عبد القادر ياسين لـ"العربي الجديد": أوسلو صنعت النكبة الثانية للفلسطينيين

16 مايو 2023
ياسين: حاجة ملحة لإقامة جبهة فلسطينية على برنامج وطني (العربي الجديد)
+ الخط -

حطّ الفتى الفلسطيني عبد القادر ياسين، رحاله عند أخوال والده في مدينة بورسعيد، شرقي مصر، عام 1948، مودعاً فلسطين إلى حين. كان عمره وقتها نحو 12 عاماً، حينما حلت النكبة على بلاده. ومنذ ذاك الحين، لا تغيب الذكرى عن باله، وهو الذي أرّخ للقضية الفلسطينية ما قبل النكبة وما بعدها في كتب عدّة.

وفي الذكرى الـ 75 لنكبة فلسطين، يتحدث الباحث الفلسطيني في مقابلة مع "العربي الجديد" عن هذه الذكرى وأسباب غيابها عن أولويات الشعوب العربية، والعوامل الذاتية الفلسطينية والتطورات على الصعيدين الإقليمي والعالمي، التي كرست تراجع القضية كأولوية في أجندة دول المنطقة.

* رؤيتكم لواقع القضية الفلسطينية في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة؟

القضية الفلسطينية قضية عربية في جوهرها، ويرتفع منسوب التفاؤل لدى شعبنا مع تحسن العمق الاستراتيجي العربي لهذه القضية، ولكن هذا العمق بلغ وضعاً شديد السوء، غدت معه القضية في حالة يرثى لها.

ومن ناحية أخرى، لا يجب أن نغفل العامل الذاتي، فيما أصبحت عليه القضية الفلسطينية، فهو لا يقل سوءاً عن الواقع الاستراتيجي، ذلك أن أوسلو (اتفاق موقع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في عام 1993) صنعت النكبة الثانية للشعب الفلسطيني، رغم محاولة تسويقها على أنها تسوية، والحقيقة أنها تصفية للقضية، إذ دلف ياسر عرفات إلى أوسلو لمواجهة المساعي العربية لإطاحته في أعقاب دعمه غزو صدام حسين للكويت (عام 1990) وحرب الخليج الثانية (1991)، وبعدها بدا أي تصرف بعد دخوله إلى قطاع غزة صيف عام 1994، متخبطاً من دون أن يدرك الكارثة التي حلت بالقضية.

عندما أدرك عرفات ما حل بالقضية ودخولها مرحلة التصفية بدأ يعارض نهج الاحتلال


* وكيف تعامل عرفات مع هذا الوضع الصعب؟

عندما أدرك عرفات ما حل بالقضية ودخولها مرحلة التصفية بدأ يعارض نهج الاحتلال، ولكن بعدما دخل المصيدة، وساعتها قال رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين: "لقد أدخلنا الفلسطينيين المصيدة". وأنت داخل المصيدة لا تستطيع أن تراوغ الصياد. ولذا كان طبيعياً أن يستاء (رئيس الحكومة الراحل آرييل) شارون من مراوغات عرفات، فيستشير الرئيس الأميركي حينذاك جورج بوش الابن في أمر عرفات، الذي أرهقه حتى خرج شارون في 14 إبريل/نيسان 2004، ليقول إن يديه مطلقتان في التعامل مع عرفات، إذ تمت تصفيته وتغييبه عن المشهد، وبعدها استمرت القضية في التدهور، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه حالياً.

* في هذا السياق هل توارت ذكرى النكبة في الذاكرة العربية؟

النكبة أعقبتها نكبات صغيرة وكبيرة، وكانت النكبة الكبرى في أوسلو، كما أوضحت، ومنذ أوسلو الأوضاع العربية في تراجع مستمر، وكذلك الوضع الفلسطيني، لأسباب ذاتية وموضوعية، فنحن شعب غير منتج، يطلب الدعم دائماً، وقد أوكلنا للعدو إدارة قضيتنا.

ومنذ أوسلو وخط القضية الفلسطينية إلى هبوط، ومن هنا تبدو ذكرى النكبة وقد توارت كثيراً في الذاكرة العربية، انطلاقاً من أن شعوبنا العربية غارقة في مشاكلها الداخلية وأزماتها المتتالية. وعندما نتذكر هذه النكبة، يأتي الأمر في سياق المجاملة، ومن الصعب علينا وفي ظل معاناة شعوبنا العربية من أوضاعها القاتمة أن نطالبها بتذكر النكبة بشكل جاد.

* مع تراجع ذكرى النكبة في العقل الجمعي العربي، ألم تعد القضية تشكل أولوية لدى الشعوب العربية كما كان في السابق؟

الشعوب العربية غارقة في مشاكلها الداخلية، وبالتالي لم تعد القضية الفلسطينية تشكل أولوية، خصوصاً أنها لم تعد تثق في حكامها ولا في قدرة ضغوطها على تغيير نهج هؤلاء الحكام من القضية الفلسطينية، وحتى وضع هذه القضية على قمة أجندتهم.

وهذا مرتبط في وجهة نظري بتراجع وانحسار المد الوحدوي العربي، منذ هزيمة يونيو/حزيران 1967، ومن الغريب أنه منذ نكبة فلسطين، وخلال معاناة البلدان العربية من الاستعمار، كانت الدعوات إلى الوحدة العربية قوية وواضحة. ويكفي أن نذكر في هذا السياق كيف كان الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة من أكبر الدعاة للوحدة العربية، ولكن بعدما خرج الفرنسيون، وتحقق الاستقلال تراجع بورقيبة عن هذه النزعة الوحدوية، ولم يعد يطالب حتى بوحدة الشعوب المغاربية، فهم وحدويون حينما يواجهون الاستعمار، وعندما يصلون للسلطة يتبخر كل شيء.

* كأنك تشير لدور الأنظمة والجيوش العربية عما آلت إليه القضية الفلسطينية من وضع مترد؟

عام 1948 كانوا يصفون الأنظمة العربية بأنها أنظمة عميلة، ومع ذلك، وعندما صدر قرار التقسيم، جرى إقرار التدخل عسكرياً لمواجهة العصابات الصهيونية، واجتمع قادة أركان الجيوش العربية في مقر الجامعة العربية أواخر عام 1947، وقدروا في اجتماعاتهم أن العصابات الصهيونية تملك 64 ألف جندي، ومثلهم من الاحتياطي، رغم أن العدد طبقاً للوثائق الصهيونية كان يتجاوز 68 ألف جندي، ونفس العدد كاحتياطي بشكل كان يستوجب معه إرسال 3 أضعاف القوى المدافعة.

الشعوب العربية غارقة في مشاكلها الداخلية، وبالتالي لم تعد القضية الفلسطينية تشكل أولوية

ودخلت الجيوش العربية المعركة بأسلحة متهالكة، وقيادة منقسمة، وجيوش مرتبطة بالاستعمار، وليس أدل على الوضع الكارثي لهذه الجيوش، من أنه قبل وصولهم، كان العرب الفلسطينيون يسيطرون على 82 في المائة من أراضي فلسطين التاريخية، فيما كان اليهود يحكمون سيطرتهم على النسبة الباقية، بينما تحولت الأوضاع للعكس تماما، بعد دخول 5 جيوش عربية المعركة.

* هل يعني ذلك أنه خلال هذه الحرب، وقعت الجيوش العربية في أخطاء أسهمت في الكارثة التي حلت بالفلسطينيين عام 1948؟

ما زاد الطين بلة في هذا التوقيت أن الجيشين المصري والأردني توسعا في اعتقال الفلسطينيين الذين يعارضون تسليم أسلحتهم للجيوش العربية، وذلك حتى لا يستطيع الفلسطينيون الخروج عن الخط المرسوم للجميع من قبل الاحتلال البريطاني، لا سيما أنه كان هناك توجهان في العاصمة المصرية القاهرة حينذاك، أحدهما التدخل في فلسطين، والآخر يفضّل الحياد في المعركة مع الصهاينة، ولكن الملك فاروق حسم الأمر، ودعم التدخل حتى لا ترجح كفة ملك شرق الأردن عبدالله في الصراع المشتعل بين العرشين على الخلافة، وحدث ما حدث من نكبة الشعب الفلسطيني، ونجاح اليهود في ابتلاع أغلب فلسطين.

تقارير عربية
التحديثات الحية

* ترداد مزاعم أن الفلسطينيين هم من باعوا أراضيهم، وأهدروا قضيتهم لقتلهم معنوياً بعد احتلال أرضهم، متى بدأت، ولماذا؟

حين صدر قرار التقسيم توسع "الشاي" في مصر (والشاي هنا يُقصد به جهاز المخابرات الصهيوني قبل النكبة، حين كان ثاني أكبر فرع لهذا الجهاز في القاهرة بعد فرعه الرئيسي في جمهوريات الاتحاد السوفييتي). بدأ هذا الجهاز والآلة الصهيونية يردد مثل هذه الشائعات التي لا أساس لها من الصحة، عن بيع الفلسطينيين أرضهم وإهدار قضيتهم، في مسعى لتشويه الفلسطينيين وازدراء كفاحهم واغتيالهم معنوياً بين شعوب المنطقة.

* يشدد بعضهم على أن هناك توقعات بزوال إسرائيل، بل تصل التوقعات إلى تحديد سنة الزوال، هل تعتقد فعلاً بزوال إسرائيل قريباً، وكيف؟

في عام 1948 كان يحلو للكثيرين القول إن زوال الكيان الصهيوني سيتم بعد 7 ساعات، وسبعة أيام، وسبعة أعوام، ونحن هنا في العام الـ 75 للكيان، من دون أن يقترب من الزوال، ما يؤكد أنها كانت وما زالت مجرد دعاية رددتها أبواق صهيونية، وعملت على الترويج لها لتخدير شعوب المنطقة، وتكريس هيمنة إسرائيل على المنطقة. وفي اعتقادي فإن الحديث عن زوال إسرائيل أمر غير واقعي، لا سيما أن الكيان يقوم على ثلاثة من عوامل القوة.

في اعتقادي فإن الحديث عن زوال إسرائيل أمر غير واقعي

* ما هي هذه العوامل؟

هذه العوامل تتمثل في ديمقراطية اليهود الإسرائيليين، والمساعدات المالية العالية من الولايات المتحدة، إضافة إلى الهجرة اليهودية المتدفقة من جميع بقاع المعمورة. ومن هنا يدرك الإسرائيليون أن أي مساس بهذه العوامل الثلاثة، وفي مقدمتها الديمقراطية، ينذر بنهاية هذا الكيان، لذا جاءت التظاهرات الصاخبة اعتراضاً على قانون "الإصلاحات القضائية" التي حاول (رئيس الحكومة بنيامين) نتنياهو فرضها في تأكيد على مدى قوة الديمقراطية داخل الكيان.

* في هذا الوضع القائم ما الذي في يد العرب، مؤسساتٍ سياسيةً ودولاً وشعوباً، ليقدموه للقضية الفلسطينية؟

العرب لم يعد لديهم ما يقدمونه للقضية الفلسطينية في ظل تشرذم الجبهة الداخلية في العديد من الدول العربية، وانشغال الشعوب بمشاكلهم الداخلية، وعدم وجود حكّام أو قيادات منشغلين بمناهضة مشروع إسرائيل والصهيونية. على العكس نجد حرصاً على تطبيع العلاقات معها، بشكل يتجاوز الخطوط الحمراء، والانبطاح أمام إجرامها والدعوات للاندماج معها في أحلاف عسكرية، وتراجع القضية الفلسطينية في أولويات الأنظمة العربية، وانحسار حلم الوحدة العربية. وكل ما سبق من أسباب يجعل الدول العربية والمؤسسات الإقليمية والشعوب عاجزة عن تقديم شيء ذي قيمة للقضية الفلسطينية.

العرب لم يعد لديهم ما يقدمونه للقضية الفلسطينية في ظل تشرذم الجبهة الداخلية في العديد من الدول العربية


* عودة الالتئام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، متى برأيك؟

لن يعود الالتئام الفلسطيني قريباً في ظل وجود فيتو أميركي إسرائيلي في هذا الملف، وكلنا يعلم أسباب فشل جهود المصالحة الفلسطينية، رغم عشرات المبادرات التي تمت للمّ الشمل رفضها جميعاً (رئيس السلطة الفلسطينية) محمود عباس، رغم موافقة من يمثله في هذه المفاوضات عزام الأحمد، لا لشيء إلا إرضاء للاحتلال وأميركا من ورائه، وتكريس الانقسام بين الضفة وقطاع غزة.

* إلى أي مدى حققت المقاومة الفلسطينية الردع للاحتلال؟

ليس للمقاومة أن تحتل أو تحرر، بل تقوم بعمليات فدائية تحول دون أن يهضم الاحتلال ما قضمه من أراض، أو يبتلعها فضلاً عن التحضير لحرب التحرير. وهي حرب تبدأ دائماً مع اختلال التوازن، ثم يحدث بعدها التوازن الاستراتيجي، ويلي هذا المرحلة انتصار المقاومة، ونجاحها في طرد المحتل، ووصول المقاومة، أي مقاومة، لهذه المرحلة مرتبط بعدد من العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية.

وانطلاقاً من أن العمليات العسكرية غير معلقة في الهواء، بل مرتبطة بعدد من العوامل، ومنها سلامة الجبهة الداخلية وقوتها، ودعم الجوار الإقليمي، وهو ما تفتقده المقاومة الفلسطينية حالياً. ولنا أن نتذكر هنا ما حدث في هزيمة عام 1967، ففي مصر كان هناك ازدواج سلطة بين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير الدفاع عبد الحكيم عامر. وهو وضع تكرر في سورية من صراع بين الرئيس حافظ الأسد والأمين القطري لحزب البعث السوري صلاح جديد، وجيش مفتت وضباط مسرحين، نتيجة عدد من الانقلابات العسكرية التي شهدتها سورية، وهي أوضاع كانت مسؤولة عن الهزيمة، وهي أمور تتكرر حالياً على أرض الواقع.

* شنت حكومة بنيامين نتنياهو حرباً على حركة الجهاد الإسلامي في غزة. ما تقييمك لتعامل المقاومة مع هذه المعركة؟

أداء الفصائل الفلسطينية في الجولة الأخيرة كان مفاجئاً للجميع، وكان أفضل من جولات سابقة، إذ نجحت المقاومة في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية عبر تطوير منظومة صواريخها، بجعلها أطول مدى وأكثر دقة، وأفشلت مساعي نتنياهو في استعادة الردع الصهيوني، الذي تآكل في جميع الجبهات خصوصاً مع وجود التنسيق بين غرفة الفصائل ومشاركة "كتائب أبو علي مصطفى"، الجناح العسكري للجبهة الشعبية، و"كتائب القسام"، وإن كانت طبيعة مشاركة الأخيرة في هذه الجولة غير معلومة.

لن يعود الالتئام الفلسطيني قريباً في ظل وجود فيتو أميركي إسرائيلي


* يعد حق العودة من حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة، هل ترى أن هذا الحق قد توارى؟

انحسر حلم العودة لدى السواد الأعظم من اللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً بعد الخروج الفلسطيني من العاصمة اللبنانية بيروت (عام 1982)، وبدأ حلم العودة يتلاشى، بل بدأ الفلسطينيون بعد هذا التاريخ وكذلك بعد أوسلو، بالموافقة على زواج بناتهم مع أبناء دول اللجوء، بينما كانوا يصرّون سابقاً على زواجهن من فلسطينيين، إيماناً بحق العودة. وبعد أوسلو بدأت هجرات فلسطينية متتالية إلى السويد والنرويج والولايات المتحدة، في تأكيد على تراجع الحرص على العودة نتيجة الإحباط واليأس من إمكانية تحقيق حلمهم في المدى المنظور.

* في الذكرى الـ 75 للنكبة، ما هو المطلوب من الفلسطينيين للخروج من هذا النفق المظلم؟

هناك حاجة ملحة تتعلق بإقامة جبهة وطنية فلسطينية على برنامج وطني، يسير في إطار التأكيد أن إسرائيل هي العدو المباشر، وأن الولايات المتحدة هي العدو الرئيسي، مع أهمية توحد الفصائل الفلسطينية على هذا البرنامج.

سيرة

ولد الكاتب السياسي والمؤرخ الفلسطيني عبد القادر جميل ياسين في مدينة يافا الفلسطينية عام 1935، وتنقّلت أسرة عبد القادر بين مدينة غزة، وفيها أكمل تعليمه الابتدائي، والعريش حيث استكمل تعليمه الثانوي شمال شرقي مصر. اعتُقل مرات عدة في مصر، بينها في مارس/ آذار 1954، وآخرها عام 1959 حتى 1961.

بدأ نشاطه العملي ممثلاً مسرحياً ثم امتهن الكتابة السياسية منذ 1955.

التحق بجماعة الإخوان المسلمين سنة 1953، ثم غادرها بعد أسابيع من التحاقه بها، والتحق بالحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة، صيف 1968، ثم غادره بعد ثلاثة عشر عاماً.

لعبد القادر نحو عشرين كتاباً، معظمها عن كفاح الشعب الفلسطيني والمقاومة واليسار، ونقد التطبيع العربي مع إسرائيل، والصراع العربي الفلسطيني، علاوة على العديد من الكتابات في الشأن الفلسطيني بعدد من الإصدارات العربية.

المساهمون