قمة لوكاشينكو ـ بوتين اليوم: هل ينجح "الأب" باستمالة "القيصر"؟

22 فبراير 2021
أكد لوكاشينكو أنه في مركب واحد مع بوتين (ميخائيل سفيتلوف/Getty)
+ الخط -

يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في سوتشي اليوم الإثنين، في قمة يُنتظر أن تحدد نتائجها طبيعة العلاقات الثنائية بين البلدين في السنوات المقبلة على كثير من الصعد، وأهمها موضوع تعميق التكامل، وتسريع اتفاقات مشروع الدولة الواحدة المعلق منذ أكثر من 20 سنة.
وفي حين أجّل لوكاشينكو لنحو عام على الأقل موضوع الإصلاح الدستوري في البلاد، ورفض رسم مخطط لنقل واضح للسلطة عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، على عكس نصيحة ورغبة موسكو السابقة، فإنه يأمل بالحصول على قروض إضافية لدعم اقتصاد بلاده، استبقها ببعث رسائل حول وقوف موسكو ومينسك معاً في دائرة الاستهداف الغربي لزعزعة الأوضاع الداخلية.

تزداد مشاعر خيبة الأمل من موقف الكرملين لدى شرائح كبيرة من البيلاروسيين

وفي المقابل، يبدو الكرملين في موقف لا يحسد عليه، مع استمرار مراوغة لوكاشينكو للحصول على مكاسب أكبر، من دون تقديم تنازلات جوهرية على صعيد دولة الوحدة، واندماج أكبر لبيلاروسيا في المؤسسات المشتركة، وإصراره على توحيد أسعار النفط والغاز في البلدين، قبل أي حديث عن زيادة الاندماج في مؤسسات فوق وطنية من دون أي انتقاص لاستقلال وسيادة بيلاروسيا. كما تزداد مشاعر خيبة الأمل من موقف الكرملين لدى شرائح كبيرة من البيلاروسيين، ما ينذر بتراجع نفوذ روسيا، وتحول بيلاروسيا إلى أوكرانيا جديدة وانتهاء "الأخوة السلافية"، المشكل الأساسي للاتحاد السوفييتي السابق.
مركب واحد بقائدين
ويحضر لوكاشينكو إلى منتجع سوتشي مسلحاً بتراجع حدة الاحتجاجات الشعبية على نتائج الانتخابات الرئاسية مطلع أغسطس/ آب الماضي، عكس المرة الماضية، حين هرع إلى روسيا في 14 سبتمبر/ أيلول الماضي، طلباً للعون، المادي والسياسي والمعنوي. ويأمل "الأب" بكرم "القيصر" للحصول على قرض إضافي لا تقل قيمته عن ثلاثة مليارات دولار.

ويراهن رئيس بيلاروسيا على عدم وجود بديل يحافظ على مصالح موسكو في مينسك، خاصة أن الكرملين رفض من حيث المبدأ الانفتاح على قادة الحراك الاحتجاجي، وانطلق من أن الغرب يواصل مساعيه لإثارة "ثورات ملونة" في روسيا والبلدان المتحالفة معها. ويسعى لوكاشينكو إلى إقناع بوتين بأنه استطاع إطفاء جذوة الاحتجاجات، وأنه أفشل مخططات الغرب لزعزعة الأوضاع، ما يسمح له بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية بهدوء، من دون تحديد سقوف زمنية شرط الحصول على دعم مادي.
ومعلوم أن لوكاشينكو أعلن بعد لقائه مع بوتين، خريف العام الماضي، أنه سينظم استفتاء شعبياً على إصلاحات دستورية، يتبعه انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة للخروج من الأزمة السياسية في البلاد. وحينها بدا واضحاً أن موسكو ضغطت على حليفها "الصعب"، على أمل أن تمنع عملية الإصلاحات الدستورية سقوط النظام من قبل الشارع. وجددت أكثر من مرة على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف أنه لا بديل عن هذه الإصلاحات لحل الأزمة السياسية.

يسعى لوكاشينكو لإقناع بوتين بأنه استطاع إطفاء جذوة الاحتجاجات، وأفشل مخططات الغرب لزعزعة الأوضاع

وعلى عكس إرادة موسكو، لجأ لوكاشينكو إلى أساليب قديمة استخدمها سابقاً لحسم الأوضاع الداخلية لمصلحته في العام 1996 بعد صراعه مع البرلمان والسياسيين المعارضين. وعقد اجتماعاً لمجلس الشعب في عموم بيلاروسيا، جمع فيه أكثر من 2500 شخصية من أعضاء البرلمان والنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموالية له. وفي خطاب أمام المجلس استمر لأربع ساعات، في 11 فبراير/ شباط الحالي، تراجع لوكاشينكو عن معظم الوعود التي قطعها لموسكو سابقاً، وعدل تاريخ الإصلاحات الدستورية إلى يناير/كانون الثاني 2022 على أقل تقدير، ولم يحدد موعداً واضحاً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، ما قد يفتح الباب على استمرار حكمه، مع إصلاحات "ترقيعية شكلية" حتى نهاية فترته الرئاسية في 2025. فالتجارب السابقة أثبتت أن لوكاشينكو يجيد فن المراوغة وكسب الوقت، وانتهاز اللحظة المناسبة، للتراجع عن تعهداته السابقة، داخلياً وخارجياً. وبدا واضحاً أن أقصى ما يمكن أن يذهب إليه لوكاشينكو هو بناء نظام حزبي على شاكلة الحزب الشيوعي السوفييتي، يسمح له بحكم البلاد ضمن أشكال مختلفة. وكان لافتاً تأكيد لوكاشينكو في المجلس أنه في "مركب واحد مع بوتين" وأن "تظاهرات روسيا تعّد استمراراً لتظاهرات بيلاروسيا"، في عزف واضح على نغمة يكررها الكرملين حول استهداف حلفائه.
مراهنة خطيرة
من المؤكد أن مقاربات لوكاشينكو تُطرب موسكو، ولكنها من جهة أخرى لا تقلل من مخاوفها بشأن مستقبل العلاقة بين البلدين، في ظل عدم الانتهاء من مشروع دولة الوحدة. وتخشى موسكو من أن تقديم قرض إضافي يعني موافقة ضمنية على سياسة "الأب"، الذي سيتلقف الإشارة إلى أن قضية الإصلاحات الدستورية في بيلاروسيا لم تعد ذات أولوية بالنسبة لها، ما يعني أنه يمكن تأجيلها، أو حتى صرف النظر عنها في حال توافرت الظروف المناسبة.
ويزيد دعم الكرملين للنظام الحالي القائم في بيلاروسيا من نقمة المعارضين للنظام الحاكم منذ أكثر من 26 عاماً، والذي استنفد عملياً كل إمكاناته، ولم يعد قادراً على الاستمرار بالحكم على الطريقة السوفييتية، مع زيادة نشاط وأعداد الراغبين بإنهاء الدولة القمعية والحكم الفردي المطلق، ما ينذر بأنه في حال سقوط لوكاشينكو مستقبلاً فإن العلاقة مع موسكو سوف تتراجع، وقد تصل إلى القطيعة.
ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة في روسيا، فإن موسكو يمكن أن تذهب إلى منح حليفها في مينسك قرضاً إضافياً، بهدف استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، يضاف إلى أكثر من 120 مليار دولار قدمها الكرملين كمنح وإعفاءات ضريبية وحسوم على أسعار الطاقة في العقدين الأخيرين. وفي المقابل فإن الكرملين أمام تساؤلات جديدة، أهمها هل يمكن أن يكفي القرض الجديد في معالجة مشكلات الاقتصاد البيلاروسي المنهك بفعل فيروس كورونا، والاحتجاجات وخروج رأس المال الأجنبي، وزيادة هجرة الشباب والعمالة الماهرة في الأعوام الأخيرة، وتوقعات بأوضاع أصعب مع العقوبات الأميركية، وانتهاء "شهر العسل" القصير مع واشنطن في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتوجه أوروبا نحو فرض مزيد من العقوبات المؤلمة. ومؤكد أن الكرملين لم ينس أنه لم يستطع إنقاذ حليفه الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، رغم تقديم قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار نهاية 2013، ومنح أسعار تفضيلية للغاز. وبعدها بأشهر فرّ يانوكوفيتش إلى روسيا، وبدأت مرحلة القطيعة مع صعود المعارضين بالمطلق مع نهج التقارب مع موسكو.

أثبتت التجارب السابقة أن لوكاشينكو يجيد فن المراوغة وكسب الوقت، للتراجع عن تعهداته
 

وفي العقدين الأخيرين، استطاع لوكاشينكو، بقدرته الكبيرة على المناورة والمراوغة، استمالة "سيد الكرملين"، وإقناعه بأن الرهان عليه هو الأفضل والوحيد لضمان مصالح موسكو الاستراتيجية على الجبهة الغربية. لكن تطورات الأوضاع الداخلية في بيلاروسيا تجعل استمرار المراهنة عليه خطيرة للغاية. ومن المؤكد أن اللقاء لن يخرج شكلياً عن عشرات القمم السابقة من حيث طول مدته الزمنية، وموائد الطعام، واستدعاء الوزراء لاستيضاح نقاط محددة، ولكنه سيكون حاسماً في رسم مستقبل العلاقة بين بلدين يعيشان ظروفاً صعبة، بانتظار "ربيع ساخن" في الشارع، ومواجهات دبلوماسية ربما تكون الأصعب منذ أكثر من عقدين. وعلى عكس المرات السابقة، يبدو مصير لوكاشينكو معلقاً على نتائج هذه القمة، مع استنفاده جميع فرص المناورة بشأن دولة الوحدة، ومخاوف بعض النخب الروسية من أن مينسك ستخرج عن دائرة نفوذها في حال نجاح الحراك المعارض في بيلاروسيا وخروج لوكاشينكو من المشهد السياسي، وقد تتحول إلى أوكرانيا ثانية.

المساهمون