بعد ساعات قليلة من الإعلان عن الضربة الجوية في السادس من أكتوبر 1973، توافد المطربون والملحنون والشعراء إلى مبنى الإذاعة لتقديم أغانٍ عن تلك اللحظة التي اعتبروها ملحمية، بعد سنوات من الهزيمة والخيبة. إذ بعد نكسة عام 1967، تراجعت حدة الأغاني الوطنية الحماسية، لصالح نوعين من الموسيقى: الأغنية الشعبية وأحد أبرز أوجهها محمد رشدي، والأغنية الوطنية التي "تطبطب" على شعور الهزيمة عند المصريين.
وجاء العبور.
لعلّ أبرز سمات هذه الحرب كان عنصر المفاجأة، لا على الاحتلال الإسرائيلي وحده، بل على المصريين أيضاً. وهو ما يفسّر هذا التهافت الهستيري على مبنى الإذاعة لتقديم الألحان والكلمات لمؤازرة الجنود في المعركة. وهو ما شكّل مفاجأة للإذاعة نفسها، خصوصاً أنه كان هناك قرار بوقف تسجيل الإنتاج الغنائي الوطني. حتى عندما بدأت المعركة، اختارت الإذاعة بداية بثّ أغانٍ وطنية عامة و"هادئة"، في محاولة لتفادي الاتهامات التي وجّهت لها عام 1967، بتضليل الرأي العام، والمساهمة في الهزيمة.
أغلب الأغاني البارزة صنعت في الأيام الأولى من الحرب لعل أشهرها "عاش اللي قال" التي قدمها عبد الحليم حافظ مع الشاعر محمد حمزة وبليغ حمدي. بداية رفض حمدي تلحين الأغنية، خصوصاً أن الكلام كان بداية "عاش السادات"، لكن الرواية المتناقلة تقول إن الملحن المصري طلب تغيير الكلام إلى "عاش اللي قال" وهو ما حصل. ولعل في ذلك ميزة من ميزات موسيقى تلك الحرب. إذ انتقل الغناء المصري في أقل من عقد من "عبد الناصر حبيبنا، قايم بينا يخاطبنا" و"ناصر يا حرية يا وطنية" إلى أغانٍ تقوم بشكل أساسي على صوت الجماعة، ممثلاً صوت الشعب، بعد سنوات طويلة من الغناء للملك ثم الزعيم، أي عبد الناصر. فبعيداً عن السياسة التي غرقت فيها أغنية "عاش اللي قال"، يبقى العنصر الأبرز فيها هو صوت الكورال المصاحب لعبد الحليم من أصوات نسائية ورجالية، ما جعل الإنتاج النهائي أقرب إلى احتفاء شعبي بـ"الرئيس صاحب قرار الحرب"، من دون تسميته.
ولعلّ صوت المجموعة هو أبرز ما ميّز مختلف أغاني تلك الحرب، فللمرة الأولى بدا التعامل مع "الشعب" كجزء من "الأسطورة والنصر" أهم من التعامل مع الزعيم. لذلك نجد أن أهم أغان صنعت عن حرب أكتوبر وأكثرها صدقاً هي تلك التي قُدِّمت بصوت أو بمشاركة مجموعة، فضاعت أسماء أفرادها وبقيت الأغاني توثق لتلك الأيام، حتى أن بعض العاملين في الإذاعة المصرية من عمال وإداريين شاركوا في تسجيل أولى أغاني الحرب وهي "بسم الله الله أكبر"، كما قال الإعلامي وجدي الحكيم مع صفاء أبو السعود في برنامج "ساعة صفا".
أهمية الشعب في تلك الحرب برزت كذلك في كلام الأغاني، لنأخذ على سبيل المثال "الباقي هو الشعب" التي كتبها سيد حجاب ولحنها كمال الطويل وغنتها عفاف راضي، إذ يقول كلامها "الباقي هو هو الشعب ولا فيه قوة ولا فيه صعب يصد زحف الشعب الشعب".
أغنية شهيرة أخرى احتفت بصوت المجموعة، كانت أغنية "رايحين شايلين في إيدنا سلاح... راجعين رافعين رايات النصر"، حيث أضاف صوت الكورال شعور الوحدة بين صفوف الشعب المصري والعربي. لكن رغم حماسة المجموعة تتسم تلك الأغنية بهدوء غريب.
يمكن تفسير هذا الهدوء بالتوقيت الذي كتبت فيه الأغنية أساساً قبل أن تصاحب حرب أكتوبر. فكلام الأغنية كتب في ذورة الشعور العربي بالهزيمة والانسحاب من ساحات الحرب، إذ إنها أذيعت للمرة الأولى في فيلم "العصفور" ليوسف شاهين. وقد كتبت الأغنية الشاعرة نبيلة قنديل ضمن سياق الفيلم، الذي يتحدث عن النكسة والهزيمة وحلم الانتصار، ولحنها زوجها الموسيقار علي إسماعيل، وسُجّلت عام 1972، أي قبل الحرب بعام. ومع قيام حرب أكتوبر، توجه يوسف شاهين إلى الإذاعة ومعه شريط عليه الأغنية طلب إذاعتها، فبدا أن العمل كتب في تلك الأيام، وليس قبل عام، وكأن نبيلة قنديل رأت بعين القديم العبور القادم، لتصبح بذلك واحدة من أشهر واجمل الأغاني عن حرب أكتوبر. وحتى اليوم لا تزال الاحتفالات التي تقام في مصر كل عام تستعيد الأغنية، كما تعيد القنوات والإذاعات بثها، بصفتها أغنية تلك الحرب، وذاك النصر.
وحتى الأغنية الأشهر للحرب، أي "حلوة بلادي السمرا" التي غنتها وردة وكتبها عبد الرحيم منصور ولحنها بليغ حمدي، كان للكورال دور مهم في أدائها. فكانت الفكرة قائمة في أغلب الأغاني على التعاون والاندماج بين الجميع في لحظة استثنائية وتاريخية جميلة وحقيقية وصادقة.
لنأخذ كذلك أغنية "دولا مين" لسعاد حسني التي كتبها أحمد فؤاد نجم ولحنها كمال الطويل، كان الكورال فيها من الأطفال. أغنية بسيطة تتحدث عن الجندي الذي شارك في الحرب، وقد أعاد تقديمها الشيخ إمام لكن بصيغة مختلفة وبتغيير بعض الكلمات، فبدت كأغنية ثانية لا تشبه تلك التي أدتها حسني.
وتظهر المجموعة أيضاً في أغنية من أجمل أغاني الحرب، رغم أنها كانت من فيلم عن حرب النكسة، وصنعت قبل الانتصار، لكنها كانت تنقل حالة الإصرار والقتال المستمر حتى السادس من أكتوبر، وهي أغنية "أبكي أنزف أموت وتعيشي يا ضحكة مصر" من فيلم "أغنية على الممر" ( 1972، سيناريو وحوار مصطفى محرم وإخراج علي عبد الخالق). كتب كلمات الأغنية عبد الرحمن الأبنودي، واختصر بكل بساطة المعادلة المصرية الصعبة، وهي الشهادة مقابل بقاء البلاد.
أغانٍ كثيرة قدمت بصوت المجموعة: "حقك معاك" من كلمات محمد كمال بدر وألحان عبد العظيم محمد، و"صدق وعده" من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان بليغ حمدي، و"يا مصر يا بلادي" مع الثنائي عبد الرحيم منصور وبليغ حمدي، و"بالأحضان يا سينا" كلمات محمد كمال بدر وألحان أحمد صدقي، و"صبرنا وعبرنا" كلمات كمال عمّار وألحان محمود الشريف غناء ثلاثي النغم مع المجموعة.
في الذكرى الخمسين، لا يبقى في الذاكرة الموسيقية سوى ذلك الصوت. صوت الكورال أو المجموعة، صوت الشعب فقط.