مرّ عامان على انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول الشعبية في لبنان، غير أن المشهد لا يزال هو نفسه، لا بل يزداد سوءاً، ليس فقط منذ ذلك الحين، ولكن منذ ثلاثين عاماً أعقبت انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. فالمنظومة التقليدية لا تزال تحكم البلد بالسلاح والفساد، وتنهب المال العام من دون أي رادع أو محاسبة، بينما الشعب الذي يرزح تحت أسوأ أزمة اقتصادية، يُجوَّع ويُذل ويُسرَق ويُهجَّر، وأخيراً يُفجَّر، وتُمنع محاسبة المتورطين، كما يحصل الآن من خلال الضغط لإطاحة المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق بيطار، حتى لو تطلب ذلك، التهديد بانفلات أمني واندلاع اشتباكات داخل بيروت، وخلق شارعين متقابلين، وافتعال قتال أهلي "مصغّر" كما كان المشهد عليه قبل أيام في العاصمة. لا بل إن الأحزاب سارعت لاستغلال هذا القتال لاستعادة شعبيتها، عبر شدّ عصب جمهورها، قبيل الانتخابات النيابية المقررة في الربيع المقبل، وما بعدها الرئاسية.
وفيما يتكرر شعار "إسقاط الطبقة السياسية" عند كل تحرك، وتتعالى المطالب بـ"محاسبة المسؤولين عن انهيار البلد"، وصولاً إلى الدعوة لمعاقبة المسؤولين عن انفجار مرفأ بيروت المدمر الذي وقع في 4 أغسطس/آب من العام الماضي وخلّف أكثر من 200 قتيل وآلاف الجرحى، وغيرها من الهتافات التي يرحل صداها مع انتهاء التحركات، يبقى السياسيون في مواقعهم، مسيطرين مع المصارف، على مواقع ومراكز الدولة، لا بل منتفضين في وجه القضاء عندما يقترب من "هالتهم"، فيسارعون إلى التجييش والتهويل واللعب على وتر الفتنة والطائفية، وتعزيز نظريات المؤامرة والاستهداف.
لا يزال السياسيون التقليديون مسيطرين على مراكز الدولة
أسباب كثيرة حالت دون تحقيق التغيير المنشود في المشهد اللبناني، على الرغم من تمسّك المحتجين بمطالبهم وتمكّن المجموعات المدنية من إحداث خرق في الانتخابات النقابية على صعيد نقابتي المحامين والمهندسين والاستحقاقات الطلابية في الجامعات، وحتى في خلق إعلام بديل خارج التبعية للقوى السياسية.
وتتحدث مديرة تحرير مجلة "استديو أشغال عامة" البحثية، جنى نخال، لـ"العربي الجديد"، عن أسباب تعثر تحقيق المطالب. وتشير إلى "استخفاف الناس في بادئ الأمر بقوة وسيطرة النظام، إذ لم نكن نتوقع أنه متغلغل بهذا الشكل، واعتقدنا أننا بضربات متتالية في استطاعتنا القضاء عليه". وتضيف نخال أن "المجموعات المدنية التي نشأت بفعل التحركات؛ سواء عام 2015 (احتجاجات انطلقت بفعل أزمة النفايات وتطورت للمطالبة بإسقاط الطبقة السياسية) أو عام 2019، لم تتمكن حتى الساعة من اقتراح خطوات عملية فعلية لتحقيق التغيير، علماً بأن المسؤولية هنا لا تتحملها فقط هذه المجموعات وحدها، بل لا بد من ربط الأمور أيضاً بالأزمات المتراكمة منذ عقود، وصعوبة خرق النظام وهيمنته على جميع مفاصل الحياة".
كذلك، تتحدث نخال عن "قدرة المنظومة المتحكمة بالبلد، على مسك الناس من اليد التي تؤلمها، من ناحية مسألة تقديم الخدمات وما يتعلق بالحياة اليومية من جهة، وتحكّمها بالعلاقات الاجتماعية من جهة ثانية"، موضحةً أن هذه المنظومة "قادرة على إحداث شرخ اجتماعي حقيقي بين من يدعمها والطرف الذي يعارضها، وببساطة لها أن تمنع الخدمات عن كل من يقف ضدها. ولهذا كله، نحن غير قادرين لغاية الآن على إحداث تغيير حقيقي في النظام".
ونشر مركز "استديو أشغال عامة" أخيراً، في الذكرى الثانية لـ"انتفاضة 17 تشرين"، ملفاً حول الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والمديني في لبنان. وحول هذا الملف، تشير نخال إلى أنه "يعالج القضايا اليومية للناس، عبر قراءة نقدية للانتفاضة والتفكير بما نريد اليوم بعد هذه الانتفاضة، وخلال أحد أسوأ ثلاثة انهيارات اقتصادية في الأعوام المائة الأخيرة". كما أنه "يعالج مسألة العدالة المكانية التي نبحث عنها في مدينة يحاول النظام تهجير أهلها وقضم آخر بقايا الأملاك العامة، فضلاً عن مسألة الفصل والتفاوت الاجتماعي التي أبرزتها الانتفاضة ولم تعالجها، إضافة إلى معالجة الواقع الاقتصادي السياسي الذي بدأ بالظهور قبل الانتفاضة وبعدها، والذي تحاول السلطة إخفاءه عبر حلول تطيل الأزمة وتسمح لها بالهرب من المسؤولية". وتتوقف نخال عند "العدالة المكانية وأهمية التنظيم في الأحياء والشوارع، وتكوين لجان قادرة على تأمين الخدمات للناس بشكل ديمقراطي، وعلى "مشاركة الوعي السياسي حول حقوق السكان عامة".
من جهته، يرى الناشط السياسي والأستاذ الجامعي، جيمي كرم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الثورة نجحت في فترة من الفترات في الحشد الجماهيري وإطلاق العمل السياسي في المدن التي كان هذا العمل مغيّباً فيها ومحصوراً بمكونات السلطة على مدى عقود، وجعلت الناس تنزل إلى ساحاتٍ عامة وتلتقي مع بعضها بعضاً بعدما كانت مقموعة ومفروزة، فحصل تفاعل مواطني كبير وتباحث في أفكار سياسية مستقبلية على مستوى كل منطقة. وبالتالي، تمكّنت الانتفاضة من كسر حاجز الانقسامات المجتمعية، وبات منظروها لاعباً أساسياً على الساحة المحلية تخشى منهم الأحزاب التقليدية، خصوصاً بعد كشف ملفات فساد عن طريق محامين ومجموعات ناشطة طاولت السياسيين وكذلك القطاع المصرفي وفضائحه".
تمكنت السلطة السياسية على مدى أكثر من 30 عاماً في الحكم، من تغييب أي فريق خارج دائرتها
من ناحية ثانية، يشير كرم إلى أن "السلطة السياسية تمكنت على مدى أكثر من 30 عاماً في الحكم، من القضاء على أمور عدة، على رأسها تغييب أي فريق خارج دائرتها، خصوصاً أصحاب المشاريع السياسية المناهضة لها. كذلك، كانت أحزاب السلطة مسيطرة بشكل كامل على النقابات وعملها". ويلفت كرم كذلك إلى "الممارسات القمعية والاتهامات التي طاولت الناشطين خلال انتفاضة 17 أكتوبر، وهو ما أثّر، إضافة إلى العوامل المذكورة، على الثورة واستمراريتها".
ويعتبر كرم أن "المنظومة الحاكمة، اعتمدت سياسة المماطلة والحلول والشعارات الكاذبة الاحتيالية، مثل رفع شعار تشكيل حكومة مستقلة صاحبة اختصاص، بينما نعلم جيداً أن الحكومتين اللتين شُكّلتا بعد الثورة (حكومة حسان دياب وحكومة نجيب ميقاتي)، منبثقتان عن هذه السلطة، وليستا إلا تمثيل لها داخل مجلس الوزراء. كما لعبت هذه المنظومة على عامل الوقت لإجهاض الثورة، وأتت الأزمة الاقتصادية ضربة قاضية جعلت الناس في مكانٍ آخر، همّهم الوحيد تأمين لقمة العيش والدواء ومستلزمات الحياة".
تبعاً لهذه الأسباب والعوامل، يرى كرم أن "المجموعات الناشئة تحتاج إلى وقتٍ حتى تختبر العمل السياسي، وفي الوقت نفسه ليست لديها رفاهية الوقت، وقد بدأت فعلاً تتشكل مجموعات فاعلة في مناطق عدة منها طرابلس، حيث هناك أشخاص يريدون مواجهة السلطة".
وتنظم مجموعات مدنية بعد ظهر اليوم الأحد تحركاً في العاصمة بيروت تحت عنوان "استعادة الدولة"، يبدأ من قصر العدل ويمر في منطقة السوديكو ثم جسر الرينغ، ومبنى جمعية المصارف، وصولاً إلى ساحة الشهداء في وسط العاصمة. ويقول عدد من المشاركين في هذه المسيرة لـ"العربي الجديد"، إن الانتفاضة اليوم يجب أن تعود أقوى، لأن الوضع أصبح أسوأ بكثير مما كان عليه عام 2019، حينما كان الدولار يشهد ارتفاعاً خجولاً أمام الليرة اللبنانية، بينما تخطى في الفترة الأخيرة العشرين ألف ليرة. كذلك، فإن الارتفاع الجنوني في أسعار مختلف السلع والخدمات متواصل، لا سيما بعد رفع الدعم عن معظمها، في حين أنه لا وجود لرقيب أو سلطة تضع حداً لجنون وجشع تجار السوق السوداء الذين يظهرون أقوى من الدولة، بل يعملون بتغطية من أحزاب السلطة، بحسب ما يرى كثيرون في لبنان.
ويؤكد هؤلاء أن قضية انفجار مرفأ بيروت ستكون حاضرة في المسيرة اليوم، ويقولون إن هذه القضية "فضحت كذبة حكومة نجيب ميقاتي التي ترفع شعار الإنقاذ والإصلاح ومكافحة الفساد، أمام الداخل والخارج، إذ ظهر بوضوح أن هذه الحكومة تمثل المنظومة وزارياً ولن تكون إلا حامية للفاسدين والمجرمين، خصوصاً بعد تهديد حركة أمل وحزب الله بتعليق مشاركة وزرائهما في اجتماعات هذه الحكومة، والسعي للإطاحة بقاضٍ (طارق بيطار) يعمل بجهد للوصول إلى العدالة والحقيقة".
يذكر أنه بعد اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر في 2019، استقالت حكومة سعد الحريري بضغط من الشارع في الـ29 من الشهر نفسه، ليكلف بعدها رئيس الجمهورية ميشال عون في 19 ديسمبر/كانون الأول 2019 حسان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة ويوقع مرسوم تشكيلها في 21 يناير/كانون الثاني 2020.
تنظم مجموعات مدنية تحركاً اليوم تحت عنوان "استعادة الدولة"
أتت حكومة دياب بعناوين إصلاحية عريضة وخطة "مائة يوم" تلبي طموحات الشباب اللبناني الذي انتفض لإسقاط المنظومة بأكملها تحت شعار "كلن يعني كلن"، ليتبين سريعاً من أسماء الوزراء وطريقة تشكيل حكومة دياب، أنها أتت برعاية "حزب الله" وحلفائه. وعجز وزراء هذه الحكومة عن إدارة شؤون وزاراتهم، لا بل ساهموا في إغراق البلد أكثر، فكانوا عرضةً لتحركات طاولت مكاتبهم، خصوصاً وزراء الاقتصاد والطاقة والشؤون الاجتماعية، بينما اتُهمت وزارتا الدفاع والداخلية بقمع التظاهرات والتحركات واعتقال الناشطين، وهي من المشاهد التي أثرت سلباً على الحضور الشعبي في التحركات، التي كان أيضاً فيروس كورونا من أبرز الأسباب التي أثرت عليها وأخلت الساحات من المنتفضين.
الفضيحة الكبرى التي عرّت السلطة السياسية بأكملها بما في ذلك حكومة حسان دياب، وأججت الشارع والغضب الشعبي بشكل كبير مجدداً، كانت انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020. فقد اضطر دياب بعد ذلك، وتحديداً في 10 أغسطس، للإعلان عن استقالة حكومته، بينما قصد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان، كاسراً القطيعة الخارجية مع حكام لبنان، ومعوّماً مجدداً المنظومة الحاكمة، إذ وضع بيدها مبادرة إصلاحية وجعل منها المنقذ على الرغم من رفعه خطابات حادة بوجهها.
وفي 31 أغسطس 2020، كلف عون السفير اللبناني لدى ألمانيا، مصطفى أديب، بتشكيل حكومة جديدة، قبل أن يعتذر الأخير في 26 سبتمبر/أيلول نتيجة الشروط والمحاصصة التي أرادت الأحزاب فرضها عليه، وإصرارها على اختيار وزرائها وحقائبها، فسارع سعد الحريري من جديد لإعلان نفسه "مرشحاً طبيعياً" لرئاسة الحكومة، وكُلف بذلك في 22 أكتوبر 2020، وخاض جولات وصولات مع الرئيس عون ومن خلفه صهره النائب جبران باسيل، قبل أن يعتذر الحريري كذلك في 15 يوليو/تموز الماضي، ويأخذ مكانه نجيب ميقاتي في 26 يوليو.
في 10 سبتمبر الماضي، أعلن ميقاتي تشكيل حكومة، ترفع اليوم شعار الإنقاذ، وهي نفسها تعلق جلساتها في أصعب الظروف، بسبب تهديدات وزراء حزب الله وحركة أمل، إذا لم تتم إقالة المحقق العدلي طارق بيطار، الذي تجرأ للمرة الأولى وادعى على رئيس حكومة سابق (حسان دياب) ومسؤولين سياسيين نافذين، وأصدر مذكرات إحضار وتوقيف بحقهم، وقد ترجمت هذه التهديدات سريعاً باشتباكات بيروت الأخيرة.