صفوت الزيات: حرب أكتوبر لم تُخضع أي طرف للآخر

06 أكتوبر 2023
سيبقى الأرشيف العسكري مرتبطاً بحساسيات الثقافة العسكرية الجامدة (يوتيوب)
+ الخط -

يتحدث الخبير في العلوم العسكرية والاستراتيجية، العميد المتقاعد صفوت الزيات، وهو أحد المشاركين في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، لـ"العربي الجديد" في ذكرى مرور 50 عاماً على هذه الحرب التي تعد "أكبر انتصار" حققه العرب على الاحتلال الإسرائيلي في حروبهم المتتالية، عن بعض من تفاصيل الحرب وأرشيفها، فضلاً عن وضع الجيوش العربية.


بداية، كيف ترى مسألة "حجب الأرشيف العسكري" للحرب. هل يمكن اعتبار ذلك جيداً للحفاظ على "الأسرار العسكرية" كما يقول البعض، أم أنه يحرم الباحثين والمؤرخين من الاطلاع على الحقائق؟

بالتأكيد ومن الطبيعي أن يكون هناك أرشيف كامل متكامل عن مجريات الصراع المسلح الذي جرى في أكتوبر 1973، بكل جوانبه: السياسية والعسكرية على وجه الخصوص، وهما الجانبان ربما الأهم والأكثر دقة في تسجيل المواقف، على اعتبار أن الحرب بطبيعتها سياسة، ومن يقوم بها وينهيها هم الساسة.

الأرشيف موجود، ولكن هناك مسائل ترتبط بالثقافة العسكرية العربية عموماً والمصرية تحديداً. لدينا انحياز كبير وأحياناً "غير مبرر" في مسائل أمن المعلومات ودرجات السرية في الوثائق العسكرية، وهذا يمنع إلى حد كبير، الجدل النقدي الواسع الخصب الذي يوفر لرجال الاستراتيجية، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، البيئة والمعلومات الخصبة التي يمكن من خلالها نقد تجارب الحروب بشكل أو آخر، والوصول إلى دروس تعبر بنا إلى المستقبل، وإلى التأهب بشكل يجعلنا نحقق ما نتمناه.

سيبقى الأرشيف العسكري مرتبطاً إلى حد ما، بحساسيات الثقافة العسكرية الجامدة

ولذا سيبقى الأرشيف العسكري مرتبطاً إلى حد ما، بحساسيات الثقافة العسكرية الجامدة، التي تولي أهمية كبرى لمسائل أمن الوثائق والأسرار العسكرية، على الرغم من أن مرور عقود على هذه الحرب، لا يوفر مبرراً لحجب معلومات أرى بشكل أو بآخر أنه يجب أن تطرح بصراحة لكل الدارسين السياسيين والاستراتيجيين، سواء من المدنيين أو العسكريين على التوازي. لكن في المستقبل وربما بعد رحيل أجيال تتباعد عن المسؤولية أو الانحياز لطرف على حساب طرف، قد نجد في لحظة ما، عندما تتأسس في مصر علاقات مدنية عسكرية صحيحة، وعندما يتواجد لدينا المفكرون الاستراتيجيون المدنيون والعسكريون على السواء، وعندما نتحرر من جمود فكرة الأمن والسرية، وقيود كبيرة مكبّل بها هذا الفكر، قد نشهد ما نشهده على الجانب الإسرائيلي، الذي في كل عام يسرد لنا أحداثاً خاصة بالحرب تكون جديدة وأكثر عمقاً وتأثيراً، ربما لأن لديهم مساحة كبيرة من الحرية في تناولهم المسائل الاستراتيجية وذكر العيوب.

هل تعتقد أن النتائج السياسية لعملية السادس من أكتوبر 1973 لم تكن بحجم النجاح العسكري الذي تحقق على الأرض؟

العلاقات المدنية العسكرية وأولوية السياسة في شؤون الحرب وإدارة الصراع سواء في إعلانه وحتى ترتيبات وقفه، كلها أمور تتجاوز كثيراً مسائل الانتصار والهزيمة. نحن في زمن الحروب "رمادية النتائج"، بمعنى أن الأفضل والأكثر دقة هو التحدث عن النجاح والفشل، وليس الحديث عن الانتصار والهزيمة، لأن في الحالة الأخيرة، الأمر يرتبط إلى حد كبير بإخضاع إرادة الخصم، ووقفه عن أعمال القتال.

لا أحد يتصور أننا في يونيو/حزيران 1967، فقدنا إرادة القتال أو خضعت إرادتنا للخصم الإسرائيلي، ولكن كي نكون محايدين وأصحاب رؤية مؤسسة على قواعد "ذات مصداقية"، نقول أيضاً إنه في نهايات حرب أكتوبر، لم يخضع أي طرف للطرف الآخر في مسائل إرادة استمرار القتال أو خلافه، ولكن كان عبء قرار وقف القتال على عاتق الرئيس أنور السادات تحديداً، لأنه أدرك أن ما تحقق كان يكفي لبدء عملية دبلوماسية، وأيضاً أراد أن يتجنّب أمثلة لتدمير جيوش بالكامل، على غرار ما حدث في عملية عاصفة الصحراء ضد العراق.

لا أحد يتحدث عن انتصار كامل أو هزيمة كاملة، لأي من طرفي حرب أكتوبر

وفيما يخص مسألة "هل استثمرت السياسة المصرية، الأداء العسكري والنتائج العسكرية لعمليات أكتوبر 1973؟"، فلا أحد يتحدث عن انتصار كامل أو هزيمة كاملة، لأي من طرفي الصراع. وكما قلنا ربما في بدايات الحرب أو النصف الأول من الحرب، كنا نمتلك المبادرة، وحققنا ربما المفاجأة الاستراتيجية، وأدى الجيش المصري أداءً رائعاً، يحسب له في كتب التاريخ العسكري. وصلنا إلى أعماق أبعد من 12 إلى 15 كيلومتراً عن الضفة الشرقية لقناة السويس، وفي النصف الثاني للحرب، جاء التحذير السوفييتي ليكون عاملاً مؤثراً في حدوث "الثغرة الصعبة" بمنطقة الدفرسوار، بين الجيشين الميدانيين الثاني والثالث، وتغلغل الإسرائيليون جنوباً إلى مشارف مدينة السويس، وكان حصار الجيش الثالث بلا شك، تحوّلاً في الحرب علينا أن ندركه.

كيف تقيّم القرار العسكري الخاص بالتعامل مع ثغرة الدفرسوار؟

رفض السادات عودة تشكيلات القتال الرئيسية من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية لقناة السويس لاحتواء الثغرة، وكان محقاً، لأنه كان يدرك أن الأمر سيحسم سياسياً، وأنه حقق ما كان يريده من كسر هيبة الجيش الإسرائيلي، إذ تم تدمير خط بارليف، وتحققت مفاجأة استراتيجية أعادت الاتزان المعنوي والاستراتيجي للجانب المصري على كافة المستويات. إذاً ليس هناك داعٍ لأن تتبدد قوتنا البشرية والعتاد العسكري في امتدادات لن يكون لها انعكاسات على السياسة، خصوصاً أن النظام العالمي كان ضدنا تماماً عندما كنا نعبر من الضفة الغربية إلى أرضنا في الشرق.

كانت هناك أراضٍ على الجانب الشرقي وصولاً إلى عمق سيناء محتلة، إذاً فالثغرة لم تضف جديداً، لكن كانت هذه فرصة للرئيس السادات في أن يوقف الحرب. وأتصور أن أحد أفضل خطاباته، عندما عاد من مركز العمليات الرئيسي للقوات المسلحة، ليكتب خطاباً إلى الرئيس السوري حافظ الأسد الذي شاركه الحرب، والذي كان يرفض وقف إطلاق النار على الرغم من تدهور الموقف العسكري في الجبهة السورية. السادات فعل أقصى ما يمكن فعله في ظل التوازنات العسكرية، والخلل الكبير في النظام الدولي، وانحياز القوة العظمى الولايات المتحدة التام للجانب الإسرائيلي.

كيف تم تجاوز ذلك الخلل في لحظة أكتوبر؟

الخلل الذي كنا نعاني وما زلنا نعاني منه في القدرات العسكرية مع الطرف الإسرائيلي، ومهما تم الحديث عن معاهدة السلام، إلا أن هناك أكثر من 43 عاماً من السلام البارد بيننا وبين الجانب الإسرائيلي. وما زالت مشكلة التفوق النوعي العسكري الذي تضمنه الولايات المتحدة لإسرائيل، حاجز قلق للمسؤولين المصريين على مدار الساعة. ما نتحدث عنه الآن بعد 50 عاماً أنه استطعنا وفعلنا وعبرنا من شاطئ اليأس إلى شاطئ الرجاء، ورفعنا علمنا وارتفعت هامتنا وقد تكون صواري أعلامنا مخضبة بالدماء، لكن هذا لا يعني أننا نسلم الآن إلى جيل يأتي من بعدنا، هذه الأعلام مرفوعة عزيزة، حيث شهدنا في السنوات الأخيرة، هذا القدر من علامات الاستفهام، حول مدى إخلاصنا لهذه اللحظة الرائعة التي كانت في أكتوبر 1973.

ما زالت مشكلة التفوق النوعي العسكري الذي تضمنه الولايات المتحدة لإسرائيل، حاجز قلق للمسؤولين المصريين

لمناسبة الحديث عما هو سياسي وما هو عسكري، لمن كان القرار النهائي في شن الحرب، السياسي أم العسكري؟

الرئيس السادات عندما اتخذ قرار الحرب في الاجتماع الشهير في 24 أكتوبر 1972، تحفظ على القرار كثير من كبار القادة العسكريين آنذاك، لأن العسكري بطبيعته يربط قرار الحرب بتوازنات القوى العسكرية، والحاجة إلى أنظمة تسليح ومعدات دعم وإجراءات لوجستية، قد لا تتوفر بالضرورة لطالبي مثل هذه الإمكانات والقدرات الذين كانوا في قاعة الاجتماعات في أكتوبر.

السادات كان يدرك أن السوفييت لا يوفرون احتياجات القوات المسلحة المصرية من المعدات العسكرية الحساسة التي يتطلبها هذا الصراع

الرئيس السادات وكان عسكرياً إلى حد كبير، دخل القاعة في ذلك اليوم المصيري، مدركاً أن السوفييت لا يوفرون احتياجات القوات المسلحة المصرية من المعدات العسكرية الحساسة التي يتطلبها مثل هذا الصراع الذي قد يمتد، خصوصاً الأسلحة القادرة على القصف في العمق، لإحداث توازن في الجانب الاستراتيجي، حيث قد تتعرض مصر في بعض ظروف الحرب إلى قصف عمقها وبالتالي هي في حاجة إلى قاذفات متطورة لم يوفرها الجانب السوفييتي كما أرادت مصر.

وجاء البيان الخطير الذي واكب اتفاقية "سالت واحد" في اجتماع موسكو بين الرئيسين الأميركي والسوفييتي، في مايو/أيار 1972، ليشير في فقرة مهمة للغاية إلى أن الجانبين يسعيان إلى "الاسترخاء العسكري في الشرق الأوسط". وإذا كنا كمصريين نعاني من خلل في التوازن العسكري لصالح الجانب الإسرائيلي، فإن مثل هذا البيان، رسّخ الحفاظ على الخلل في القدرات العسكرية لصالح الجانب الإسرائيلي، فبدأ الاستيطان الإسرائيلي في شمال سيناء، وترتب عليه ترسيخ التواجد الاستيطاني في مناطق في شبه جزيرة سيناء، مما قد يعقّد المستقبل في مسائل كثيرة، في سبيل تطهير مثل هذه المستوطنات.

السادات كان يدرك أيضاً طبيعة المسألة الاقتصادية الصعبة في الداخل المصري، وحالة الغليان الشعبي الكبير الذي كان يطالبه بتصرف ما على الجانب العسكري في الجبهة. وكما قلت فإن العسكريين لا يريدون التسرع بشأن الحرب حتى تتوفر لديهم إمكانات، ويمكن أن نتفهم أنه في نهاية هذا الاجتماع، كانت الخيارات المتاحة، هي: القيام بعملية عسكرية شاملة بمعنى التقدم في سيناء وتحرير جزء كبير من شبه الجزيرة، أو القيام بعملية محدودة، ربما لبضع عشرات من الكيلومترات على الجانب الشرقي من قناة السويس، أو تأجيل الحرب إلى فترة أخرى.

السادات كان يرى أننا سنقاتل بما يتوفر لدينا من قدرات عسكرية حالية، لأن الأمر أصبح غير محتمل في ظل القلق من بقاء الأمور على هذه الحالة التي تعني ترسيخاً للاحتلال. وربما في هذه اللحظة رجحت حسابات السياسة على التوازنات العسكرية، وأعتقد أن ذلك كان صحيحاً في المسائل الاستراتيجية، وربما كان هناك مجال أوسع للحسابات ترتبط ليس فقط بالقتال على خطوط المواجهة، ولكن بشكل أعمق اقتصادياً واجتماعياً ودبلوماسياً وسياسياً، وأعتقد أن اجتماع 24 أكتوبر 1972، وصل إلى المعادلة الصحيحة في مسألة شن الحرب.

هل ترى تغييراً حدث في بنية وعقيدة الجيوش العربية على مدار الـ50 سنة الماضية؟

القيادة السياسية العليا للبلاد، شهدت أزهى فتراتها ما بعد هزيمة يونيو 1967 وحتى عمليات حرب أكتوبر 1973، حيث كان الجيش المصري متفرغاً تماماً للشأن العسكري، وكان خاضعاً بشكل تام للقيادة السياسية العليا، وكنا نتمنى أن تدوم هذه الحالة، ولكن يا للأسف الشديد لم ننجح بعد ذلك في الحفاظ على مسألة التفرغ الكامل للعسكريات العربية في عملها الاحترافي، وربما ألقيت عليها أعباء في مسائل الشؤون الداخلية والسياسية.