عبد العزيز بوتفليقة... حكم الجزائر عقدين وأطاحته أمنية "من القصر إلى القبر"

18 سبتمبر 2021
لم يترك بوتفليقة أية مذكرات أو شهادات عن أحداث محلية وعربية كان فاعلاً أساسياً بها (Getty)
+ الخط -

توفي الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، دون أن يحقق أمنية بقائه رئيساً حتى وفاته، "من القصر إلى القبر"، ودون أن يتولى افتتاح مسجد الجزائر الأعظم الذي كان قد اهتم بإنجازه بشكل خاص، ودون أن يفتتح مطار الجزائر الدولي الذي كان يرغب في أن يأخذ اسمه بعد وفاته.

في الثاني من إبريل/نيسان 2019، نشر الرئيس بوتفليقة رسالة استقالته من الحكم، بعد عقدين من السلطة. لم تكن استقالته تلك تعففاً عن الحكم أو زهداً فيه، فبخلاف ذلك كان بوتفليقة يرغب في الاستمرار بولاية خامسة كانت ستمتد حتى 2024، بل لتهدئة الشارع الجزائري الغاضب الذي كان قد انفلت عقاله منذ 22 فبراير/شباط في حراك شعبي غير مسبوق في البلاد، بحيث لم يعد ممكناً في خضمّ ذلك الثوران الشعبي الصاخب، إجراء الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في إبريل/نيسان 2019، وكتب بوتفليقة في رسالة استقالته: "يشرفني أن أنهي رسمياً إلى علمكم أنني قررت إنهاء عهدتي بصفتي رئيساً للجمهورية، وذلك اعتباراً من تاريخ اليوم، الثلاثاء 26 رجب 1440 هجري، الموافق لـ2 إبريل/نيسان 2019، إن قصدي من اتخاذي هذا القرار إيماناً واحتساباً، هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطنيَّ وعقولهم، لكي يتأتى لهم الانتقال جماعياً بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحاً مشروعاً".

هواري بومدين... نقطة البداية

في الثاني من مارس/آذار 1937، وُلد عبد العزيز بوتفليقة لعائلة جزائرية كانت تقيم لاجئة في مدينة وجدة المغربية، القريبة من الحدود مع الجزائر، وتنحدر أسرته من منطقة تلمسان غربيّ الجزائر. تلقى بوتفليقة تعليمه هناك في مدرسة ابتدائية في وسط مدينة وجدة، وأكمل تعليمه الثانوي في المدينة نفسها، ولأن مدينة وجدة كانت تمثل قاعدة خلفية للثورة الجزائرية، وتتمركز فيها قياداتها، وجد بوتفليقة سبيلاً للالتحاق بصفوف الثورة، واتخذ من ''عبد القادر'' اسماً حركياً له في عام 1957.

أهّله تعليمه لتقوم هيئة قيادة الأركان التي كانت تتمركز في منطقة الحدود المغربية بتعيينه مراقباً عاماً ثم ضابطاً منتدباً، وفي سنة 1960 أرسل قائداً إلى الحدود الجنوبية، وخلال وجوده في وجدة يضعه القدر في طريق هواري بومدين، الذي سيصبح لاحقاً رئيساً لأركان جيش التحرير، وكان له دور في تعيين بوتفليقة عضواً في المجلس التأسيسي (أول برلمان)، ثم وزيراً للشباب والرياضة والسياحة، وهو في الـ25 من عمره، ضمن أول حكومة للجزائر المستقلة، قبل أن يعيَّن وزيراً للشؤون الخارجية، وهو المنصب الذي ظل يتقلّده حتى عام 1979، لكنه كان قد أدى قبل ذلك دوراً في انقلاب قائد الجيش هواري بومدين، على الرئيس أحمد بن بلة في 19 يونيو/حزيران 1965، ليصبح هذا اليوم ذكرى التصحيح الثوري، وبقي الجزائريون يحتفلون به بوصفه عطلة رسمية، إلى أن قرر بوتفليقة نفسه إلغاءه من لائحة العطل الرسمية عام 2002.

وضع القدر بوتفليقة في طريق هواري بومدين الذي كان له الفضل الأكبر في انطلاق مسيرته

خلال فترة شغله منصب وزير للخارجية، سيسهم بوتفليقة مستفيداً من الثقل الثوري للجزائر، في دعم القضية الفلسطينية وحركات التحرر في أفريقيا والعالم، وخاصة قضايا الأبارتايد، وفي تشيلي والأرجنتين، وفي عام 1974 ترأس بوتفليقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث طرد الوفد الإسرائيلي المشارك، وأتاح الفرصة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لإلقاء خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انتقلت إلى جنيف، وأدى بوتفليقة دوراً بارزاً في ديسمبر/كانون الأول 1975 في إنهاء معضلة عملية اختطاف مجموعة كارلوس، للوزراء وموظفي "أوبك" من مقر "أوبك" في فيينا، وكان بينهم وزير الطاقة الجزائري عبد السلام بلعيد، ووزير النفط السعودي أحمد زكي يماني، حيث حُرِّروا في الجزائر.

بداية التيه

في 27 ديسمبر/كانون الأول 1978 توفي الرئيس بومدين، وتولى بوتفليقة تأبينه في الجنازة الرسمية، وكان يطمح إلى خلافته في الرئاسة، لكن قيادة الجيش والمخابرات اختارت العقيد الشاذلي بن جديد رئيساً للبلاد بداية عام 1979، ليبدأ مع تغير هرم الحكم في الجزائر، استبعاد رجال بومدين من السلطة، وكان بينهم بوتفليقة الذي أُقيل من منصبه، وحولت السلطة السياسية ملفه إلى مجلس المحاسبة الذي نشر قراراً رسمياً في صحيفة "المجاهد" المتحدثة باسم الحكومة في التاسع من أغسطس/آب 1983، يتهم بوتفليقة بالتورط في اختلاس أموال عامة، قيل حينها إنها كانت مودعة في "صندوق دعم حركات التحرر" التي كانت تدعمها الجزائر بسخاء بين عامي 1965 و1978، وبلغت ملايين الدولارات.

أتاح بوتفليقة الفرصة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لإلقاء خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة

أرغمت هذه الظروف بوتفليقة على مغادرة البلاد، حيث قضى سنوات بين جنيف ودمشق ودول الخليج، خصوصاً الإمارات العربية المتحدة، قبل أن يعود في يناير/كانون الثاني 1987 إلى الجزائر، بعدما أقرّ الرئيس السابق الشاذلي بن جديد عفواً عنه عام 1986، وكان أول نشاط سياسي لبوتفليقة، توقيعه برفقة 18 شخصية سياسية، بياناً خلال أحداث الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988، قبل أن يُدعى للمرة الأولى منذ استبعاده إلى المؤتمر العام لحزب جبهة التحرير عام 1989، وانتُخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب.

في أعقاب انقلاب الجيش على الإسلاميين، ووقف المسار الانتخابي في يناير/كانون الثاني 1992، حاولت المؤسسة العسكرية استغلال خبرته الدبلوماسية لكسر العزلة السياسية الدولية التي فُرضت على الجزائر، وعرضت عليه منصب وزير مستشار لدى المجلس الأعلى للدولة، (هيئة انتقالية مؤقتة شُكِّلَت من 1992 إلى 1994 وحلت محل رئيس الجمهورية)، ثم منصب ممثل دائم لدى الأمم المتحدة، لكنه اعتذر عن عدم قبول هذا المنصب، ومع نهاية عهد هذه الهيئة المؤقتة في ديسمبر/كانون الأول 1994، اقترح عليه قادة الجيش الذين كانوا يمسكون بزمام السلطة منصب رئيس الدولة، على أن يُنتخَب في مؤتمر وفاق وطني في إطار آليات المرحلة الانتقالية. لكن خلافات تتعلق بالصلاحيات حالت دون حصول توافق بين بوتفليقة والعسكر، غير أن الجيش سينجح مجدداً في إقناع بوتفليقة عام 1998، بالترشح للرئاسة بعد إعلان الرئيس ليامين زروال تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة جرت في إبريل/نيسان 1999.

عودة إلى السلطة

في الثالث من مايو/أيار 1999 تسلّم الرئيس بوتفليقة سدة الحكم، بعد فوزه في انتخابات رئاسية مثيرة للجدل، إذ كان منافسوه الستة قد اعلنوا انسحابهم يوم الاقتراع من السباق الانتخابي، ليبدأ بوتفليقة عهدته الرئاسية الأولى لاستكمال الإطار القانوني لاتفاق كانت قد عقدته قيادة المخابرات مع مسلحي الجيش الإسلامي للإنقاذ، لوقف العمل المسلح والنزول من الجبال مقابل عفو عنهم، وأطلق قانون الوئام المدني بهدف "تحقيق السلم وإطفاء نار الفتنة في البلاد"، بعد عشر سنوات من الأزمة الأمنية الدامية، وواجه بوتفليقة في عهدته الأولى أزمة عنيفة في منطقة القبائل عام 2001، بسبب مواجهات بين السكان الأمازيغ والأمن، انتهت باعتراف رسمي باللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية.

في 22 فبراير/شباط 2004، أعلن بوتفليقة ترشحه لولاية رئاسية ثانية، وقاد حملته الانتخابية مدفوعاً بالنتائج الإيجابية التي حققتها ولايته الأولى، وأعيد انتخابه في الثامن من إبريل/نيسان 2004 بما يقارب 85 في المئة من الأصوات، ليطلق في ولايته الثانية مشروع المصالحة الوطنية كتطوير لقانون الوئام المدني وإيجاد إطار قانون لحلحلة مخلفات الأزمة الأمنية، كتسوية وضع المسلحين التائبين والمفقودين، لكنه أطلق أيضاً مشروعات تخص البنى التحتية وإصلاح العدالة والتربية والقوانين المنظمة للدولة والمجتمع والتعليم والعدالة والإدارة وإنعاش الاقتصاد، مستفيداً من ارتفاع مداخيل البلاد التي بلغت في الخزينة العامة 198 مليار دولار، استغل جزءاً منها في دفع كل الديون الخارجية للبلاد. وقبل نهاية ولايته الثانية، في سبتمبر/أيلول من عام 2007 تعرّض بوتفليقة لمحاولة اغتيال، عندما فجّر انتحاري نفسه قرب موكب كان يقلّه خلال زيارته لمدينة باتنة شرقيّ الجزائر، وتبنّى تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" حينها هذه العملية.

نجح بوتفليقة خلال ولاياته الرئاسية الأربع في الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية والمخابرات، وتمكن من إبعاد عدد من جنرالات الجيش، خصوصاً من الصقور الذين نفذوا انقلاب يناير/كانون الثاني 1992، وأبرزهم الجنرال محمد العماري وإسماعيل العماري ومحمد تواتي، وأطاح رجل جهاز المخابرات القوي، الجنرال محمد مدين، المدعوّ الجنرال توفيق، في 13 سبتمبر/أيلول 2015. ومع كل عهدة رئاسية كانت شهوة السلطة تكبر، وفي عام 2008 وجد بوتفليقة نفسه أمام مشكلة دستورية تمنعه من الترشح لولاية رئاسية ثالثة في الانتخابات التي ستجري في إبريل/نيسان 2009، لكنه وجد الحل في عرض بتعديل جزئي ومحدود للدستور في نوفمبر/تشرين الثاني 2008، يتيح له الترشح لولاية رئاسية ثالثة، فاز بها مجدداً، على الرغم من اعتراض عدد من القوى السياسية على تعديل الدستور. وفي بداية عام 2011، كانت دول عربية عديدة تعيش ثورات الربيع العربي، فبادر بوتفليقة إلى احتواء احتجاجات انطلقت في عدة مدن جزائرية بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بإعلان تعهدات بإصلاحات سياسية وتعديل دستوري محدود.

وفي 17 إبريل/نيسان 2013، أصيب الرئيس بوتفليقة بوعكة صحية استدعت نقله على جناح السرعة إلى مستشفى "فال دوغراس" العسكري في ضواحي باريس، حيث مكث 81 يوماً حتى يوليو/تموز 2013، لكنه ترشح رغم ذلك لولاية رئاسية في إبريل/نيسان 2014، وفاز بها من دون أن يقوم بتجمّع انتخابي واحد، غير أن ذلك كان مؤشراً على أن الرئيس دخل مرحلة تنقص فيها ممارسته الفعلية لصلاحياته السياسية، فيما كان نفوذ مجموعات سياسية بقيادة شقيقه السعيد بوتفليقة وكارتل مالي يجمع عدداً من رجال المال والأعمال، يتوسع ويتمدد في البلاد ويهيمن على مقدراتها. وفي إبريل/نيسان 2016، نُقل بوتفليقة مجدداً إلى مستشفى في سويسرا لإجراء فحوص طبية وصفتها الرئاسة بالدورية، ثم نقل في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه إلى عيادة في غرونوبل لإجراء فحص طبي. قبل ذلك كانت صورة ظهر فيها بوتفليقة مع رئيس الحكومة الفرنسية حينها مانويل فالس في إبريل/نيسان 2016، وهو شارد الذهن وفي وضع صحي متردٍّ، قد صدمت الرأي العام في الداخل والخارج، لكن بوتفليقة ظل متمسكاً بالحكم على الرغم من بروز مشكلات معقدة في البلاد.

ظهر بوتفليقة مع فالس وهو شارد الذهن وفي وضع صحي متردٍ في صورة شكلت صدمة للجزائريين

شهوة الحكم

ومع كل هذه الظروف، وعلى الرغم من أنه كان قد غاب عن المشهد منذ أكثر من تسعة أشهر، وكان في فبراير/شباط 2019 موجوداً في مستشفى بسويسرا، قرر بوتفليقة (أو دُفع) إلى الترشح لولاية رئاسية خامسة، لكن الشارع الجزائري كان قد انتفض ورفض مشروع الولاية الخامسة ومنع إجراء الانتخابات، ومع ذلك أودع بوتفليقة ملف ترشحه لدى المجلس الدستوري في مارس/آذار 2019، لكنه اضطر إلى إعلان إلغاء الانتخابات في 11 مارس/آذار من السنة نفسها، واقترح عقد ندوة وفاق وطني نهاية السنة لوضع خطة انتقال للسلطة، لكن ضغط الشارع زاد بحدة، وتراجع الجيش عن دعم بوتفليقة بدءاً من منتصف مارس/آذار، قبل أن يطلب قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح تطبيق المادة الـ 102 من الدستور (إعلان الشغور)، ما دفع بوتفليقة إلى تقديم استقالته في الثاني من إبريل/نيسان 2019.

قبل أشهر من وفاته، كان اسم بوتفليقة يتردد في محاكمات الوزراء ورؤساء الحكومات، حيث كان عدد منهم يحمّل وزر القرارات وقضايا الفساد لبوتفليقة. وبينما كانت هيئات الدفاع عنهم تطالب باستدعاء بوتفليقة للمساءلة أو بصفة شاهد على الأقل، كان القضاء يرفض ذلك ويتجاوز الأمر نهائياً، وبدا أن هناك خطاً أحمر من السلطة السياسية لعدم إقحام بوتفليقة في أي معركة قضائية، سواء باعتبار القانون الذي لا يجيز لأية محكمة محاكمته، أو باعتبار ظرفه الصحي، أو لاعتبارات التفاهمات السياسية التي جرت مع الجيش عشية استقالته من الرئاسة، بشأن ضمان خروجه الآمن من السلطة.

حتى وفاته ليلة السبت، كان الموقف الشعبي والسياسي من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، يميل إلى اعتباره أحد أكثر الرؤساء الذين فوّتوا فرصة تاريخية لإقلاع اقتصادي وإنجاز سياسي على الجزائر، في ظرف توافرت له كل العوامل والإمكانات المادية، وكذا عوامل الهدوء السياسي، ويستند هذا التقييم إلى سلسلة من الفضائح، وتخمة من قضايا الفساد السياسي والمالي التي تفجرت بعد رحيله عن الحكم، وانكشاف كارتل مالي كان متحالفاً مع المحيط السياسي المقرّب منه، ونجح في الهيمنة على مقدرات البلد واختلاس المال العام ونهب العقارات وتعطيل كل أسباب النمو.

خلال مساره السياسي الطويل، التقى بوتفليقة كبرى الشخصيات في القرن الماضي، كجوزيف تيتو، وجون كينيدي، ونيكيتا خروتشوف، وفيديل كاسترو، وجمال عبد الناصر، وزايد آل نهيان، وفيصل بن عبد العزيز، والحبيب بورقيبة، وجواهر نهرو، وغيرهم. لكنه، عدا حوارات سياسية مقتضبة، لم يكتب أية مذكرات أو شهادات عن أحداث وقضايا محلية وعربية، أو أوراق سياسية يمكن أن تمثل وثيقة للتاريخ وتعين الأجيال الجديدة والمؤرخين على فهم سلسلة من الأحداث، أو تصويب مواقف، وتلك خسارة كبيرة بالنسبة إلى التاريخ السياسي للجزائر.

المساهمون