كاسيانوف يغادر روسيا: رئيس حكومة بوتين الذي انقلب عليه

04 يونيو 2022
كاسيانوف مطالباً بحريّة الإنترنت في موسكو، مايو 2018 (صفا كاراجان/الأناضول)
+ الخط -

في مؤشر إلى الخيارات الضيقة أمام معارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحربه على أوكرانيا، ما بين الصمت أو الاعتقال وفتح قضايا جنائية وملفات فساد، أو مغادرة البلاد، أكد السياسي الروسي المعارض ميخائيل كاسيانوف مغادرة روسيا، من دون أن يفصح عن مكان إقامته.

وتكشف السيرة السياسية لكاسيانوف، كأول رئيس حكومة في عهد بوتين (بين عامي 2000 و2004)، وإقالته قبل أشهر من ترشح الأخير لفترة رئاسية ثانية، ولاحقاً الحملات الإعلامية والاتهامات بالفساد، عن الطريقة التي يتعامل بها "سيد الكرملين" مع من يشق "عصا الطاعة"، والمسار الذي تمضي فيه روسيا منذ 2004.

ولد كاسيانوف في عام 1957. وبعد الدراسة والخدمة العسكرية، اختار العمل في الخدمة الحكومية في الحقبة السوفييتية، وحالفه الحظ مرتين، الأولى في 1981 حين قُبِل في لجنة تخطيط الدولة "غوسبلان"، وهي اللجنة المشرفة على جميع المشروعات في الدولة السوفييتية.

والثانية حين استفاد من الرياح التي حملتها "البيريسترويكا" وضرورة الاستعانة بالخبرات الشابة، ليصبح في سن صغيرة في منصب رئيس قسم في إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية.

مرحلة ما بعد انهيار السوفييت

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، تدرج كاسيانوف في السلم الوظيفي في وزارة المالية، ليتولى الوزارة بعد أزمة أغسطس/آب المالية عام 1998، التي أعلنت على أثرها الحكومة عجزها عن سداد الديون.

وفي أثناء عمله نائباً لوزير المالية، قاد التفاوض مع الدائنين الغربيين، ونجح ما بين 1994 و1996 في إقناع دائني نادي باريس ولندن بتسوية وتأجيل 150 مليار دولار من ديون الاتحاد السوفييتي السابق وفق اتفاقية شاملة لإعادة هيكلة الديون السوفييتية، لمدة 25 عاماً مع فترة سماح. وفتحت الاتفاقية أسواق القروض الغربية أمام الحكومة الروسية والمصارف.

في المقابل، يُتهم كاسيانوف بأنه استخدم علاقاته الدولية في تلك الفترة من أجل ضمان فوز الرئيس بوريس يلتسين لفترة رئاسية ثانية، وأنه أقنع الغرب بضرورة تقديم قروض للحكومة، وحصل على نحو 4.5 مليارات دولار في ربيع 1996.

دعم كاسيانوف ليلتسين منحه حظوة لدى الكرملين والإصلاحيين

 

وهو ما مكّن يلتسين من الوفاء بتعهداته بتسديد الرواتب المتأخرة المستحقة للعمال والموظفين في مايو/أيار 1996، وإنهاء الاحتجاجات، ولاحقاً الفوز بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية على حساب المرشح الشيوعي غينادي زوغانوف، علماً أن شعبية يلتسين وصلت، حسب استطلاعات الرأي في مارس/آذار 1996، إلى نحو 2 في المائة فقط.

وفي مقابلة مطولة مع محطة "راديو سفوبودا" (الحرية) عام 2016، أقر كاسيانوف بمسؤوليته جزئياً عن استخدام موارد الدولة وعلاقاتها الخارجية من أجل عدم فوز زوغانوف وعودة الشيوعيين.

ومن المؤكد أن دعم كاسيانوف ليلتسين منحه حظوة لدى الكرملين والإصلاحيين، ما مكنه من المحافظة على مركزه والارتقاء أكثر على الرغم من الفترات العصيبة التي مرت بها البلاد عامي 1998 و1999.

وفي مقابل صعود كاسيانوف التدريجي، كان ضابط الاستخبارات الروسية فلاديمير بوتين، الذي شارف على العمل سائق أجرة لتأمين لقمة عيشه، لولا اختياره للعمل مع عمدة سانت بطرسبورغ الأسبق أناتولي سابتشاك، يصعد بشكل صاروخي إلى قمة الهرم في الكرملين مع اختياره خليفة ليلتسين قبل نهاية 1999. ونفى كاسيانوف أكثر من مرة وجود صفقة أو اتفاق بين بوتين ويلتسين قضت بتسلمه رئاسة الحكومة.

وقاد كاسيانوف الحكومة الروسية عملياً منذ مطلع عام 2000 مع تعيينه نائباً أول لرئيس الحكومة، وهي المهمة التي احتفظ بها بوتين الذي كان قائماً بأعمال الرئاسة بعد استقالة يلتسين حتى 7 مايو من العام عينه، وحينها بات كاسيانوف رئيساً للحكومة مع تسلم بوتين رسمياَ منصب الرئيس الروسي.

البدايات مع بوتين

وأكد كاسيانوف أن بوتين عرض عليه، في حال نجاحه في الانتخابات الرئاسية المبكرة في 2000، رئاسة الحكومة، بناء على خطة إصلاحات وافق عليها بوتين، الذي اشترط ألا يتدخل كاسيانوف في السياسة الداخلية، وهي العلاقة مع الأقاليم والجمهوريات ضمن الاتحاد الروسي، والعلاقة مع الأحزاب السياسية، وكذلك ألا يتدخل في أجهزة الأمن وأن تبقى حصرياَ تحت إشراف بوتين وإدارة الكرملين.

وتمكن كاسيانوف، في غضون أشهر قليلة، من حل المشاكل الرئيسية المتعلقة بالديون الخارجية الروسية، ووضع الأساس لمزيد من النمو الاقتصادي بفضل الاستخدام الماهر لنتائج تخفيض قيمة الروبل، وتقليص عجز الميزانية وتخفيف عبء ديون البلاد، ما ساهم في تهيئة الظروف لتحقيق نمو اقتصادي مستدام.

وتمكّن كاسيانوف من استكمال المفاوضات مع نادي لندن لشطب 35 في المائة من الدين السوفييتي، ما أدى إلى انخفاض كبير في دين روسيا الخارجي.

وتبنّت حكومة كاسيانوف خطة إصلاحات هيكلية شاملة، من ضمنها إصلاحات الضرائب والميزانية والرواتب التقاعدية، وتحرير تنظيم النقد الأجنبي والتجارة الخارجية، وخفض رسوم الجمارك على صف واسع من المنتجات، وإصلاح قانون ملكية الأراضي وإجراءات السوق لدعم الزراعة، وإصلاحات أخرى.

وساهمت الإصلاحات في تراجع التهرب الضريبي وزيادة واردات الخزينة بعد خفض الضرائب إلى 13 في المائة، وإلغاء قرابة 40 رسماً ضريبياً.

وفي عهد كاسيانوف، بدأت الحكومة في تحويل جزء من واردات النفط والغاز إلى "صندوق الاستقرار"، الذي أسسته بهدف الاستفادة منه في مشروعات تطوير الاقتصاد ومواجهة أي عجز في الموازنة.

ووافقت حكومة كاسيانوف على الملكية الكاملة للأرض، وبدأت نقل الأراضي الزراعية إلى التداول الخاص. وسمحت الطرق القائمة على آليات السوق لدعم الزراعة في البلاد بتحقيق اكتفاء ذاتي من الحبوب للمرة الأولى منذ 90 عاماً، وأسست لانتقال روسيا إلى مصاف أبرز المصدرين العالميين في قطاع الحبوب. 

وفي عام 2003، أطلقت حكومة كاسيانوف إصلاحاً إدارياً يهدف إلى تقليص وظائف الدولة بشكل كبير وجهاز الدولة. وعلى الرغم من أن أسعار النفط تراوحت ما بين 20 و25 دولاراً للبرميل، فقد حققت البلاد في أثناء حكومة كاسيانوف نمواً هو الأفضل في تاريخ روسيا الحديثة بمعدل 6.8 في المائة سنوياً.

وتراجع عدد الفقراء من 42 مليوناً في عام 2000 إلى 24 مليوناً في عام 2004، ونما احتياطي المصرف المركزي من الذهب والنقد الأجنبي من 33 مليار دولار إلى 87 ملياراً.

وعلى الرغم من تحسن المؤشرات الاقتصادية، فقد برزت خلافات بين بوتين وكاسيانوف، وأهمهما رفض بوتين إصلاحات قطاع الغاز، وانتهاء ملكية "غازبروم" لشبكة نقل الغاز وتأسيس شركة خاصة للنقل على غرار "ترانس نفط" لنقل النفط.

وفي خريف 2002، عارض كاسيانوف اللجوء إلى القوة لإنقاذ أرواح المحتجزين في مسرح "دوبروفكا"، جنوبي موسكو، وتحريرهم من أيدي جماعة شيشانية، وحينها أبعد بوتين كاسيانوف عن المشاركة في النقاشات والإجراءات لحل القضية، وأوفده لحضور قمة منتدى "آبيك" (منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ) في المكسيك.

وفي عام 2003، اعترض كاسيانوف على اعتقال الملياردير المعروف ميخائيل خودوركوفسكي، رئيس شركة "يوكوس" النفطية، وحينها اضطر بوتين لتوجيه انتقادات علنية نادرة. وقال تعليقاً على تصريحات كاسيانوف: "أوقفوا السخافات".

وأقال بوتين كاسيانوف قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية عام 2004، وترددت أنباء حينها أن ذلك حصل بعد معلومات عن أن كاسيانوف والمعارض بوريس نيمتسوف والملياردير بوريس بيريزوفسكي كانوا يحضرون خطة لخسارة بوتين في الانتخابات الرئاسية ربيع 2004، وهو ما نفاه كاسيانوف لاحقاً.

وعلى الرغم من الإنجازات الاقتصادية وتأكيد مجلة "فوربس" بنسختها الروسية أن كاسيانوف كان أفضل رئيس وزراء في تاريخ روسيا، فقد وجّه بوتين انتقادات حادة للرجل الذي اختار طريق المعارضة منذ عام 2004، وقطع جميع اتصالاته مع بوتين في خريف ذلك العام، بعد شهرين على الأحداث المأساوية في مدرسة بيسلان.

وأشار كاسيانوف إلى أن بوتين عرض عليه بعد إقالته من الحكومة أن يتولى رئاسة مجلس الأمن الروسي، أو منصب عمدة موسكو، أو أن يؤسس ويدير مصرفاً استثمارياً لجذب رؤوس الأموال من أوروبا.

وحسب كاسيانوف، فقد شدّد على أنه لن يوافق على أي منصب بالتعيين. وفي كتاب مذكراته، أشار كاسيانوف إلى خلافات مع بوتين بشأن التعامل مع بيلاروسيا وأوكرانيا، وقال إنه عارض قطع الغاز عن بيلاروسيا في 2004، ولكن بوتين أصرّ على ذلك، وذكر أن بوتين يريد التعامل مع البلدين على أنهما تابعان لروسيا.

بوتين يشهّر بكاسيانوف

ومن اللافت أن بوتين، وبعد عجزه عن استمالة كاسيانوف بتعيينه في منصب حكومي، لجأ إلى التشهير به واتهمه في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2011، في مؤتمر صحافي، بأنه لم يعمل أي شيء في السنتين الأخيرتين من تسلمه الحكومة، وأن وزيرين من الجناح الليبرالي (غيرمان غريف وألكسي كودرين كما اتضح لاحقاً) قالا له إنهما لن يعملا مع رئيس حكومة محتال ولصّ، وهو ما نفاه لاحقا كودرين.

واستحضر بوتين عنوان مقالة نشرتها صحيفة "سيفودنيا" في عام 1999، وهي تابعة للملياردير اليهودي الذي هرب من روسيا فلاديمير غوسينسكي، تحت عنوان "ميشا 2 في المائة" (ميشا اللقب المختصر بالروسية لاسم ميخائيل، وادّعى صحافي أن أوساط المال في روسيا كشفت أن كاسيانوف كان يطلب عمولة عن أي قرض أو معاملة قدرها 2 في المائة، حين كان وزيراً للمالية).

تمكن كاسيانوف في بدايات عهد بوتين من حل المشاكل الرئيسية المتعلقة بالديون الخارجية الروسية

 

وفي المؤتمر نفسه، اتهم بوتين كاسيانوف بأنه كان يعمل من أجل الترشح للرئاسة عبر جميع تصرفاته وأعماله. وحول هذا الموضوع، قال كاسيانوف إن بوتين قال له، في آخر لقاء قبل انقطاع العلاقة، إنه إذا أراد أن يذهب إلى عالم السياسة، فيجب ألا ينسى لقب "ميشا 2 في المائة". وفي الجلسة، ذكّر كاسيانوف بوتين بأنه يعلم أن ذلك مجرد كذب لتشويه سمعته بعد رفضه منح غوسينسكي قرضاً، فقال له بوتين: "لا دخان من دون نار".

وبعد انتقاله إلى المعارضة، تعرض كاسيانوف أكثر من مرة لاعتداءات، وحُرم من المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2008 بحجة التزوير في قائمة التواقيع لداعمي حملته، ما أدى إلى شطبه.

معارضة الحرب في أوكرانيا

وفي عام 2016، وبعد معارضته الحرب التي اندلعت في الشرق الأوكراني عام 2014، وتشكيل جبهة عريضة للمعارضة مع أليكسي نافالني والقوى الليبرالية، بثت قناة "إن تي في" الممولة من "غازبروم" فيلماً بعنوان "يوم كاسيانوف"، يظهر فيه بأوضاع مخلة بالآداب مع مساعدة له في المعارضة، إضافة إلى تسجيلات عن تآمره على أعضاء المعارضة الآخرين، ما أضعف تحالف المعارضة حينها وشق صفوفها، وأدى إلى تراجع شعبية كاسيانوف في المجتمع الروسي المحافظ.

ويرأس كاسيانوف حزب "حرية الشعب" الليبرالي المعارض منذ عام 2010، ومُنع الحزب من المشاركة في الانتخابات أكثر من مرة. وبعد بدء غزو أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، بات عضواً في لجنة مناهضة الحرب مع عدد من المعارضين الروس في الداخل والخارج.

وفي 9 مايو الماضي، علق كاسيانوف على خطاب بوتين في ذكرى النصر. وقال إن "بوتين بدا متوتراً، وأعتقد أنه بدأ بالفعل يدرك أنه يخسر هذه الحرب".

وأكد كاسيانوف، في تصريحات أمس الجمعة، أنه سيعود إلى روسيا قريباً، ولكن يبدو أن غيابه سيطول، خصوصاً أنه اختار طريقاً مغايراً لسلفيه سيرغي ستيباشين، الذي رأس الحكومة لفترة قصيرة قبل بوتين في 1999 وانتقل لاحقاً إلى مناصب أمنية قبل أن يرأس الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، أو سيرغي كيريينكو الذي شهدت البلاد في عهد حكومته أكبر انهيار مالي، ولكنه يعمل منذ سنوات نائباً أول لرئاسة ديوان الكرملين ويشرف على السياسة الداخلية.

المساهمون