لا تهدأ الحركة في بيت فتحية العارضة (أم محمد)، في بلدة عرابة جنوب مدينة جنين شماليّ الضفة الغربية المحتلة، فوفود المهنئين من الأقارب والصحافيين لا تكاد تعطيها مهلة للتحدث إلى من حولها، وهي التي تقابل كل من يأتي إليها بابتسامة غابت عنها لأكثر من ربع قرن. فمنذ تمكن نجلها الثاني الأسير محمود العارضة برفقة خمسة من رفاقه من انتزاع حريتهم بالفرار من سجن جلبوع الإسرائيلي بشمال الأراضي المحتلة فجر الاثنين، وهي تعيش حالة من الفرحة غير المسبوقة، على الرغم من أنها تشعر بخوف شديد عليه. وتمكن محمود من الفرار من السجن إلى جانب كل من زكريا الزبيدي، ومحمد عارضة، ويعقوب قادري، وأيهم كممجي، ومناضل انفيعات، وجميعهم من محافظة جنين.
تقول أم محمد، لـ"العربي الجديد": "طول عمره محمود رافع راسي. أنا فخورة بابني وبالذي فعله، أنا أعرفه جيداً. ابني قوي وصبور، وفي كل مرة كنت أزوره فيها كنت أشاهده بأبهى حلة. صحيح شعره شاب، لكن روحه شباب. وكان دائماً متفائل ويعطيني دفعة معنوية بأن الفرج قريب". وبدعاء الأم النابع من القلب وبكلمات عفوية، تكرر: "الله يحميه ويبعد عنه العيون"، مضيفةً: "الناس اليوم تناديه بالبطل. لا أحد يناديه باسمه الأول أو أنهم يجمعون الاسم والصفة معاً: البطل محمود... هو طول عمره بطل".
فرحة العائلات بالنصر ممزوجة بالقلق والترقب
لكن الأم التي افتقدت ضمّ نجلها منذ اعتقاله عام 1996، تعبّر عن خوفها أيضاً على مصيره، وتقول: "منذ لحظة هروبه من السجن، وأنا أدعو له بألا يصيبه مكروه. العملية التي نفذها أذهلت الجميع، كانت غير متوقعة، لكنها سببت ضربة قوية للاحتلال، الذي يبحث اليوم عنه في كل مكان، ويريد الانتقام". وتضيف الأم: "لا شك في أنني خائفة عليه. هو يتعامل مع العدو. والجيش اليوم دخل إلى بيتنا واعتقل شداد ورداد، يريدون أي معلومة عن محمود. نحن لا نعرف عنه شيئاً، لكننا مؤمنون بأن الله سيحميه ويحمي إخوانه". وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اقتحمت منزل عائلة محمود واعتقلت شقيقيه شداد الذي سبق أن أمضى 7 سنوات في سجون الاحتلال، ورداد الذي اعتُقل لعشرين عاماً كذلك، وأُفرج عنه قبل سنوات قليلة.
ويقول شقيق محمود الكبير، ويدعى محمد، لـ"العربي الجديد": "على الرغم من كل منغصات الاحتلال واعتقال شقيقيّ، وعلى الرغم من تهديدات ضباط المخابرات الإسرائيلية لنا، لعدم إبداء أي مظهر من مظاهر الانتصار، ورفض استقبال المهنئين والصحافيين، إلا أننا نعيش نشوة النصر، لكنها بكل صراحة ممزوجة بالخوف والترقب". ويتابع: "ننتظر كغيرنا أي معلومة عن مصيره هو ومن معه. الاحتلال يتلاعب بأعصاب الجميع. يبث معلومات مضللة، ويبالغ في إجراءاته لتخويفنا. لقد طلبوا مني عدم استقبال أو إجراء أي اتصالات، وحتى وقف التراسل عبر تطبيق واتساب وموقع فيسبوك"، مشيراً إلى أن "الاحتلال يسعى للتضييق على الناس وإرهابهم حتى لا يحتضنوا الأسرى ويحموهم".
أما عبد الرحمن الزبيدي، شقيق الأسير زكريا الزبيدي، فيقول أيضاً إنه "يعيش وعائلته مشاعر متناقضة ما بين الفرح والفخر بما صنعه زكريا، والخوف والترقب على مصيره". ويضيف في حديث مع "العربي الجديد": "فعلاً هي مشاعر مرتبكة ومتناقضة. زكريا أخي إنسان حر ولا يقبل الذل. يهوى الحرية ويرفض القيد. لقد عشت معه تجربة الاعتقال لدى الاحتلال الإسرائيلي فترة قصيرة عام 1995. كان صغيراً في السن، لكنه كان رجلاً عنيداً وصلباً". ويتابع عبد الرحمن: "أخي يملك قدرة كبيرة على الصمود والمواجهة. منذ عام 2002 حتى 2009 تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونجا منها. حاولوا اعتقاله عشرات المرات، ونصبوا له الكمائن ولم ينالوا منه. وحتى بعد أن حاز (عفواً)، وعاد لممارسة حياته واندمج في العمل السياسي من خلال عضويته في المجلس الثوري لحركة فتح، إلا أنه بقي مصراً على سلوك درب المقاومة، ليعمل الاحتلال على اعتقاله قبل نحو عامين". وعن تلقيهم نبأ تمكن زكريا من الهروب من سجن جلبوع، يقول عبد الرحمن: "كان الخبر لا شك مفاجئاً، لكنه كان مفرحاً جداً. لم استغرب من زكريا ذلك، فهو كما قلت عنيد وصبور، لا أخاف عليه كثيراً. له حظ في النجاة دوماً". ويشير عبد الرحمن إلى رسالة ماجستير كان زكريا يعد لها قبل اعتقاله، وكانت بعنوان "الصياد والتنين... المطاردة في التجربة الفلسطينية"، ويقول: "صحيح لم يستكمل دراسته ولم يناقش الرسالة ولم ينل الشهادة، لكنها تعبّر عن شخصية أخي المثابرة والمقاومة".
هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها الأسير يعقوب قادري (49 عاماً) الهرب من سجون الاحتلال، وهو من قرية بير الباشا جنوب جنين، بل هي الثانية. ففي عام 2014، حاول الهرب بالطريقة نفسها من سجن شطة، وهو أحد امتدادات سجن جلبوع، وعاقبته سلطات الاحتلال بحرمان عائلته زيارته لمدة عام ونصف عام. يقول أيوب قادري، وهو أحد أشقاء يعقوب الخمسة، بالإضافة إلى أربع أخوات، لـ"العربي الجديد": "نتمنى للأسرى الذين تمكنوا من الهرب من سجن جلبوع السلامة، وربنا بإذنه سيسلمهم"، ويتساءل: "ألا يكفي يعقوب سجناً؟ فهو معتقل منذ 19 عاماً، فضلاً عن أنه مصاب بالديسك والضغط أيضاً، ومحكوم بالسجن مدى الحياة".
الفرحة لدى الأهالي لا يقبل الاحتلال بأن تدوم
قلب والدة يعقوب، عُطفة قادري (85 عاماً)، "موجوع على ابنها"، حتى بعد تحرره من سجن جلبوع، فهي لا تتناول الطعام كما العادة، وكذلك حال والده محمود قادري (93 عاماً)، بحسب ما يوضح أيوب، مضيفاً: "كان الله في عونهما. وضعهما سيّئ". ويشير إلى أنه "عرفنا بالخبر من العمال الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل المحتل، فقد وزع الاحتلال صورته مع صور زملائه الخمسة على الحواجز. لم نصدق الخبر، إذ لا تدخل قصة هروبهم بهذه الطريقة في عقل أي إنسان"، يقول ذلك أيوب بضحكة خفيفة ممزوجة بحزن، إذ إن شقيقه تحرر، لكن لم يعد إلى أحضانهم.
ولم يتعرض أيٌّ من أفراد عائلة الأسير يعقوب قادري إلى الآن للاعتقال أو الاستدعاء، لكن عائلته تؤكد لـ"العربي الجديد"، أن ذلك "ليس أمراً مستبعداً، وخصوصاً أنه يجري التعامل مع احتلال قد يفعل أي شيء وفي أي وقت".
الألم نفسه يعتصر قلب فؤاد كممجي، والد الأسير أيهم كممجي (36 عاماً)، من قرية كفردان، غرب جنين. فقد تحرر أيهم، لكن ليس إلى حضن والده وبيته. وما يزيد من ألم الرجل المُسن أن شقيقاً آخر لأيهم، وهو عهد كممجي (27 عاماً)، معتقل أيضاً منذ قرابة أربع سنوات. ويقول فؤاد لـ"العربي الجديد"، وهو لديه أربعة أبناء آخرين غير أيهم وعهد: "في كل الأحوال أنا بهذه الطريقة، محروم رؤية أيهم، سواء أكان أسيراً أم مُحرراً. كنت آمل أن يتحرر بطريقة أستطيع فيها أن أسعد بلقائه وأن يعيش حياته بين إخوته، فهو معتقل منذ عام 2006 ومحكوم بالسجن مدى الحياة، وتوفيت والدته وهو معتقل، لكنني على الرغم من ذلك مؤمن بربي، والحمد لله على الرغم من أن مسألة هروبه ليست بسيطة؛ وفيها حياة وربما موت".
تهديدات لعائلات الأسرى الستة، بأنه في حال عدم تسليم الأسرى الفارين أنفسهم، فستجري تصفيتهم
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد استدعت والد الأسير أيهم كممجي وشقيقه مجد في أول أيام الفرار أو تنفيذ عملية "نفق الحرية"، كما بات يطلق عليها، وذلك إلى معسكر سالم، حيث استُجوِبا لمدة ساعتين. ويوضح الوالد فؤاد كممجي ما جرى قائلاً: "حققوا معنا في احتمال معرفتنا السابقة بعملية هروب أيهم، والجهات التي يحتمل تواصله معها، وممّن يمكن أن يتلقى مساعدة، وماذا دار بيننا وبينه خلال الزيارة الأخيرة. وتلقيت خبراً (أمس) الأربعاء من الصليب الأحمر يفيد بتوقف إعطاء تصريح زيارة لابني عماد، إذ إنني كنت أُمنَح وعماد تصريحاً لزيارة أخويه عهد وأيهم في السجون".
من جهتها، عبّرت والدة الأسير مناضل انفيعات (26 عاماً) من بلدة يعبد جنوب غربيّ جنين، عبر مقطع متداول على وسائل التواصل الاجتماعي عن فرحها بنجاح ابنها بانتزاع حريته من ضمن الأسرى الستة، قائلة: "الحمد لله أنا برفع راسي فيه، ربنا معو مناضل وبفتخر فيه. مناضل رجل على قد حاله ويخاف الله ومحبوب بين الناس، وأنا مشتاقة جداً له. لم أزره ولم أسمع صوته منذ فترة طويلة". ومناضل انفيعات كان معتقلاً منذ قرابة عام ونصف عام، وقد قضى في سجون الاحتلال خمس سنوات متفرقة، وكان من المفترض أن يُحاكَم هذا الشهر.
لكن هذه الفرحة لدى الأهالي لا يقبل الاحتلال بأن تدوم، فقد صادرت قوات الاحتلال جميع هواتف عائلة انفيعات مساء أول من أمس الثلاثاء، في إطار حملة كثيفة شنتها، مستهدفة قرى وعائلات الأسرى الستة مساء الثلاثاء وفجر أمس الأربعاء، وهناك تهديدات حقيقية لعائلات الأسرى الستة، بأنه في حال عدم تسليم الأسرى الفارين أنفسهم، فستجري تصفيتهم، بحسب ما تؤكد أماني سراحنة، مسؤولة دائرة الإعلام في نادي الأسير الفلسطيني لـ"العربي الجديد". وتقول سراحنة: "شنت قوات الاحتلال مساء الثلاثاء وفجر الأربعاء حملة مكثفة على بعض عائلات الأسرى الستة، ومنهم عائلة الأسير مناضل انفعيات، إذ اعتقلت والده يعقوب وأفرجت عنه بعد ساعات، وصادرت كل هواتف العائلة، وكاميرات بعض المنازل، وثمة تهديدات جدية للعائلات بتصفية أبنائها الستة بحال عدم تسليم أنفسهم".