حرب أوكرانيا: تغيّر الخطط الروسية وتحالف الجنرالات والمرتزقة

15 يناير 2023
من القصف الأوكراني لبيلغورود الروسية، نوفمبر الماضي (فلاديمير ألكساندروف/الأناضول)
+ الخط -

تزامناً مع بروز تباين كبير في تصريحات قيادات مرتزقة "فاغنر" ووزارة الدفاع الروسية والكرملين حول المعارك في مدينتي باخموت وسوليدار في مقاطعة دونيتسك، شرقي أوكرانيا، عين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو رئيس الأركان العامة للجيش فاليري غيراسيموف قائداً لمجموعة القوات المشتركة في أوكرانيا، بدلاً من القائد السابق للعمليات، قائد القوات الجوية الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي أصبح أحد نواب غيراسيموف، مع القائد العام للقوات البرية الجنرال أوليغ ساليكوف ونائب رئيس الأركان العامة الجنرال أليكسي كيم.

وعزت وزارة الدفاع الروسية التغييرات إلى "رفع مستوى قيادة العملية الخاصة (المصطلح الروسي للحرب على أوكرانيا)"، موضحة أن التغيرات مرتبطة "بتوسيع نطاق المهام التي يجرى حلها، والحاجة إلى تنظيم تفاعل أوثق بين مختلف القوات".

وجاء التغيير الحالي في قيادة الحرب ضد أوكرانيا بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من تعيين سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا بديلاً لسلفه الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وشهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة تغييراً كبيراً في تكتيكات الجيش الروسي، إذ بدأ في شن ضربات واسعة النطاق على البنى التحتية في أوكرانيا بصواريخ كروز ومسيّرات إيرانية الصنع. وتكررت الضربات بشكل دوري منذ ذلك الحين، وتسببت في تدمير أكثر من نصف محطات الطاقة في أوكرانيا وإغراق مدنها ومناطقها بالظلام الدامس لساعات طويلة.

وعلى الرغم من ضبابية الأهداف الروسية لحربها على أوكرانيا، وتغيّرها المتواصل منذ خطاب الرئيس فلاديمير بوتين صباح 24 فبراير/ شباط الماضي، لإعلان الغزو، يواصل المسؤولون الروس التأكيد على أن "العملية العسكرية تسير وفق الخطة" التي لم يكشف عنها حتى الآن، ويصعب تحديدها بدقة مع تبديل الجيش الروسي تكتيكاته العسكرية أكثر من مرة.

الترويع والضربة الخاطفة

بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا بتوجيه ضربات شاملة لمنظومة الدفاع الجوي والاتصالات في جميع أنحاء أوكرانيا، في محاولات هدفت إلى الترويع وشلّ قدرة الجيش الأوكراني على تنسيق تحركاته عبر قطع الاتصالات. وتزامنت الضربات مع تقدم للقوات من جميع المحاور، وكان لافتاً إطلاق هجوم من بيلاروسيا باتجاه مدن شمال شرقي أوكرانيا.

وفي الأيام الأولى للغزو، نفذت القوات الخاصة الروسية والقوات الشيشانية إنزالات على المطارات قرب العاصمة كييف، وترددت أنباء، حينها، عن وجود وحدات خاصة لاغتيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أو إجباره على مغادرة كييف، والسيطرة على الحكم وتعيين حكومة موالية لروسيا.

وذلك في تكرار لما حدث في أفغانستان في ديسمبر/ كانون الأول 1979 حين نفذت قوات "ألفا" السوفييتية "عملية العاصفة 333"، التي أسفرت عن مقتل الرئيس الأفغاني حينها حفيظ الله أمين. وشكّلت العملية فعلياً المرحلة الأولى من الحرب السوفييتية على أفغانستان، التي استمرت 10 سنوات، بين عامي 1979 و1989.


فشلت تكتيكات حصار المدن والتقدم بسبب المقاومة الأوكرانية

ومع تماسك القيادة الأوكرانية وامتصاص الضربة الأولى وإصرار زيلينسكي على البقاء في كييف، فشلت خطة السيطرة على العاصمة الأوكرانية بضربة خاطفة، لكن القوات الروسية واصلت زحفها نحوها من جهة بيلاروسيا.

وفي الوقت ذاته، شنّت روسيا هجوماً في الجنوب وسيطرت على جزيرة زميينّي (الثعبان) في البحر الأسود، الواقعة قبالة أوديسا. كما بدأت هجوماً على ماريوبول، على ساحل بحر آزوف، المتفرع من البحر الأسود، وتقدمت من دون قتال في خيرسون، لكنها واجهت تظاهرات عارمة هناك.

وفي دونيتسك ولوغانسك، كان التعثر الروسي واضحاً بسبب الخطوط الدفاعية المتينة التي بناها الجيش الأوكراني منذ عام 2014، تاريخ اندلاع القتال مع الانفصاليين الأوكرانيين الموالين لموسكو.

ومع جبهات قتال في شرق وشمال وجنوب أوكرانيا وخطوط إمداد طويلة، وبروز مشكلات لوجستية في الاتصالات وإمدادات الذخائر والمؤن، وكذلك فشل تكتيكات حصار المدن والتقدم بسبب بؤر المقاومة من جهة وعدم وجود أعداد كافية من الجنود من جهة أخرى، اضطر الجيش الروسي في نهاية مارس/ آذار إلى الانسحاب من المناطق المحيطة بكييف وشمال شرقي أوكرانيا في "بادرة حسن نية"، بحسب الكرملين، لفتح المجال أمام التسوية السياسية. ومع فشل السيطرة على كييف، عاودت روسيا التركيز على مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك وجنوب أوكرانيا.

الأرض المحروقة والمقاتلون الشيشان

ومع إعادة تمركز القوات الروسية في جنوب شرق أوكرانيا، ازداد الاعتماد على القصف الكثيف بالمدفعية والصواريخ. وفي ظل النقص في الجنود، ازداد الاعتماد على المقاتلين الشيشان من الوحدات الخاصة "أحمد سيلا"، والمتطوعين. وفي مايو/ أيار، استطاعت روسيا، بعد أسابيع من القصف، السيطرة على ماريوبول وتمشيطها على يد القوات الشيشانية.

وانتقل التركيز الروسي إلى السيطرة على كامل مقاطعة لوغانسك، وفيها سجلت معارك طاحنة في ليسيتشانسك وسيفرودونيتسك، ونجح الأوكرانيون في إبطاء حركة الجيش الروسي، وإلحاق خسائر كبيرة به، وفي الوقت ذاته، فقد الجيش الأوكراني الكثير من جنوده.

وفي مطلع يوليو/ تموز الماضي، سيطر الجيش الروسي والانفصاليون الأوكرانيون والمقاتلون الشيشانيون على كامل إقليم لوغانسك، لكن القوات المشتركة فقدت امكانية التقدم لاحقاً، ما استدعى دخول مرتزقة "فاغنر" على الخط بقوة.

وبدأ مؤسس الشركة الأمنية الخاصة يفغيني بريغوجين بتجنيد المحكومين بالسجن مقابل رواتب سخية ووعود بالإفراج عنهم، بعد تأدية "الواجب الوطني". وازداد الاعتماد على مرتزقة "فاغنر" على وقع تفاقم الخلافات بينهم وبين الجيش الروسي، إثر توجيههم انتقادات علنية لجنرالات الجيش بعد الهزائم في خاركيف وليمان، ولاحقاً خيرسون.

قرارات صعبة وانسحابات

بعد نكسات عدة، عُين سيرغي سوروفيكين، الذي قاد العملية العسكرية الروسية في سورية، قائداً للقوات في أوكرانيا، وتزامن تعيينه مع تفجيرات جسر القرم في 8 أكتوبر الماضي. وتحت قيادة سوروفيكين، لجأت روسيا إلى تكتيكات جديدة، تمثلت في استخدام الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار لاستهداف البنى التحتية، خصوصاً محطات الطاقة.

وبدا أن الضربات حصلت ضمن تكتيك "الماء والكهرباء والتدفئة مقابل السلام"، الذي اضطرت روسيا لتبنيه من أجل إعادة هيبة الجيش الروسي غير القادر على التقدم أو حماية البنى التحتية في روسيا من جهة، ولتراجع القدرة النارية والنقص في الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية من جهة ثانية.

وعلى الرغم من ضمّ روسيا دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون في سبتمبر/أيلول الماضي، وبعد إشارته إلى أن الأوضاع في خيرسون صعبة، وعدم استبعاده اللجوء إلى "القرارات الصعبة"، قرر الجنرال سوروفيكين الانسحاب من الضفة الغربية لنهر دنيبر ومدينة خيرسون في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في ظل سريان أنباء عن إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية بعد سحب القوات الروسية من المدينة.

وبعد الانسحاب، بدا واضحاً أن القوات الروسية زادت من وتيرة قصف خيرسون لمعاقبة لسكانها الذين لم يستقبلوا الجيش الروسي بالورود وتظاهروا ضده، وكذلك من أجل توجيه رسالة بأن الحياة لن تكون هادئة في أي منطقة يحررها الأوكرانيون.

الانسحاب من خيرسون سمح بتركيز القوات من أجل السيطرة على كامل مقاطعة دونيتسك، بعدما تواصلت المعارك حول باخموت، والتي لم تحسم، منذ بدئها في يوليو/تموز الماضي. وفي هذه المرحلة، استمر الجيش الروسي بالاعتماد على مرتزقة "فاغنر"، المقدّر عددهم بنحو 50 ألف عنصر بحسب تقديرات الاستخبارات الغربية، ومن ضمنهم 40 ألفاً جرى استقدامهم من السجون.


اعتماد الجيش الروسي على القوات الخاصة والمتطوعين الشيشان و"فاغنر" كان اضطرارياً

الجنرالات إلى المقدمة مجدداً

من المؤكد أن اعتماد الجيش على القوات الخاصة والمتطوعين الشيشان، وكذلك مرتزقة "فاغنر"، كان اضطرارياً، نظراً لنقص العدد في القوات المحاربة في أوكرانيا، فحسب التقديرات، دفعت روسيا بنحو 170 ألفاً إلى 200 ألف جندي في 24 فبراير الماضي.

وبعد النكسات المتتالية، بدا أن حاكم الشيشان رمضان قديروف ومؤسس "فاغنر" بريغوجين شكّلا تحالفاً قوياً، وبدآ بتوجيه انتقادات لاذعة للجنرالات، وضمنهم رئيس الأركان، القائد الحالي للعملية العسكرية غيراسيموف. واستطاعا تقوية مواقعهما في هيكل الحكم في روسيا.

ولكن التغييرات الأخيرة التي بدأت، الثلاثاء الماضي، بالإعلان عن تعيين الجنرال ألكسندر لابين رئيساً لأركان القوات البرية، بعد أكثر من شهرين على أنباء إقالته إثر الهزائم في خاركيف وليمان وانتقادات قديروف وبريغوجين، واستُكملت بتعيين غيراسيموف قائداً للعملية، تكشف عودة المبادرة إلى الجنرالات لعدة أسباب.

وأهم هذه الأسباب استكمال تدريب جزء من الجنود الذي تم استدعاؤهم لـ"التعبئة الجزئية" في سبتمبر/ أيلول الماضي، وبالتالي تراجع الحاجة لمرتزقة "فاغنر" والقوات الشيشانية، الذين غالباً ما استُخدموا في معارك المدن ويُزج بهم كوقود للحرب للتقدم على الأرض.

وربما يكمن السبب الثاني في رغبة بوتين في المحافظة على الهيكلية الموجودة للحكم، وعدم المس بهيبة الجيش وما قد يتسبب به من اختلال مراكز القوى لمصلحة بريغوجين وقديروف ورئيس الحرس الوطني فيكتور زولوتوف، على حساب الجيش وجنرالاته، أو تشجيع المواطنين على انتقاد النظام الذي بناه بوتين.

ومن المستبعد أن تكون التغيرات مرتبطة بتغير نوعي في شكل العمليات أو زيادة صلاحيات قائد العملية، فالمؤكد أن سوروفيكين كان ضمن فريق أوسع في الأركان ينسق لاستخدام الصواريخ والأسطول البحري وسلاح الطيران.

والأرجح أن التغيرات في القيادة، التي مهّد لها رئيس مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف في لقاء صحافي، الاثنين الماضي، مع صحيفة "أرغومنتي إي فاكتي" الروسية، حين قال إن "الحرب هي مع حلف شمال الأطلسي وليست مع أوكرانيا"، تأتي ضمن تكتيك أهم اتبعه الكرملين منذ بداية الحرب، وهو عدم تحديد هدف واضح واستمرار الحرب كأداة وصيرورة بانتظار تغيرات في موقف البلدان الغربية وتخفيف دعمها لأوكرانيا.

وتعتمد روسيا على التذكير دائماً بامتلاكها أسلحة نووية أحدث وصواريخ أكثر قدرة على التدمير بوقت أقصر وفعالية أكبر. ومما يدعم هذا الاحتمال هو عدم قدرة روسيا على تنفيذ أي من الأهداف التي طرحها بوتين والمسؤولون الروس كاملة منذ بداية الحرب، فلا دونباس "حُررت"، ولا أوكرانيا جُرّدت من أسلحتها، ولا الأطلسي ابتعد عن حدود روسيا، ولا الناطقون بالروسية في أوكرانيا باتوا أكثر أمناً، والأسوأ أن كثيراً منهم لا يدعمون حرب بوتين.