المسلحة من قطاع غزّة، كما حدث في أكثر من مناسبة، وتركت تنظيم الجهاد الإسلاميّ يخوض وحده مواجهة صاروخيّة مع إسرائيل، حتى لا تسقط ترتيبات تخفيف الحصار، الّتي وصلت لها مع إسرائيل، بوساطة دول عربيّة، وهذا جعل اهتمام دول العالم بعيداً عن الحل السّياسيّ.

خامساً: الانقسام الفلسطينيّ

لا يمكن القول إنّ المقاومة الفلسطينيّة؛ بما في ذلك المسلحة، انتهت، لكنّ هناك انفصاما بين من يملك قرار التمثيل السياسيّ ومن يملك قرار المواجهة العسكريّة، وهذا على أكثر من صعيد، بما في ذلك الفصائل المسلحة في غزّة، أو المجموعات المسلحة في الضفة، أو المقاومة الفرديّة، هذا كله؛ يقلل من الحاجة إلى التوصل لتفاهمات وترتيبات مع القيادة الرسمية الفلسطينيّة، على اعتبار أنها لا تملك قرار الحرب والسّلام.

سادساّ: اللوبي الإسرائيليّ

يقوم اللوبي الإسرائيليّ بدور متنامٍ في العالم، وليس في الولايات المتّحدة، وحسب، لنشر رواية مضادة للرواية الفلسطينيّة. فمثلاً كلفت عام 2015 وزارة باسم "وزارة الشؤون الاستراتيجيّة والإعلاميّة" في إسرائيل للعمل ضد حملات مناصرة الفلسطينيّين حول العالم، خصوصاً ضد حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، كما دُعم اللوبيّ الاسرائيليّ في الاتّحاد الأوروبيّ (في بروكسل) كثيراً، وحدث اختراق اسرائيليّ لأكبر شركات وسائل التواصل الاجتماعيّ. وهذا اللوبي يتبنى خطط سن قوانين ضد الفلسطينيّين خصوصاً، واعتبار أي نقد لإسرائيل نوعا من اللاساميّة والعنصريّة، وإثارة قضايا الأسرى الفلسطينيّين، ومناهج التعليم.

المساهمون