بعدما وظّفت روسيا في العام 2021 تصاعد دورها السياسي في ملفات عالمية عدة، وزيادة قوتها العسكرية، من أجل محاولة فرض معادلات جديدة في العلاقات الدولية تأخذ في الحسبان التغيّرات الحاصلة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، تجد نفسها في العام 2022 أمام ضغوط في ملفات عديدة إقليمية ودولية.
مكاسب وتحديات
وعملت موسكو في العام الماضي على القطع مع السياسات الغربية القائمة على التعامل معها على أنها الطرف الخاسر في الحرب الباردة، وبالتالي عدم مراعاة مصالحها ومخاوفها.
وحققت روسيا مكاسب سياسية ودبلوماسية عبر اتّباع سياسة مركّبة بحسابات دقيقة، جمعت بين الاستفادة من حال الإرباك الداخلي في الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية، ولاحقاً الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وتقوية التحالفات مع الصين والهند لبناء عالم متعدد الأقطاب.
اعتمدت روسيا أسلوب الضغط الأقصى في الملف الأوكراني
كما اعتمدت أسلوب الضغط الأقصى في الملف الأوكراني لإحداث اختراق في الحل يتناسب مع مصالحها، ويتعدى ذلك إلى دفع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى مباحثات تتضمن مراجعة شاملة للعلاقات مع روسيا منذ 1991.
وتأمل روسيا في أن تتكلل سياساتها بالتوصل إلى اتفاقات مكتوبة جديدة تنظم العلاقات التي هوت إلى أدنى مستوياتها بإقرار مختلف الأطراف.
وعلى الرغم من المكاسب، فإن موافقة الولايات المتحدة والأطلسي على بحث ورقة "الضمانات الأمنية" التي قدمتها روسيا، لا تعني إقراراً مباشراً بالدور الذي تأمل موسكو أن تلعبه عالمياً. كما أن انفتاح الغرب على الحوار ينطلق أولاً من هدف الوصول إلى حل وسط للوضع في أوكرانيا.
كذلك، فإن ملفات الصراعات المفتوحة في جنوب القوقاز، وأفغانستان، وسورية، تفرض ضغوطاً على صناع القرار في الكرملين في العام الحالي، إضافة إلى تنظيم العلاقة مع حلفاء متعبين مثل إيران، وتركيا، وبيلاروسيا، أو تحقيق التوازن بين حلفاء لروسيا لكنهم على عداوة فيما بينهم، مثل الصين والهند، إيران وإسرائيل، بلدان الخليج العربي وإيران، وغيرها.
ولا تقل التحديات الاقتصادية شأناً عن كل ما ذكر سابقاً. فعلى الرغم من المؤشرات الاقتصادية والمالية الجيدة في العام الماضي، فإن تراجع أسعار الطاقة وتعطيل تشغيل خط "نورد ستريم 2" لنقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا، والانزلاق إلى سباق تسلح جديد، وإمكانية فرض عقوبات قاسية على النظام المالي والمصرفي في روسيا، يمكن أن تنهك الاقتصاد الروسي، وبالتالي تحدّ من إنفاق الكرملين على مشاريعه الجيواستراتيجية.
علاقة روسيا مع الولايات المتحدة: انفراجات وتوترات
على الرغم من أن موسكو كانت تفضّل إعادة انتخاب دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية في أميركا، فقد استهل الرئيس جو بايدن ولايته بالموافقة على مقترح روسي سابق بتمديد معاهدة "ستارت 3" المتعلقة بالحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، لخمس سنوات من دون شروط، ما بعث إشارة إيجابية مهمة امتدحتها موسكو، لكنها وظفتها لاحقاً للحصول على تنازلات إضافية.
وفي إبريل/نيسان الماضي، بدا أن موسكو تريد اختبار صرامة إدارة بايدن، فحشدت أكثر من 40 ألف جندي على حدود أوكرانيا، وحينها لوّح البيت الأبيض بعقوبات قاسية في حال إقدام الجيش الروسي على غزو أوكرانيا، وسعى إلى بناء موقف مشترك مع حلفائه الأوروبيين، بعدما استطاع تخفيف حدة الخلافات على طرفي الأطلسي التي تسبب بها سلفه ترامب.
ملفات الصراعات المفتوحة في جنوب القوقاز، وأفغانستان، وسورية، تفرض ضغوطاً على صناع القرار في الكرملين
ومع تصاعد التوتر بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة في أوكرانيا وغيرها، بادر الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن إلى عقد قمة في يونيو/حزيران الماضي في جنيف، وقررا إدارة الأزمات المتفاقمة بين الطرفين عبر إطلاق حوار بشأن التوازن الاستراتيجي، والحدّ من التسلح.
كما توصلا إلى تفاهمات بشأن أوكرانيا وسورية، يتواصل بحثها عبر القنوات الدبلوماسية والعسكرية.
توتر علاقات روسيا مع أوروبا والأطلسي
وترافق تحسن العلاقات الروسية الأميركية مع توتر في العلاقات مع حلف الأطلسي والبلدان الأوروبية. وتسببت أزمة دبلوماسية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في قطع روسيا علاقاتها مع "الناتو" وإغلاق ممثلية الحلف في موسكو.
وركزت موسكو على الحوار مع البلدان الأوروبية منفردة من دون التنسيق مع الاتحاد الأوروبي كمؤسسة جامعة.
وفي الشهرين الأخيرين، أعادت روسيا زيادة الضغط من البوابة الأوكرانية وحشدت أكثر من 100 ألف جندي على الحدود، ونظمت مناورات في البحر الأسود وفي المناطق المحاذية للحدود الجنوبية الشرقية لأوكرانيا.
وتبين لاحقاً أن الهدف الروسي يتجاوز أوكرانيا، ويصل إلى إعادة تنظيم العلاقات الدولية، والإقرار بدور موسكو العالمي الجديد، وتراجع الناتو إلى الحدود التي كان عليها قبل 1997، وسحب أنواع الأسلحة التي نشرت في بلدان المعسكر الشرقي السابق، والتعهد بعدم ضم أوكرانيا أو أي من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق للحلف.
وصاغت روسيا شروطها في اتفاقيتين عرضتهما وزارة الخارجية الروسية وطرحت بدء مباحثات مع الولايات المتحدة بشأنهما. وعلى الرغم من الاعتراضات الأميركية والغربية على كثير من بنود الاتفاقيتين، فقد تم التوافق على بدء مباحثات روسية أميركية في 10 يناير/كانون الثاني الحالي، وروسية أطلسية في 12 منه.
ركزت موسكو على الحوار مع البلدان الأوروبية منفردة من دون التنسيق مع الاتحاد الأوروبي
خيارات صعبة أمام موسكو
من الواضح أن روسيا اقتنصت توقيتاً مناسباً لطرح مبادرتها وضمان موافقة الغرب على بدء التفاوض، خصوصاً بعد الانسحاب المتعجل من أفغانستان، وتركيز الولايات المتحدة على احتواء الصين، وبحث واشنطن عن خيارات أخرى للتعامل مع طهران في حال فشل المفاوضات النووية، وبالتالي عدم قدرتها على خوض أكثر من معركة في وقت واحد.
وفي المقابل، فإن المؤكد أن المباحثات لن تجلب حلولاً تلبي مطالب روسيا "التعجيزية" بالتراجع عن كل ما عمل عليه حلف الأطلسي في العقود الثلاثة الأخيرة.
وعلى الرغم من أن التلويح بالحرب على أوكرانيا كان ورقة روسيا الرابحة من أجل إجبار الغرب على بحث ضماناتها الأمنية، فإن موسكو أمام خيار صعب في حال طاولت المباحثات. فالمحافظة طويلاً على خيار الضغط وحشد القوات على الحدود مع أوكرانيا مرهقة اقتصادياً.
كما أن خيارات عملية عسكرية محدودة لدعم إقليمي دونتسيك ولوغانسك الانفصاليين، أو عملية أوسع في جنوب شرقي أوكرانيا تشمل حوض بحر آزوف وميناء مريوبل، أو عملية عسكرية شاملة بالتعاون مع بيلاروسيا، يمكن أن تحقق أهدافها العسكرية نظراً لفارق القوة النوعي والكمي للجيش الروسي، إلا أنها لن تكون سهلة كما كان عليه الحال في جورجيا عام 2008.
وفي حال شن عملية واسعة، فإنّ الجيش الروسي سيمنى بخسائر، وسيواجه مقاومة شعبية في كثير من المناطق، ويمكن أن يزيد من قوة القوميين المتطرفين في أوكرانيا ويتسبب في حرب استنزاف ضد روسيا.
كما أن التبعات الاقتصادية لهذه العملية ستكون خطيرة جداً على الاقتصاد الروسي خصوصاً إذا نفذ الغرب تهديداته، بعزل روسيا عن نظام التحويلات المصرفية "سويفت"، وفرض حظر على تحويل الروبل، ومنع شراء سندات الدين السيادي الروسي، وفرض عقوبات على المصارف التجارية.
موسكو أمام خيار صعب في حال طالت مباحثات "الضمانات الأمنية"
أزمات مفتوحة
وعلى الرغم من النشوة الروسية بانسحاب الأطلسي من أفغانستان، فإن عدم الاستقرار في "قلب آسيا" يفرض تحديات كبيرة، تبدأ من الأمن وإمكانية تسلل إرهابيين إلى بلدان آسيا الوسطى ولاحقاً روسيا، ولا تنتهي مع احتمال زيادة تهريب المخدرات.
وفي جنوب القوقاز، وعلى الرغم من نجاح روسيا نسبياً في رعاية توقيع اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، فإن الأوضاع لم تشهد استقراراً شاملاً، وشهد العام الماضي اشتباكات متقطعة يمكن أن تتكرر في شكل أخطر.
ويحتاج الاستقرار إلى بذل جهود دبلوماسية كبيرة للمحافظة على وجود القوات الروسية لحفظ السلام في تلك المنطقة، وكذلك تحقيق توازن صعب بين مصالح أرمينيا وأذربيجان، ومصالح بلدان الجوار؛ تركيا وإيران، خصوصاً أن علاقات الأخيرة توترت في العام الماضي مع أذربيجان ووصلت إلى حدّ التلويح بعملية عسكرية.
شركاء متعبون
بذلت روسيا طوال العام 2021 جهوداً كبيرة في إطار إحياء الاتفاق النووي الموقع مع إيران في 2015، والذي انسحب منه ترامب في 2018.
ويكمن التحدي بالنسبة لروسيا في التوصل إلى اتفاق يضمن مصالحها المنطلقة من حسابات دقيقة ومعقدة؛ فانهيار المفاوضات يمكن أن يتسبب في حرب لا تريدها موسكو وترى أنها تفتح على انهيار منظومة الأمن في القوقاز وبحر قزوين والشرق الأوسط، كما أنه في حال انتصار الولايات المتحدة مع إسرائيل في هذه الحرب، فإن روسيا ستفقد حليفاً مهماً.
وفي حال لم تستطع الولايات المتحدة إنهاء المشروع النووي الإيراني، فإن موسكو تخشى من إقدام إيران على تطوير برنامجها النووي وتتحول إلى دولة نووية على حدودها الجنوبية، وتفتح أمام سعي دول إقليمية أخرى لامتلاك السلاح النووي.
وفي المقابل، فإن تحقيق إيران جميع الشروط التي تطلبها في سياق العودة للاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها، سيؤدي إلى زيادة المعروض من النفط في السوق العالمية، ما يلحق الأذى بالاقتصاد الروسي. كما أنّ روسيا تخشى من أن انفتاح إيران على الأوروبيين سيضعف تأثيرها ونفوذها.
روسيا تخشى من أن انفتاح إيران على الأوروبيين سيضعف تأثيرها ونفوذها
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن الأحداث والحراك المعارض الذي تلى إعادة انتخاب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، دفعت الأخير إلى فلك موسكو مرة أخرى، وأدت إلى الدفع بمشروع دولة الاتحاد المعطلة منذ أكثر من 20 عاماً (وقعت روسيا وبيلاروسيا، في 2 إبريل/نيسان عام 1997، معاهدة إقامة اتحاد بين الدولتين، من أجل تعميق التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بينهما، لكنها عُلقت عام 1999)، فإن تعنت لوكاشينكو وتمسكه بالسلطة، وعدم تقديم تنازلات للمعارضة، يبقي عوامل الاحتقان الداخلي مفتوحة على حراك شعبي أقوى.
كما أن العقوبات الغربية التي ستشدد في العام الحالي، تفرض على روسيا تكاليف اقتصادية كبيرة لاستمرار حكم لوكاشينكو.
وفي سورية، يبدو أن الأوضاع تتجه لفرض الرؤية الروسية، لكن العوامل الاقتصادية، وعدم إقبال الغرب وبلدان عربية مؤثرة على التجاوب مع مطالب موسكو في تحسين البنية التحتية في هذه الدولة، وضخ استثمارات لتحسين الاقتصاد فيها، والانفتاح على النظام، يهدد المخطط الروسي.
كما أن زيادة الاستهداف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية في سورية، ينذر بصراع بين الطرفين على الأراضي السورية، مما يعطل الاستراتيجية الروسية.