أمام استفحال الأزمة السياسية وتصاعد وتيرة الاحتقان الاجتماعي في تونس، تعددت المبادرات الداعية للحلّ، إلا أن أهمها تبقى مبادرة "الاتحاد العام التونسي للشغل"، إذ إن أغلب المبادرات الأخرى جاءت من قبل أطراف سياسية، لا يزال معظمها فاعلاً في الساحة، ولا يمكن بالتالي أن تحظى بتأييد فرقاء آخرين. هذا بالإضافة إلى أن ثقل الاتحاد التاريخي، وعدم انخراطه في أجندات انتخابية، فضلاً عن تجربته في إدارة الحوار الوطني سنة 2013، تؤهله من جديد للعب هذا الدور. وتدعو مبادرة "اتحاد الشغل"، إلى أن تكون مؤسسة الرئاسة هي المظلّة الراعية للحوار، وتقوم على قراءة دقيقة للواقع الحالي، تعتبر أنه تمّ "استهلاك معان كثيرة، كالإصلاح ورفع استحقاقات الثورة ومحاربة الفقر والفساد والنهوض بالاقتصاد والتنمية الجهوية والتشغيل، بإفراغها من معانيها السامية، بشكل اهتزّت معه ثقة المواطن في الدولة ومؤسّساتها، التي باتت مستهدفة على نحو ممنهج، مع تراجع منسوب الثقة بين مختلف الأطراف". كما تلفت المبادرة إلى "الصعود اللافت للحركات الشعبوية العنيفة، وبروز النعرات الجهوية والفئوية، والتفكّك الواضح للنسيج الاجتماعي التونسي والتنافر العدائي داخل نخبه".
تقترح المبادرة إرساء هيئة حكماء للإشراف على حوار يفضي إلى توافقات
ويشير الاتحاد إلى "تنامي خطاب العنف والكراهية واستشراء الفساد وتغوّل اللوبيات وأصحاب النفوذ وتفشّي العنف والإرهاب، في مقابل ازدياد ضعف الدولة وعجزها، وتقهقر صورة تونس على الصعيد الدولي وضعف دورها الإقليمي، والارتباك الواضح في سياساتها الديبلوماسية وفقدان مصداقيتها لدى مختلف الشركاء الدوليين". ويرى أن ذلك "انعكس سلباً على مناخ الأعمال، من خلال التراجع الرهيب للاستثمار الداخلي والخارجي، علاوة على تواتر العديد من التصنيفات السيادية السلبية".
وتقترح المبادرة إرساء هيئة حكماء، تتولى الإشراف على حوار وطني يفضي إلى توافقات من أجل إنقاذ البلاد. وتتولّى الهيئة، التي لا يمكن لأعضائها بأيّ حال من الأحوال، تحمّل مسؤوليات سياسية أو الترشح للانتخابات المقبلة، إدارة الحوار وتقريب وجهات النظر والتحكيم بين كلّ الأطراف المعنيين بالحوار، وفق روزنامة معقولة ومحددة زمنياً. كما تعمل الهيئة على تلخيص كافّة التصورات والمقترحات العملية القابلة للتطبيق، والصادرة عن مختلف الأطراف المعنية في كلّ المجالات، في شكل تأليفي يحمل رؤية واضحة وأهدافاً دقيقة ومحدّدة في الزمن.
وتتضمن مبادرة الاتحاد، تقييم قانونيْ الأحزاب والجمعيات، في اتجاه مراجعتهما لسدّ الثغرات وتحسين مراقبة مصادر التمويل ومدى انسجام أهدافها وممارساتها مع أحكام الدستور. كما تتضمن تقييم القانون الانتخابي وتعديله، وتحييد المرفق القضائي وإصلاحه دفاعاً عن استقلاليته وتحقيقاً للعدل، وفي الوقت ذاته استكمال إحداث المحكمة الدستورية. ويشمل التقييم أداء الهيئات الدستورية واستكمال تركيزها وضمان كلّ شروط الحياد فيها، وعدم السقوط في تداخل الأدوار والصلاحيات مع مؤسّسات الدولة الأخرى. كما تتضمن تقييم تجربة الحكم المحلّي ومراجعة قانون الجماعات المحلّية، بما يخلق التوازن بين عقلنة السلطة المحلّية واحترام الدستور ووحدة الدولة.
أمّا في ما يتعلق بالنظام السياسي، وعلى الرغم من وجوب تقييمه وتوفر رغبة طيف واسع من المجتمع في مراجعته، فمن الضروري الانطلاق في حوار مجتمعي حوله، يتواصل خارج روزنامة الحوار، ولا يتقيّد بسقفه الزمني ويمكن أن تكون مخرجاته لاحقة، تؤدّي إلى التفكير في تعديل النظام السياسي أو تغييره، بحسب المبادرة، التي تتضمن أيضاً جانباً اقتصادياً واجتماعياً.
وأوضح الأمين العام المساعد لـ"اتحاد الشغل"، محمد علي البوغديري، أن الاتحاد قدّم مبادرة الحوار لرئيس الجمهورية قيس سعيّد، باعتباره الطرف الأكثر قدرة على جمع المتحاورين حول طاولة واحدة، على أمل إيجاد حلول للوضع الاجتماعي والاقتصادي المتفجر، مؤكداً إصرار الاتحاد على مواصلة دفع هذه المبادرة على الرغم من العثرات. ولفت البوغديري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن رئيس الجمهورية يبدي اعتراضاً على التفاوض مع بعض الأطراف، غير أن الاتحاد يحاول إيجاد مخارج، من أجل تسهيل مهمة جمع المكونات السياسية والحزبية والمنظمات المدنية، في حوار جاد ينهي أزمة البلاد. وأكد البوغديري إجماع العديد من الشخصيات السياسية الوازنة في تونس، على أهمية مبادرة الحوار التي يطرحها "اتحاد الشغل"، مشيراً إلى أن الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، يواصل لقاءاته مع شخصيات وأطراف سياسية عديدة، من أجل تقريب وجهات النظر. وحول إمكانية تحميل رئيس الجمهورية فشل مبادرة الحوار هذه بسبب إصراره على "إقصاء" بعض الأطراف، أكد البوغديري أن الاتحاد يرفض التسرّع في الأحكام، لكنّه يصرّ على الإسراع في إيجاد حلّ ينهي مسار التعثر الذي دخلت فيه تونس، مرجّحاً أن تدفع الضغوط الاجتماعية وحراك الشارع الجميع إلى القبول بالجلوس إلى طاولة حوار واحدة دون إقصاء، وفق قوله.
وتبرز أولى الصعوبات من عنوان المبادرة نفسها، التي رهنها الاتحاد برئاسة الجمهورية، إلا أن الرئيس قيس سعيّد، ذكّر مرة أخرى خلال استقباله للطبوبي منذ أيام، بأن الحوار لا يمكن أن يكون على شكل الحوار السابق، ولا يمكن أن يكون هدفاً في حدّ ذاته، بل يجب توفير كل الأسباب والشروط لنجاحه. كما جدّد سعيّد تأكيده على أنه لا حوار مع الفاسدين، وأن من هم "مطالبون للعدالة، مكانهم قصور العدالة". وأشار سعيّد إلى "وجود العديد من الخونة والعملاء الذين باعوا ضمائرهم، والعملة التي تأتي خلسة، نعلم مأتاها، ومن يحاول ضرب الدولة من الداخل".
يرجح الاتحاد أن تدفع الضغوط الاجتماعية وحراك الشارع الجميع إلى القبول بالحوار دون إقصاء
ويرفض سعيّد أن يتحاور مع حزب "قلب تونس" ومع "ائتلاف الكرامة" و"الحزب الدستوري الحر". وفي الحقيقة، فإن الرئيس التونسي يرفض المنظومة الحزبية كلّها، ويخشى استدراجه إلى اللعبة السياسية الحزبية. في المقابل، فإن حركة "النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" (الجبهة الداعمة للحكومة)، ترى في هذا الحوار خلطاً للأوراق من جديد، وتخشى من ترتيبات تفضي إلى إعادة تشكيل المشهد وفرض شروط جديدة، بينما ترى أن وجودها شرعي دستورياً وبإمكانها تحديد مستقبل الخارطة بشكل قانوني لا لَبْس فيه بصفتها الأغلبية البرلمانية. ولذلك دعت هذه القوى إلى حوار اقتصادي واجتماعي، وإلى أن يكون البرلمان أو الحكومة هو الراعي للحوار، لتفادي الإقصاء الذي يصر عليه الرئيس.
وتراقب الأغلبية البرلمانية تطور الأحداث بصمت، وتعول على مزيد من الوقت، تتراجع فيه الاحتجاجات تدريجياً، وتسقط فيه مبادرة الاتحاد، إلا أن المناخ الحالي لن يتيح لها الهدوء المنتظر لإطلاق إصلاحات كما كانت أعلنت، ولن تتركها المعارضة الشرسة تلتقط أنفاسها، وهي استراتيجية واضحة دعمتها الاحتجاجات الأخيرة التي زادت من الضغط على الحكومة ورفعت في دعوات إسقاطها وحلّ البرلمان.
لكن مبادرة الاتحاد لا تصطدم فقط بصمت الأغلبية البرلمانية ورفض الرئيس، وإنما تلقى معارضة أيضاً من "الدستوري الحرّ" الذي يرفض التحاور مع "الإخوان"، ومن اليسار الذي عبّر عن موقفه المتحدث الرسمي باسم حزب "العمال"، حمّة الهمامي. وأكد الهمامي أن حزبه على خلاف مع "الاتحاد العام التونسي للشغل" في ما يتعلق بمبادرته لتنظيم حوار وطني. وأوضح الهمامي، في مداخلة تلفزيونية، أن هذا الخلاف يتمثل في كون هذه المبادرة مرتبطة بالمنظومة الحالية التي يرفضها "العمال"، قائلاً "لن نجلس على طاولة واحدة مع الأحزاب الممثلة في البرلمان، لأنه سيكون وسيلة لإنقاذها". وأكد الهمامي "العمل على حلّ البرلمان وإسقاط المنظومة الحالية، ووظيفتنا تحريك الشارع، فالشارع أيضاً هو مظهر من مظاهر الديمقراطية"، بحسب تعبيره. وأضاف "ضبطنا برنامجاً وخارطة طريق لتنظيم الشارع، بهدف الدفاع عن البلاد".