عبد الله جاب الله.. بين جبّتي الداعية ورجل السياسة

05 يناير 2023
عبد الله جاب الله رئيس حزب "جبهة العدالة والتنمية" الجزائري (العربي الجديد)
+ الخط -

لا يخرج السياسي الجزائري عبد الله جاب الله من صفة زعيم جماعة دعوية أو رئيس حزب التي لازمته منذ ظهوره في المشهد الجزائري، وقبل أيام، أعيدت تزكيته على رأس حزب "جبهة العدالة والتنمية"، ذي التوجه الإسلامي، للمرة الثالثة في تاريخ الحزب الذي تأسس منتصف عام 2011، وهو ثالث حزب يؤسسه ويرأسه جاب الله منذ إقرار التعددية السياسية في الجزائر عام 1989، حيث كانت كل تجربة حزبية تصل إلى الانقسام، ويُحمّله كوادر أحزابه المسؤولية عن هذه المآلات بحجة شخصيته التي تميل الى التفرد والتمسك بالمنصب، لكنه يرد على ذلك بأنها جزء من ألاعيب الحكم ضده بسبب مواقفه المعارضة والمناوئة للخيارات السياسية للسلطة.  
ويعد عبد الله جاب الله أحد الرموز السياسية البازرة للتيار الإسلامي الحركي في الجزائر، ونموذجاً لرجل حاول الجمع بين الدعوة والسياسة، حيث يراوح جاب الله بين جبة الداعي وبين السياسي الذي يتصدى لأعباء العمل السياسي والتنظيمي.

لكن سيرة جاب الله السياسية تبقى مثيرة ومتأرجحة بين مسارات دعوية في فترة ما قبل التعددية السياسية، حيث كان يقود تياراً يعرف باسم "جماعة الشرق"، وتعرض بسبب نشاطه لمضايقات من قبل السلطات، وشارك من خلال جماعته، التي كانت تنشط في المساجد والأحياء الجامعية، في عدة محطات بارزة في تاريخ الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية في الجزائر، كما انضم إلى "رابطة الدعوة الإسلامية" التي جمعت كافة قيادات هذا التيار بداية التسعينيات مع فورة المد الإسلامي في الشارع الجزائري.

ووجد جاب الله، الذي كان مقرباً من تيار الإخوان لكن بصيغة محلية ومن دون ارتباط مع التنظيم الدولي، في المجموعة التي كان يقودها زمن السرية، أي قبل إقرار التعددية السياسية عام 1989، هيكلاً جاهزاً للتحول إلى حزب سياسي تحت مسمى "حركة النهضة"، والتي تبنت خطاً وسطاً بين حزبين إسلاميين صاخبين حينها في الساحة، هما الجبهة الإسلامية للانقاذ، التي ارتكزت على المجموعات السلفية، وحركة المجتمع الإسلامي التي كانت تمثل تيار الإخوان، لم يحصل حزب جاب الله على أي مقعد في الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991، (لم يجر الدور الثاني بفعل وقف المسار الانتخابي من قبل الجيش في يناير/كانون الثاني 1992).

لكن وعلى الرغم من خسارته في الانتخابات، اتخذ جاب الله موقفاً معارضاً لقرار وقف المسار الانتخابي ولتدخل الجيش، ووصفه بالانقلاب على الديمقراطية، وهو ما يُحسب له على صعيد الالتزام بالمسألة الديمقراطية، وانخرط على أساس ذلك في كتلة المعارضة التي ضمت أيضاً أحزاباً وشخصيات بارزة.

وكان جاب الله أحد الوجوه المشاركة في مؤتمر المعارضة في "سانت إيجيديو"، الذي عُقد في روما وضم زعماء تاريخيين على غرار الرئيس الأسبق أحمد بن بلة والأمين العام لجبهة القوى الاشتراكية حسين آيت أحمد والأمين العام لجبهة التحرير، وكذا الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون، وقيادات من جبهة الانقاذ، التي كان تم حظرها من النشاط حينها، كما شارك في صياغة عقد روما الذي كان يتوخى حل الأزمة الجزائرية ووقف دوامة الإرهاب والعنف الدامي في البلاد.

ولهذه الاعتبارات، رفض جاب الله المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1995، والتي مثلت عودة إلى المسار الانتخابي، واعتبر أن شروط المنافسة السياسية لم تكن متوفرة، لكنه شارك لاحقاً في الانتخابات التشريعية عام 1997، وحصل حزبه "حركة النهضة" على المرتبة الرابعة، بمجموع 34 مقعداً من بين 380 مقعداً.

في عام 1999، قرر جاب الله المشاركة في الانتخابات الرئاسية لمنافسة مرشح السلطة عبد العزيز بوتفليقة، لكنه حصل على نسبة ضعيفة، أقل من أربعة في المائة، نتيجة الظروف التي شابت تلك الانتخابات، حيث كان ستة مرشحين، بينهم جاب الله، قرروا يوم الاقتراع الانسحاب من السباق الرئاسي، بسبب ما اعتبروه تزويراً إدارياً لصالح بوتفليقة.

قبل ذلك، كان جاب الله تعرض لعملية انقلاب داخل حزبه "حركة النهضة"، في اجتماع مجلس الشورى الذي أقر دعم الحركة لترشح بوتفليقة، وانقسم الحزب، لكن جاب الله لم يستسلم وأعلن، برفقة الكوادر الذين انسحبوا من النهضة، تأسيس "حركة الإصلاح الوطني" في يناير 1999، والتي سيقودها جاب الله إلى الفوز بـ43 مقعداً في الانتخابات النيابية التي جرت عام 2002، في مقابل انهيار كامل لحزبه السابق (النهضة) ، وشجعه ذلك على خوض الانتخابات الرئاسية مجدداً عام 2004 مرشحاً وحيداً من التيار الإسلامي، لكنه حصل على خمسة في المائة من الأصوات.

ما يحسب لجاب الله على صعيد آخر، غزارة كتاباته في التفسير الدستوري والقضايا السياسية والتأصيل للسياسات الشرعية، وكتابات عن الأزمة الجزائرية وسنوات الدم وعن مفاهيم الشورى والديمقراطية وأسس التغيير وغيرها. وبقدر نجاحه في الإحاطة بهذه القضايا على الصعيد النظري، فإن جاب الله أخفق في تحويل ذلك إلى المجال العملي، كتأسيس قوة سياسية مستمرة ومؤسسة حزبية متمددة، ويفسر ذلك سلسلة الانكسارات التي تعرض لها.

ما حدث لجاب الله في "حركة النهضة" سيتكرر معه في "حركة الإصلاح" بعد ذلك بفترة قصيرة، حيث عقد منشقون عنه مؤتمراً وتم انتخاب قيادة جديدة وتم تحييده عن القيادة عام 2007، بسبب ما اعتبره الكوادر تفرده بالقرار ورغبته في فرض قراراته والشخصيات المقربة منه، وسارعت السلطة الى الاعتراف بالقيادة الجديدة، ما فوت عليه الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2009.

ومجدداً، يتجه جاب الله إلى تأسيس حزب ثالث عام 2011 باسم "جبهة العدالة والتنمية"، التي حصلت على سبعة مقاعد في الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2012. 

وخلال كل هذه الفترة، ظل جاب الله محافظاً على موقفه المعارض للسلطة، وبقي على نقيض سياسات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وساهم بشكل كبير مع قوى المعارضة في التنسيق لعقد أوسع مؤتمر لكل أطياف المعارضة في يونيو/حزيران 2014، الذي انبثقت عنه أرضية سياسية تطالب بالانتقال الديمقراطي وتطبيق المادة 88 من الدستور لإقرار شغور منصب الرئاسة (بعد مرض بوتفليقة وغيابه 83 يوماً في مشفى فرنسي).

وسيلعب جاب الله دوراً في عقد واحتضان اجتماعات مستمرة بين قوى المعارضة والشخصيات السياسية خلال الحراك الشعبي بعد 22 فبراير/شباط 2019، لبحث كيفيات إقرار التغيير السياسي والخروج من المرحلة المضطربة، وصولاً إلى مؤتمر عين البنيان في يوليو/تموز 2019، لكن ذلك لم يكن كافياً لا لاحتواء الحراك الشعبي ولا في تشكيل ثقل مواز للسلطة، وسيتقهقر حضور جاب الله وحزبه في المسار الانتخابي بعد 2019، حيث حصلت "جبهة العدالة والتنمية" على مقعدين فحسب في انتخابات 2021.

 وبينما كان الجميع يتحضر لإعلان جاب الله انسحابه من العمل الحزبي، على غرار علي بن فليس وسعيد سعدي وغيرهما، عاد جاب الله بعد تخل مؤقت إلى رئاسة الجبهة خلال مؤتمرها الأخير، الأسبوع الماضي، ما دفع ببعض رموزها إلى الاستقالة مثل لخضر بن خلاف، واعتُبر ذلك تفجراً داخلياً لثالث حزب يأسسه جاب الله، كما يبرز ذلك جانباً من صورة انطبعت لدى الرأي العام في الجزائر لجاب الله كشخصية لا تستطيع العيش خارج دائرة الزعامة.

تتقاطع سيرة جاب الله مع سيرة زعيمة حزب العمال اليساري، لويزة حنون، في الكثير من تفاصيلها، بما فيها التمركز على طول المسافة السياسية وتقلبات مختلف المراحل على رأس المؤسسة الحزبية، فكما لويزة حنون التي تستمر على رأس حزب العمال منذ التأسيس عام 1989، بقيت صفة رئيس حزب لصيقة بجاب الله منذ نهاية الثمانينيات.

المساهمون