كازاخستان: انتفاضة في حديقة بوتين

06 يناير 2022
أخفقت السلطات الكازاخية في إيقاف التظاهرات (الأناضول)
+ الخط -

في غمرة انشغال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأوضاع في أوكرانيا، والتوترات المحتدمة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في ظل الاتهامات له بالتحضير لحرب ضد كييف، جاءت الصدمة لسيد الكرملين من مكان آخر، يُعتبر بمثابة الحديقة الخلفية لروسيا، وهو كازاخستان، التي تحولت اعتراضات شعبية واسعة النطاق فيها، على ارتفاع أسعار الغاز والوقود، إلى ما يشبه انتفاضة تهدد أحد أنظمة الحكم القمعية في أوروبا.

وأخفقت السلطات الكازاخية في إيقاف التظاهرات المستمرة منذ الأحد الماضي، التي بدأت بعد زيادة في أسعار الغاز الطبيعي المسال في مدينة جاناوزن غرب البلاد، قبل أن تمتد إلى مدينة أكتاو، ثم إلى ألماتي، على الرغم من إقالة الحكومة، والتراجع عن قرار رفع أسعار الغاز المستخدم بكثرة في مجال تشغيل السيارات ووسائل النقل في البلد الغني بموارد الطاقة، لتنفجر الأوضاع بشكل كبير أمس الأربعاء ويضطر رئيس البلاد قاسم جومارت توكاييف، إلى إقالة حكومة عسكر مامين واتخاذ إجراءات قاسية. 

أعلن الكرملين أن الكازاخيين قادرون على حلّ مشاكلهم وحدهم

وعلى الرغم من هيمنة وقوة الأمن في كازاخستان، وغياب قوة معارضة منظمة في البلاد، بعد ثلاثة عقود على إعلان الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي، فقد بدأ المتظاهرون برفع شعارات سياسية مناهضة بالدرجة الأولى لرئيس كازاخستان الأول نور سلطان نزارباييف، الذي تخلى عن الحكم في 2019، لكنه لا يزال الحاكم الفعلي للبلاد، وتسيطر عائلته على معظم مقدرات البلاد الاقتصادية، على الرغم من انتخاب توكاييف في إطار انتقال للسلطة حافظ عملياً على شكل البلاد، ولم يرق إلى تلبية طموح الكازاخيين.

ويبدو أن توكاييف تلقف هذا الأمر، عبر توليه مهام رئاسة مجلس الأمن القومي، وهو المنصب الذي كان يتولاه نزارباييف.

روسيا تدعو للحوار لتطبيع الأوضاع في كازاخستان

أما موسكو التي شددت على أنها لن تتدخل، فالمرجح أن تلبي أي مطالب من السلطات الكازاخية منها، انطلاقاً من عقيدة الكرملين بعدم السماح بنجاح أي حراك جماهيري في إسقاط الأنظمة الحليفة لها، وتوجسه الدائم من سيناريو "الثورات الملونة". 

وفيما أعلنت الخارجية الروسية أنها تراقب الأوضاع في كازاخستان من كثب، ودعت إلى الحوار من أجل تطبيع الأوضاع، مؤكدة أنها تدعم إجراءات توكاييف، أعرب المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، عن ثقته بأن "الأصدقاء الكازاخيين قادرون على حل مشاكلهم الداخلية وحدهم"، مشدداً على عدم السماح بالتدخل الخارجي. وأكدت هيئة الفضاء الروسية أن الأوضاع مستقرة في منطقة باكانور، حيث المركز الرئيس لإطلاق الصواريخ الروسية إلى الفضاء.

ورداً على التظاهرات غير المسبوقة في كازاخستان، التي ينظر إليها كواحدة من أكثر بلدان آسيا الوسطى استقراراً بفضل عائدات النفط المرتفعة، أعلنت السلطات حالة الطوارئ في مناطق عدة، من ضمنها العاصمة نور سلطان، ومدينة ألماتا، العاصمة الاقتصادية للبلاد، حتى 19 يناير/كانون الثاني الحالي، وفرضت حظراً للتجول من الساعة 11 ليلاً إلى السابعة صباحاً. 

وكشفت وزارة الداخلية عن اعتقال أكثر من 200 متظاهر في أنحاء البلاد. واتهمت المتظاهرين باستفزاز أجهزة الأمن عبر قطع الطرق وحركة السير، و"بالإخلال بالنظام العام".

توسع الاحتجاجات إلى ألماتا

وانطلقت حركة الاحتجاج الأحد الماضي بعد رفع أسعار الغاز المسال إلى 120 تنغا لليتر الواحد، مقارنة بـ 60 تنغا في العام الماضي. وسرعان ما امتدت الاحتجاجات من جاناوزن غربيّ البلاد إلى أكتاو الكبيرة على شواطئ بحر قزوين، ثم إلى ألماتا، حيث اقتُحِم مبنى الإدارة المحلية وأُحرِق، وعدد من المدن الأخرى، على الرغم من أن الحكومة قررت خفض سعر الغاز إلى نحو 50 تنغا (12 سنتاً أميركياً). 

واعتقلت السلطات مدير مصنع لمعالجة الغاز ومسؤولاً آخر في منطقة مانجيستاو حيث تقع جاناوزن. وفي وقت لاحق أعلن مكتب توكاييف قبول استقالة الحكومة، وتعيين علي خان إسماعيلوف، الذي كان نائباً أول لرئيس الوزراء، قائماً بأعمال رئيس الوزراء.

وبعدما لجأت الحكومة إلى سياسة العصا والجزرة، عبر قمع المتظاهرين، والتراجع عن قرار رفع أسعار الغاز المسال من دون أن تتراجع الاحتجاجات، ذهب توكاييف إلى اتهام "محرّضين محليين وأجانب" بالوقوف وراء العنف، ومتوعداً بأن يتعامل "بأقصى درجات الحزم" مع المتظاهرين.

الناس في كازاخستان سئموا الحكم الاستبدادي

ورأى رئيس مؤسسة "ليبرتي" غالي أجيليولوف أن مصالح النخب الحاكمة في كازاخستان، خصوصاً عائلة نزارباييف، هي السبب في الارتفاع الحاد في أسعار الغاز. 

وأوضح، في مقابلة مع محطة "ناستيساشويه فريميا"، أنه بعدما ضربت الأزمة الاقتصادية الكازاخيين لمدة عامين بسبب كورونا، باتوا غير قادرين على دفع المزيد مقابل الغاز، ولهذا فقد نزلوا إلى الشوارع بأعداد كبيرة، لأن السلطات لم تسمعهم. ونفى الخبير السياسي وجود أي قوى خارجية وراء الاحتجاجات، كما تحاول السلطات تفسير تواصل الاحتجاجات.

وخلص أجيليولوف إلى أن "الناس في كازاخستان سئموا الحكم الاستبدادي، الذي لا يأخذ في الحسبان المجتمع المدني، ولا يسمح لمواطني الدولة بممارسة حقهم في حكم البلاد. إنه ببساطة يقمع المبادرات المدنية". واتهم السلطات بأنها "لا تحتاج إلى مجتمع مدني، بل إلى رعايا تابعين يعملون ببساطة في شركاتهم النفطية ويخدمون النخبة".

وحمّل معارضون كازاخيون مسؤولية رفع أسعار الغاز المسال للمستهلكين لأصهرة نزارباييف، واتهموهم ببيع الغاز لمحطة أرينبورغ (جنوب شرقيّ روسيا) لمعالجة الغاز، من دون دفع أي ضرائب للموازنة، ما يدرّ عليهم أرباحاً تراوح بين 750 و800 مليون دولار سنوياً.

غالي أجيليولوف: الكازاخيون سئموا الحكم الاستبدادي

وتأمل السلطات الكازاخية أن تفلح سياسة العصا والجزرة بإنهاء الاحتجاجات بأسرع وقت، وتراهن على أنه لا توجد قيادات معروفة يمكن أن تقود الحراك في الشارع، بعد سنوات مع القمع للمعارضة السياسية، ما أدى إلى اعتقال المعارضين البارزين أو إجبارهم على مغادرة البلاد. 

ويبدو أن أقصى ما تريد السلطات فعله هو الاستمرار في اعتقال أبرز الناشطين في الحراك، وتخفيف الاحتقان، عبر إقالة مزيد من المسؤولين الحكوميين، وتحميلهم مسؤولية ما جرى. وفي المقابل، فإن السيناريو الآخر هو تطور الاحتجاجات، وبروز قيادات ميدانية لإدارتها، وزيادة المطالب السياسية، ما يهدد نظام الحكم الحالي.

الحل في يد نزارباييف وروسيا

أما روسيا، وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة عليها، فإنها، في المقابل، من غير المستبعد أن تحقق مكاسب إضافية بسبب الأحداث في كازاخستان، خصوصاً في حال تجاوزها بسرعة، أو تحولها إلى السيناريو البيلاروسي بعد الاحتجاجات على إعادة انتخاب الرئيس ألكسندر لوكاشينكو في أغسطس/ آب 2020، وتراجعها لاحقاً بسبب الاستخدام المفرط للقوة. 

وحينها ستضطر السلطات الكازاخية إلى توثيق علاقاتها مع روسيا والارتماء أكثر في حضن الكرملين، والاندماج أكثر في مشروعه لإعادة إحياء الاتحاد السوفييتي.

وأياً كانت النتائج المتوقعة من الاحتجاجات غير المسبوقة، يبدو أنه بات لزاماً على السلطات الكازاخية إيجاد حل لمعضلة نقل السلطة في شكل كامل من نزارباييف إلى توكاييف. فالأول ما زال مهيمناً على القرار السياسي والاقتصادي في البلاد، ولا يمكن استمرار إدارة الحكم بهذه الطريقة، نظراً لوجود نخب جديدة ترغب في الصعود، والأهم وجود رغبة شعبية في تغيير حقيقي. 

ويبقى الحل في يد نزارباييف وروسيا، خصوصاً أن بوتين ما زال يتعامل مع نزارباييف على أنه الحاكم الفعلي في البلاد، وهو ما بدا واضحاً في أثناء قمة رابطة الدول المستقلة قبل أيام من نهاية العام الماضي، حين حضر رئيسان لكازاخستان القمة، واجتمع بوتين مع نزارباييف ووعد توكاييف باجتماع منفصل في الشهر الحالي.

المساهمون