حول مسار بديل فلسطيني

28 ابريل 2024
من دعم شعوب العالم إنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق الفلسطينية، تورنتو (مريم مجد/Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الحرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة تدخل شهرها السابع، مع التركيز على صمود المقاومة والحاجة لإرادة سياسية لتقدم القضية الفلسطينية، وتحديات توحيد الفصائل ودور السلطة الوطنية.
- تحول عالمي نحو دعم القضية الفلسطينية بفضل "طوفان الأقصى" والحرب، مما يشكل فرصة لبناء جسم سياسي فلسطيني فاعل يعيد تقييم السياسات الدولية تجاه القضية.
- ضرورة تشكيل جبهة وطنية فلسطينية جديدة تجمع كافة أطياف الشعب وتستند إلى الديمقراطية والعلمانية، مع التأكيد على حق العودة ورفض حل الدولتين، وأهمية الدعم الجماهيري العالمي.

دخلت حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة شهرها السابع، وإلى الآن لم ترقَ القوى السياسية الفلسطينية إلى حجم تضحيات الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى صمود المقاومة الفلسطينية المفاجئ للعالم كلّه. إذ تمر القضية الفلسطينية بإحدى مراحلها المفصلية المهمة، التي يمكن البناء عليها إيجابيًا في حال وجود إرادة سياسية حقيقية، راغبة وقادرة على استثمار هذه التضحيات، لنقل القضية خطواتٍ إلى الأمام، أما في حال غياب هذه القيادة، وهو واقع الحال اليوم، فإن القضية معرضةٌ لخطرٍ كبيرٍ، قد يصل بها إلى حدّ التصفية.

إن خيار الشعب الفلسطيني الأمثل هو إعادة إحياء منظّمة التحرير الفلسطينية على أساس ميثاق عام 1968، عبر ضم جميع أطياف الشعب الفلسطيني من دون تهميشٍ أو إقصاءٍ لأحد. لكن هذا الخيار يصطدم بوجود السلطة الوطنية الفلسطينية، التي كلما مرت الأيّام يزداد وضوح دورها الوظيفي كإحدى أهمّ أدوات الاحتلال في قمع الشعب الفلسطيني، وإحباط أيّ محاولةٍ للنهوض والتحرر. كما يبدو أنّ فصائل منظّمة التحرير الفلسطينية لا ترغب في الدخول في صدامٍ مع السلطة يسحب بساط الشرعية الشعبية والدولية من تحت أقدامها، خشية أن تسحب الأخيرة خيوط التمويل من بين يدي الفصائل. لذا يبدو أنّ الحلّ الأمثل غير قابلٍ للتنفيذ في المديين القريب والبعيد. أما أسوأ الحلول، فهو الانتظار مكتوفي أو مبسوطي الأيدي ندعو بالنفاذ للحلّ الأمثل من دون البحث عن أيّة حلولٍ بديلةٍ ممكنةٍ.

يتطلب البناء على الحراك العالمي، والتضحيات الكثيرة من القوى الفلسطينية البديلة، مجموعاتٍ أو أفرادٍ، الائتلاف معًا لإنشاء جسمٍ سياسيٍ فلسطينيٍ فاعلٍ

قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تسلل اليأس إلى قلوب أكثر المؤمنين بالقضية الفلسطينية، فلم تكتفِ دولٌ عربيةٌ عدّة بتطبيع علاقاتها مع الاحتلال، بل شنت حملة تشويهٍ ضدّ الشعب الفلسطيني إضافةً إلى حملات قمعٍ ضدّ الفلسطينيين ومؤيديهم، أسفرت عن ترحيل بعضهم واعتقال آخرين.

كما وصلت كلّ محاولات/ مبادرات إنهاء الانقسام الفلسطيني، المستمر منذ معاهدة أوسلو، والذي ترسخ بعد تفرد حركة حماس بقطاع غزّة في صيف عام 2007، إلى طريقٍ مسدودٍ. وتجدر الإشارة أيضًا إلى دخول فصائل اليسار الفلسطيني بحالة سباتٍ ممتدٍ منذ أكثر من ثلاثة عقودٍ.
تحظى منظّمة التحرير الفلسطينية بنمطٍ من أنماط الشرعية الدولية، التي لم تأتِ بالكثير سواء للمنظّمة نفسها، أو للشعب الفلسطيني، إذ بقيت كلّ القرارات التي صبت في مصلحة القضية أرقامًا في أرشيف الأمم المتّحدة، نتيجة تجاهلها من قبل الاحتلال وداعميه من الأوروبيين والأمريكيين. كما لا تسمي هذه الشرعية الأسماء بمسمياتها، وفي أحسن الأحوال تتجاهل قرارتها الجديدة نظيرتها القديمة.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

اليوم وبغض النظر عن الموقف من "طوفان الأقصى"، نلحظ أنها قد أنتجت واقعًا عالميًا جديدًا يمكن البناء عليه، رغم أنّ منفذها تنظيمٌ إسلاميٌ يمينيٌ، إلّا أنّ حرب الإبادة الجماعية دفعت الملايين في العالم إلى الشوارع، وفي مقدمتهم قوى اليسار التقليدي منها والجديد. إذ تشكلت بعد أكتوبر مجموعاتٌ عديدةٌ ذات طابعٍ يساريٍ، وتحديدًا في دول المركز (أوروبا وأمريكا)، كسرت هذه المجموعات حاجز المحرمات ليس بانتقاد إسرائيل فحسب، إنّما بالضغط على حكوماتها، مهددةً بإسقاطها في الجولات الانتخابية المقبلة، وهذا ما تتخوف منه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وجد نفسه بين سندان اللوبي الصهيوني في الولايات المتّحدة، ومطرقة الشباب الغاضب الرافض لدعم أميركيا إسرائيل، المسؤولة عن معاناة الشعب الفلسطيني، الأمر الذي دفع الإدارة الأميركية إلى تلطيف لهجتها تجاه الفلسطينيين، وتوجيه انتقاداتٍ إلى الحكومة الإسرائيلية، مع الحفاظ على دعمها كاملاً، مثل هذا التحول بالخطاب غير المقترن بالأفعال لا يقنع الكثيرين.

تحظى القضية الفلسطينية حالياً بالشرعية العالمية بدلاً من الشرعية الدولية، أي شرعية الشعوب حول العالم، بدلاً عن الشرعية الدولية التي تتحكم بها الولايات المتّحدة منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية. إذ أعادت التضحيات الضخام القضية الفلسطينية إلى العالمية، ووصل التأييد العالمي للقضية إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ منذ النكبة الفلسطينية، ما دفع العديد من الحكومات الديمقراطية الداعمة للاحتلال إلى إظهار سلوكٍ ديكتاتوريٍ فاشيٍ، من خلال قمع الأصوات الداعمة لفلسطين، وحملات التحريض والترهيب، والعنف المباشر، الذي يمنع الشعب من حقّه في حرية التعبير والتجمع، المذكورة في معظم دساتير العالم، وهو ما أدى بدوره إلى فض اعتصاماتٍ ومظاهراتٍ بالقوة، واعتقال العديد من الناشطين. كما أفرغت تهمة معاداة السامية مما تبقى من مضمونها، بعد الترامي بها يمينًا وشمالًا، إضافةً إلى اعتقال العديد من الناشطين اليهود المعارضين للصهيونية والداعمين للحق الفلسطيني والاعتداء عليهم.

على المجموعات الفلسطينية، والمجموعات الداعمة لفلسطين في دول المركز القيام بدورٍ أساسيٍ، فهي القادرة على الحفاظ على الشرعية الجماهيرية العالمية

يتطلب البناء على الحراك العالمي، والتضحيات الكثيرة من القوى الفلسطينية البديلة، مجموعاتٍ أو أفرادٍ، الائتلاف معًا لإنشاء جسمٍ سياسيٍ فلسطينيٍ فاعلٍ، يشكل بديلاً لمنظّمة التحرير، يمكن أن ينتج نتيجة التراكمات والمحاولات التي سبقت السابع من أكتوبر، أو كضروريةٍ عملية لتنسيق جهود العمل الراهن.

تاريخيًا؛ وفي إطار محاولات الفصائل الفلسطينية الكبيرة تجاوز الأزمة السياسية الفلسطينية، تشكلت "الجبهة الوطنية الفلسطينية" انطلاقًا من البيان الثلاثي المشترك (حماس، الجبهة الشعبية، والجهاد الإسلامي)، في 10 فبراير/شباط 2022، لكنها أجهضت قبل ولادتها الفعلية، كما دعمت سابقًا "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج".

كما نجد محاولاتٍ أخرى بعيدةً عن الفصائل الفلسطينية المهيمنة على المشهد، ومن دون دعمٍ معلن منها، كما في انعقاد "المؤتمر الشعبي الفلسطيني 14 مليونًا" في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، و"مؤتمر فلسطينيي أوروبا"، الذي كانت نسخته الأولى عام 2003.

لم تلبِّ كلّ هذه المحاولات المأمول منها، إذ لم تسع إلى إنشاء جسمٍ سياسيٍ فلسطينيٍ بديلٍ، كونها اكتفت بمطالبات إصلاح المنظّمة، من دون البحث الجدي عن إنتاج البديل، هربًا من تهمة شق الصف الفلسطيني، كأن منظّمة التحرير بوضعها الحالي تعبر عن الكلّ الفلسطيني وعن تطلعاته.

كما تجدر الإشارة إلى عام 1964، حين رُفضت منظّمة التحرير من قبل الفصائل المكونة لها اليوم، قبل سيطرتها عليها لاحقًا، متهمين إياها بأنّها ذات هيكلٍ فارغٍ تسيطر عليه دكتاتوريةٌ فرديةٌ، ويسود سلوكها استخفافٌ بالجماهير، ودجلٌ سياسيٌ، وهي أقلّ من التهم الموجهة لقيادة المنظّمة اليوم.

إن إنتاج بديلٍ عن المنظّمة المرتهنة للسلطة الوطنية الفلسطينية، المرتهنة بدورها والمرتبطة بالاحتلال، بات ضرورةً ملحةً لا يمكن تحقيقها إلّا من خلال إعادة تعريف المشروع الفلسطيني التحرري على اعتباره نقيضًا للمشروع الصهيوني الاستعماري، وهذا يتطلب رؤيةً واضحةً تشمل الكلّ الفلسطيني، كما يمكنه الاستفادة من كلّ الطاقات الفلسطينية، عبر ضمان حقوق والتزامات الجميع، فلا يجوز، بأيّ حالٍ من الأحوال، التنازل عن حقّ عودة اللاجئين، كما لا يصح القبول بحلّ الدولتين، كونه تخليًا عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام  1948، وعن حقّ كلّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، واعترافًا مباشرًا بالمشروع الصهيوني.

يبدو أنّ فصائل منظّمة التحرير الفلسطينية لا ترغب في الدخول في صدامٍ مع السلطة يسحب بساط الشرعية الشعبية والدولية من تحت أقدامها

كذلك، ومن أجل الاستفادة من كلّ الطاقات الفلسطينية المتاحة، يجب ألا يحمل المشروع التحرري أيديولوجيةً دينيةً، فحمله إحداها يعني بالضرورة تهميش غيرها، مع ضرورة الاعتراف بأنّ كلّ الأديان في فلسطين هي جزءٌ أصيلٌ من التراث والثقافة الفلسطينية، اليهودية إحداها، هذه الديانات التي يحاول المشروع الصهيوني سرقتها، كمحاولته سرقة الكثير من التراث والثقافة الفلسطينية.

يتمثّل الأساس الائتلافي في "دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة"، القادرة على استيعاب كلّ الفلسطينيين بمختلف أماكن وجودهم، إضافةً لكلّ المقيمين على أراضيها من الرافضين للمشروع الصهيوني والمناضلين ضدّه.  كما لا بدّ أن يتضمن التحرر السياسي تحررًا اقتصاديًا، يضمن توزيعًا عادلًا للثروة، كي لا تبق محتكرةً بيد المستوطنين.

كذلك يجب أن يبقى الباب مفتوحًا أمام كلّ الراغبين بالانضمام، من مختلف الفصائل داخل المنظمة وخارجها، بعد تخليها عما يشق الصف، فمن غير المقبول المطالبة بـ"أسلمة المجتمع والمؤسسات الثورية"، كما من المرفوض الدخول بمشاريع استسلامية نتائجها الكارثية مجربة.

على المجموعات الفلسطينية، والمجموعات الداعمة لفلسطين في دول المركز القيام بدورٍ أساسيٍ، فهي القادرة على الحفاظ على الشرعية الجماهيرية العالمية، وتكوين مجموعات ضغطٍ قادرةً على نقل الشرعية العالمية إلى شرعيةٍ دوليةٍ جديدةٍ، ولتحقيق ذلك لا يكفي أن تتقاطع القضية الفلسطينية مع كلّ القضايا الإنسانية فقط، بل لا بدّ من تعاهد القضايا بعضها مع بعض، فمثلما تحولت القضية الفلسطينية إلى بوصلةٍ لنضالات شعوب العالم، يجب أن تصبح قضايا المضطهدين في العالم بوصلةً للقضية الفلسطينية، فلا يجب بأيّ حالٍ من الأحوال التنازل عن حقوق المظلومين مقابل أيّ تحالفاتٍ، فهذا تنازلٌ عن الأخلاقيات، والفلسطينيون أكثر من يطالب الآخرين بالتمسك بالأخلاقيات.

المساهمون