ما إن انتهت أيام عيد الفطر السعيد حتى استأنفت إسرائيل تنظيم اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، كما انتهكت حرمة مصلى الرحمة مرتين خلال 48 ساعة، واحدة منهما أثناء أيام العيد نفسه، التي رفعت خلالها العلم الإسرائيلي على أسوار الحرم الإبراهيمي بالخليل.
أكدت الممارسات الإسرائيلية ما نعرفه جميعاً بشأن إجرام الاحتلال وسعيه بكل السبل إلى فرض إرادته على المقدسيين والفلسطينيين المقاومين والصامدين عموماً، وعلى عدم واقعية ما يقال، حتى مع النوايا الطيبة، عن قواعد الاشتباك ووحدة الساحات والجبهات، من غزة جنوباً إلى لبنان والجولان شمالاً.
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن وقف اقتحامات المستوطنين للأقصى خلال الأيام العشرة الأخيرة من رمضان، هو إجراء تعتمده إسرائيل منذ سنوات، وغير مرتبط بالتصعيد الأخير، مع الانتباه إلى أنه، ظاهرياً على الأقل، يستبطن فرض تقسيم الحرم القدسي زمانياً ومكانياً أمراً واقعاً، ضمن سعي الاحتلال إلى فرض سيطرته التامة على المسجد بساحاته وأبوابه ومساحته البالغة 144 دونماً، المفترض أنها خاضعة لإدارة دائرة الأوقاف الأردنية، وملكية الفلسطينيين والعرب والمسلمين عامةً.
قبل وقف الاقتحامات في منتصف شهر رمضان، اقتحمت شرطة الاحتلال المصلى القبلي في المسجد الأقصى، واعتدت على المصلين والمعتكفين المرابطين فيه بوحشية وهمجية، ما أدى إلى جولة تصعيد قصيرة جداً، شهدت إطلاق قذائف هاون على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، وصواريخ غراد من لبنان، سقطت في مناطق مفتوحة، وأخرى مماثلة من الجولان، كشفت الأخيرة المشهد والواقع على حقيقته إلى جانب ما فعلته إسرائيل بعد انتهاء رمضان مباشرةً.
تمثل الردّ الفلسطيني الحقيقي والمجدي بالصمود ومواجهة الاقتحامات والاعتداءات وممارسات الاحتلال
بتفصيل أكثر، أطلقت قذائف هاون من غزة باتجاه المستوطنات المحيطة به، بدلاً من المدن والتجمعات الكبرى في جنوب فلسطين المحتلة، عسقلان وأسدود مثلاً، ولم تتبناها أي جهة موثوقة صراحةً وعلانيةً، ردت عليها إسرائيل بإلقاء 50 طناً من المتفجرات على غزة، روعت المواطنين الآمنين في شهر رمضان الكريم ولياليه الفضيلة. في السياق الغزاوي، لم يعد هناك حتى بنك أهداف لقصفه، حسب التعبير الإسرائيلي الدارج، وهو بحد ذاته مصطلحٌ عنصريٌ استعماريٌ، يفضح المشهد على حقيقته، دون قواعد اشتباك ووحدة ساحات وجبهات.
أما في لبنان فلم يتبنّ أحد إطلاق الصواريخ أيضاً، التي سقطت في مناطق غير مأهولة في فلسطين المحتلة، في حين كشفت صواريخ الجولان المشهد كله، إذ أطلقت على دفعتين وسقط معظمها في المناطق المحررة، وبعضها في الأردن، والباقي في مناطق مفتوحة في الأراضي المحتلة. كما أعلن لواء القدس، الخاضع لسيطرة نظام الأسد والمموّل من قبل الحرس الإيراني، مسؤوليته عنها، قبل أن يسحب التبني مباشرةً إثر ردّ إسرائيل بقصف معسكرات النظام، بما فيها عموده الفقري الفرقة الرابعة، التي يقودها ماهر الأسد، وتحميل النظام المسؤولية عن كل ما يقع تحت سيطرته، بعد ذلك قصفت إسرائيل مرتين، بحجة ملاحظة تحركات مريبة في المنطقة، كل ذلك دون أي ردّ ولو بطلقة واحدة.
خلال أسبوع واحد بعد رمضان والعيد، عادت اقتحامات المستوطنين للأقصى وساحاته، واقتحم جيش الاحتلال مصلى الرحمة مرتين، ودمّر محتوياته والأجهزة الكهربائية والسمعية فيه وأبلغ الأوقاف بإغلاقه، كما قطع أذان العشاء عن المسجد الأقصى، بحجة عدم إزعاج المستوطنين المحتفلين بما يسمى يوم الذكرى للجنود القتلى في حروب الدولة العبرية، ورفع العلم الإسرائيلي على أسوار الحرم الإبراهيمي بالخليل، كل ذلك يدحض ما يتداول عن فرض قواعد اشتباك، وتكريس وحدة الجبهات والساحات، رغم التناغم الإسرائيلي المتعمد والخبيث مع تلك الدعاية، علماً أن المصطلح نفسه "قواعد الاشتباك" مضلّل لنا ولجوهر الصراع، وبالحد الأدنى يصور الصراع على غير حقيقته، فليست هناك قواعد كهذه، للافتقاد إلى جيوش متقابلة، فالحقيقة أننا أمام استعمار ونظام فصل عنصري مقابل شعب عنيد يقاوم بكل الوسائل والأساليب المتاحة، من أجل استقلاله ونيل حريته وتقرير مصيره بنفسه.
أما وحدة الجبهات فهي دعائية، والتعاطي الإعلامي معها كان شبيهاً بستينيات القرن الماضي، والمرحلة التي سبقت النكبة الثانية، يونيو/ حزيران 1967، إطلاق الصواريخ الدعائية حدث نتيجة ضغط إيراني مباشر، مارسه مسؤول الحرس إسماعيل قاآني على بعض الفصائل الفلسطينية، للردّ على الغارات الإسرائيلية المكثفة ضد مواقع إيرانية بسورية خلال الشهر الماضي، سبع غارات خلال مارس/ آذار، بعضها أقرب إلى اغتيالات موضعية لكبار ضباط الحرس، ترافقت مع عجز عن الرد المباشر من سورية، وحتى من لبنان عبر حزب الله، باعتباره ذراع إيران الإقليمي المركزي.
مع ذلك، لا شك أن قدرة الردع الإسرائيلية قد تضررت إلى حدٍ ما، حسب تعبير الجنرال عاموس يدلين، مسؤول الاستخبارات العسكرية السابق، وأحد أهم المفكرين الاستراتيجيين حالياً، علماً أن المصطلح بحد ذاته متغطرس وإجرامي ودموي، يهدف إلى فرض الهيمنة والاستسلام، ومنع الشعب الفلسطيني من مقاومة الاحتلال، وسلبه إرادة وحتى مجرد التفكير في مواجهة الاحتلال بالوسائل المتاحة أمامه.
بالعموم، تمثل الردّ الفلسطيني الحقيقي والمجدي بالصمود ومواجهة الاقتحامات والاعتداءات وممارسات الاحتلال، التي تظهر المشهد والواقع على حقيقته، أي الرد في ساحة المقاومة الرئيسية في الضفة الغربية، كما رأينا في عملية غور الأردن مثلاً، التي قتلت فيها ثلاث مستوطنات، بينهن مجندتان بجيش الاحتلال، وبعدها عملية تل أبيب، والعمليات الفردية عبر ذئاب منفردة، وهي مشروعة تماماً كما حق مقاومة الشعب الفلسطيني جماعياً، مثلما رأينا ونرى في المقاومة الجماعية المنظمة في القدس والخليل، وفي بؤر المقاومة الشعبية المتعددة الأخرى في الضفة.
عموماً، وبناء على المعطيات والوقائع السابقة، من الواضح تماماً أن لا فرصة لمواجهة اعتداءات وممارسات وجرائم الاحتلال اليومية في القدس والضفة الغربية عامةً من خلال إطلاق الصواريخ من غزة، أو أي منطقة أخرى، والحديث عن وحدة الساحات والجبهات لم يكن جدياً، إنما دعائي محض، تضخمه وتستغله إسرائيل أيضاً لتشويه حقيقة الصراع، والتشويش على الرواية الفلسطينية العادلة، كما لشد العصب وإنهاء الخلافات الداخلية، وتجيير مزيد من الميزانيات للجيش المتمسك أيضاً بالتهدئة على جبهات غزة ولبنان، في حين يبقي الجبهة السورية مفتوحة أمامه، باعتبارها ساحة مستباحة، رغم مواقع ومعسكرات إيران وحلفائها هناك، وحديثهم الصاخب عن وحدة الساحات والجبهات.