في مثل هذا اليوم قبل عام، خرج عشرات المدنيين من الشبّان وبعض المؤثرين من شباب التيار المدني والعلماني إلى ساحة التحرير، وسط العاصمة العراقية بغداد، وكانت مطالبهم لا تتجاوز الاستنكار لحادثة الاعتداء على حملة الشهادات العليا، الذين تظاهروا قبل الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بأيام، مطالبين بتوظيفهم، إذ تعرضوا إلى الضرب والسحل والرش بالمياه الساخنة، من قبل قوات أمنية على مقربة من مكتب رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي.
ولم تلبث هذه التظاهرات البسيطة في 1 أكتوبر أن تحوّلت خلال ساعات إلى حشود ضخمة بالقرب من ساحة التحرير، إذ انضم إلى المحتجين أهالي المنطقة وأصحاب البسطات والأكشاك التي تم هدمها من قبل قوات الأمن. ودفع هذا الأمر القوات العراقية إلى فتح النار، ما أدى إلى سقوط أول قتيل، هو عباس إسماعيل، لترتقي التظاهرة إلى انتفاضة خلال مراسم تشييعه في اليوم الثاني، وتنتشر في مختلف المناطق العراقية، ممهدة لتحولات سياسية وأمنية واجتماعية لا تزال ارتداداتها قائمة إلى اليوم وسط تأكيد المحتجين على التمسك بحراكهم حتى تحقيق جميع مطالبهم وليس جزءاً منها.
شهدت الاحتجاجات عمليات حرق واقتحام لقنصليتين إيرانيتين وأكثر من 128 مقراً للأحزاب السياسية
وظلّت مناطق وسط وجنوب العراق تتابع القمع الذي تعرض له المتظاهرون في اليومين الأول والثاني، وسط حالة من الذهول بسبب فريق "القناصة" المجهول الذي انتشر عناصره على أسطح عدد من الأبنية القريبة من ساحة التحرير، وسط بغداد، نفذ خلالها ما يشبه "حفلة إعدامات" أمام كاميرات الصحافة والمتظاهرين. ودفع هذا الأمر بالمتظاهرين في الناصرية ثم بابل وميسان والبصرة والنجف وكربلاء والقادسية ومدن أخرى في جنوب البلاد إلى التجمع وسط تلك المدن صباح اليوم الثالث من تظاهرات بغداد وبأعداد كبيرة. وخرجت في اليوم الرابع في جنوب ووسط العراق تظاهرات ضخمة، تطالب بالإصلاحات وإنهاء الفساد. ويُحسب لكربلاء أنها صاحبة شعار الثورة العراقية الأشهر "نريد وطن". ومع بدء سقوط قتلى وجرحى في مناطق الجنوب، أعلنت الحكومة حظر التجول الشامل وقطعت خدمة الإنترنت لأكثر من 14 يوماً في عموم مناطق العراق، عدا إقليم كردستان. وسقط حتى 15 أكتوبر 2019 عشرات القتلى والجرحى، في ظل تعتيم إعلامي، واقتحام لمكاتب المحطات الفضائية والوكالات الإخبارية من قبل مليشيات مسلحة.
وامتدت خريطة التظاهرات في عدة مدن، من البصرة وميسان وذي قار والقادسية وبابل والمثنى وواسط وكربلاء والنجف، إلى جانب بغداد. كما شهدت كركوك وديالى تظاهرات متقطعة بفعل الإجراءات الأمنية والتوجس من تنظيم "داعش"، المتربص بتلك المناطق. وشهدت الاحتجاجات عمليات حرق واقتحام القنصليتين الإيرانيتين في كربلاء والنجف، وتدمير وحرق أكثر من 128 مقراً للأحزاب السياسية ومكاتب الفصائل المسلحة المرتبطة بطهران. ومن أبرز شعارات التظاهرات العراقية، "نريد وطن"، و"إخوان سنة شيعة هذا الوطن ما نبيعه"، و"باسم الدين باكونه (سرقونا) الحرامية"، و"لكم دينكم ولنا وطننا"، و"انعل (يلعن) أبو إيران لأبو أميركا".
يستذكر الناشط غيث العبيدي، وهو من بغداد، الساعات الأولى من انطلاق تظاهرات أكتوبر، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إنه "لم تكن خطة المتظاهرين البقاء كثيراً في ساحة التحرير، بل إن الغالبية كانت تنوي الرحيل عند السابعة من مساء اليوم. لكن فوجئنا حينها بالعنف الذي وقع على المتظاهرين، حيث أطلقت قوات مكافحة الشغب عشرات قنابل الغاز المسيل للدموع، أعقب ذلك إطلاق الرصاص الحي باتجاه المحتجين، حتى سقط أول قتيل. وهنا كان لا بد من إعادة النظر بخيار العودة إلى المنازل". وأوضح أن "القوات الأمنية، التي أغلقت جسر الجمهورية، لاحقت المتظاهرين في أزقة حي البتاويين وتجاوزت ذلك بضرب محتجين ومحتجات".
ولفت العبيدي إلى أن "انتفاضة تشرين (الأول) وبالرغم من جائحة كورونا التي تسببت بتراجعها، إلا أنها علامة تاريخية في سيرة الشباب العراقي الرافض للأنظمة الفاسدة. كما أنها وبالرغم من خسارة مئات المحتجين في عموم البلاد، تركت رعباً لدى الأحزاب المتورطة بسرقة أموال العراق وكذلك الفصائل المسلحة الموالية للخارج". وأشار إلى أن "هناك حراكاً لعودة الاحتجاج في نهاية الشهر الحالي، وتحديداً في 25 أكتوبر، من أجل العودة مجدداً لـ(مواجهة) فرض كل أشكال المحاصصة الحزبية والطائفية في إدارة البلاد، إضافة إلى الضغط على الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي للكشف عن الجهات التي قتلت المحتجين".
الأحزاب كانت مرتعبة من الحس الوطني العالي والمد البشري المتزايد، وبالتالي تعرضت الانتفاضة إلى موجة عنف مفرط
وسقط في التظاهرات العراقية أكثر 700 قتيل. وفيما لا توجد إحصائية دقيقة عن جرحى الاحتجاجات، إلا أن منظمات حقوقية ومصادر طبية تتحدث عن أرقام تراوح بين 25 و27 ألف مصاب، بسبب الرصاص الحي وقنابل الغاز والدهس بالسيارات والاختناق بالغازات والضرب المبرح المفضي إلى تكسير الأطراف والطعن بالسكاكين. لكن الحكومة التي لا تتفق مع هذه الأرقام، تشير على لسان مستشار رئيس الحكومة هشام داود، إلى أن "عدد شهداء ثورة تشرين (الأول) بلغ قرابة 500". ويعترف داود في تصريحات سابقة له، بأن "التظاهرات رافقها عنف غير مبرر". وبالرغم من الإعلان عن تشكيل "لجنة تقصي الحقائق" بغرض التوصل إلى الجهات التي فتحت النار على المتظاهرين في المحافظات العراقية، إلا أن نتائجها لا تزال غير متوفرة، وهو ما يفسره سياسيون بأن "الجهات القاتلة" تمنع ظهور النتائج.
وشهدت ساحات وميادين التظاهر في البلاد سلسلة من المجازر التي راح ضحيتها عشرات القتلى من العراقيين. ولعل أشهرها مجزرة الناصرية في ديسمبر/ كانون الأول، بعد يوم واحد من وصول الفريق جميل الشمري إلى محافظة ذي قار، حيث عيّنه رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي في عضوية ما يُعرف بخلية الأزمة، بهدف "ضبط الأمن وفرض القانون". وذهب ضحية تلك المجزرة 58 قتيلاً من المتظاهرين و200 جريح. وعقب ذلك أرغم عبد المهدي على تقديم استقالته إلى البرلمان، الذي قبلها بسرعة. كما وقعت مجزرة ساحة الصدرين وسط النجف، والتي تسببت بمقتل 14 شخصاً، ومجزرة ساحة الخلاني، وسط بغداد، التي راح ضحيتها 23 متظاهراً، بالإضافة إلى سلسلة طويلة من جرائم الاغتيال، لعل آخرها اغتيال الخبير الأمني هشام الهاشمي في بغداد، والناشط تحسين أسامة ورهام يعقوب في البصرة.
وساهم انتشار فيروس كورونا، واعتماد الحكومة العراقية طرق محاربة الجائحة عبر حظر التجول والحجر الصحي في مارس/ آذار الماضي، بتراجع عدد المحتجين، إلا أن الناشط من الناصرية علي الغزي قال إن "عودة التظاهرات حدث حتمي". وأكد، لـ"العربي الجديد"، أن "مطالب المتظاهرين لم تتحقق جميعها حتى الآن، فقد أعلنت الحكومة العراقية عن موعد الانتخابات المبكرة، لكن هناك تشكيكاً من قبل المحتجين بجدية الأحزاب والحكومة بالتنفيذ. كما أن قتلة المتظاهرين لا يزالون خارج أسوار السجون، فيما لا يزال نحو 15 شخصاً، ما بين ناشط ومتظاهر، مغيبين، ولم يظهر لهم أثر منذ أشهر". وبالرغم من إعلان القضاء العراقي الإفراج عن جميع المعتقلين من الذين شاركوا في الاحتجاجات من السجون، إلا أن ناشطين من مناطق وسط وجنوب البلاد ينتظرون ظهور رفاقهم من المختفين قسرياً ويقدرون بـ12 متظاهراً وناشطاً، ومنهم علي ساجت وتوفيق التميمي ومحمد موديل ومازن لطيف.
من جهته، قال سكرتير الحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي، إن "انتفاضة أكتوبر تمثل حالة عراقية خالصة لرفض القوى المهيمنة على الحكم، والتي احتكرت كل المناصب والامتيازات والأموال والقرارات وطريقة إدارة السلطة. وقد برز الغضب الشعبي المتنامي منذ سنوات عند العراقيين عبر احتجاجات أكتوبر". وبين، لـ"العربي الجديد"، أن "السلطة وقواها الأمنية وبعض الأطراف التي دخلت على خط حماية النظام الحاكم في البلاد، لم تكن تعي أن الشباب المتظاهرين بلغوا حالة من الوعي البالغة التي تمنع أي شكل من أشكال الاحتيال الإعلامي الذي تمارسه الأحزاب. كما أن الأحزاب كانت مرتعبة من الحس الوطني العالي والمد البشري المتزايد، وبالتالي تعرضت الانتفاضة إلى موجة عنف مفرط". ولفت إلى أن "التظاهرات العراقية حققت الكثير من المنجزات، أولها إشعار السلطة بأن الشعب هو الذي يقرر ويختار وأنه مصدر السلطات الوحيد، ولا مساحة لفرض إملاءات حزبية أو عقائدية على شكل الدولة ونظام حكمها، وإنما الاحتكام إلى الرأي الشعبي. كما شعر المحتجون بأن القوة الجماهيرية قادرة على التغيير إذا توفرت الإرادة". وأكد أن "المتظاهرين ينتظرون حالياً إجراء الانتخابات المبكرة، كما أنهم لا يزالون يطالبون بالمزيد من الحماية، والكشف عن قتلة رفاقهم من المحتجين".
ولا يستبعد السياسي العراقي سعد المطلبي تجدد التظاهرات خلال الأسابيع المقبلة. وقال، لـ"العربي الجديد"، إن "شريحة كبيرة من الشباب العراقي غاضبة من الأخطاء التي تقع فيها الحكومة. كما أن الشباب لا يزالون يشعرون بخطر، وأن كثيرين منهم سقطوا قتلى، واستغل آخرون هذه التضحيات، وبالتالي فإن فرصة عودة التظاهرات وتجددها أمر وارد". وبين أن "بعض الجهات تسعى للنيل من التظاهرات، من خلال الترويج لفكرة حمل السلاح ضد النظام، إضافة إلى اقتحام المنطقة الخضراء بالقوة، وهو ما قد يتسبب بحرب أهلية، تستفيد منها جهات داخلية وخارجية، فيما يقع المواطن العراقي ضحية لها".