جرائم "فاغنر" في سورية خارج التغطية

04 ديسمبر 2020
لا تعترف موسكو إلا بوجود قواتها الرسمية في سورية (Getty)
+ الخط -


بعد أقل من 24 ساعة على عرض مقتطفات من كتاب روسي يتناول الحرب في سورية من وجهة نظر مقاتل سابق في مجموعة "فاغنر" للمرتزقة الروس، أوقفت دار نشر روسية طباعة الكتاب وتوزيعه، في ما بدت رغبة بعدم كشف أسرار "فاغنر" التي تُتهم بارتكاب جرائم وتجاوزات إنسانية في المعارك التي خاضتها، أكان في سورية أم ليبيا، بينما لا تزال السلطات في موسكو ترفض الاعتراف بوجود مرتزقة ينفذون سياساتها في هذين البلدين وغيرهما.
الكتاب الذي يأتي على شكل مذكرات للمقاتل السابق في "فاغنر" مارات غابيدولين، ويحمل عنوان "في نهر واحد مرتين"، جاء وقف طبعه بعد أقل من 24 ساعة على عرض مقتطفات منه على موقع "ميدوزا"، نُشرت ضمن حوار طويل مع غابيدولين، الذي أكد أن توزيع كتابه سيبدأ في غضون أيام.

الكتاب على شكل مذكرات للمقاتل السابق في "فاغنر" مارات غابيدولين، ويحمل عنوان "في نهر واحد مرتين"

وكشفت الكاتبة ألكساندرا فيغرايزر، وهي صاحبة تحقيقات موقع "سنوب" حول السوق العالمية للمرتزقة والخدمات العسكرية الخاصة، أنّ دار النشر اعتذرت لها عن عدم تأمين نسخة كانت قد طلبتها من الكتاب، وقالت إنّ "المؤلف أوقفه". وبعد توارد هذه الأنباء، سعى "العربي الجديد" للحصول نسخة من الكتاب عبر موقع "ليتريس" المختص ببيع الكتب في روسيا، لكن الموقع حافظ على اسم الكتاب مع حذف محتوياته وصورة الغلاف، وأوقف بيعه. وقالت فيغرايزر إن دار "نايومنيك" للنشر في سيبيريا أخبرتها بأنه "تمت مصادرة النسخ المطبوعة"، وتعهدت برد قيمة الحجز على الكتاب، كما اختفت المشاركات حول مذكرات غابيدولين من الشبكات الاجتماعية لدار النشر.
من جهته، ذكر موقع "إم بي خا ميديا" أنه اتصل بدار النشر وأخبره مصدر فيها بأن "المؤلف قرر وقف طبع الكتاب وتوزيعه. هذا حقه. نحن نقوم فقط بالجانب التنفيذي التقني".

دوافع الكتابة
الكاتب اختار عنواناً جدلياً مستوحى من مقولة الفيلسوف اليوناني هيرقليطس "لا يخطو رجل في النهر ذاته مرتين"، في إشارة على ما يبدو إلى تكرار الأخطاء في عمل مجموعات "فاغنر" في سورية وليبيا في السنوات الأخيرة، وعدم القدرة على فهم التغيّرات على الأرض والسياسة، ما تسبّب في قتل المئات من عناصر المجموعة، واستخدام "مرتزقة" صغار في العمر لا يستطيعون إتمام الواجبات الملقاة على عاتقهم لخدمة "مجد روسيا".
غابيدولين، أو "الجد مارتين"، وهو الاسم المعروف به في صفوف "فاغنر"، يؤكد أن رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين، المعروف بصفة "طباخ بوتين" وبأنه يدير "فاغنر"، هو الذي أطلق عليه اسم مارتين. ونظراً لعمره الكبير (مواليد 1966)، مقارنةً بمرتزقة "فاغنر" الآخرين، ينعته زملاؤه بـ"الجد". وذكر غابيدولين في حواره مع "ميدوزا"، أنه ترفع من جندي عادي في مجموعة "فاغنر" إلى قائد سرية استطلاع في الشركة العسكرية الخاصة.

صورة لغابيدولين مع زميل له في سورية عرضها موقع "ميدوزا"
صورة لغابيدولين مع زميل له في سورية عرضها موقع "ميدوزا"

درس غابيدولين في مدرسة ريازان للقوات المحمولة جواً، وخدم خمس سنوات، وبعدها انتقل إلى العمل مع عصابات محلية بدأت تنشط في نهاية الحقبة السوفييتية وبداية التسعينيات، وأدين لاحقاً بقتل زعيم مافيا وحكم عليه بالسجن لخمس سنوات في عام 1997. وعن انتسابه إلى مجموعة "فاغنر"، قال "الجد مارتين" لموقع "ميدوزا"، إن بعض أصدقائه عرضوا عليه الموضوع، وذكر أنه وقّع عقداً مع شركة "يوروبوليس" في إبريل/ نيسان 2015، مشيراً إلى أنّ أفراد فريق العمل أعجبوه على الفور نظراً لـ"انفتاحهم ومباشرتهم... لم يخف أحد العواقب المحتملة، قالوا صراحة: يا رفاق، أنتم متجهون إلى الحرب حيث توجد مصالح دولتنا. استعدوا لحقيقة أن كل هذا يمكن أن يكون سيئاً بالنسبة لكم لدرجة الموت".
ومعلوم أنّ شركة "يوروبوليس" وقّعت عقوداً مع النظام السوري في 2016، للحصول على عائدات ربع إنتاج النفط والغاز من الحقول التي تحررها من قبضة تنظيم "داعش" وتعمل على حمايتها لاحقاً. وكانت تحقيقات لصحيفة "نوفايا غازيتا" الروسية قد كشفت أن الشركة تابعة لـ"طباخ بوتين".

أكد غابيدولين أنّ الهدف من الكتاب هو دفع بريغوجين إلى إصلاح الشركات العسكرية الخاصة

وأشار "الجد مارتين" إلى أنه بدأ في كتابة الفصل الأول من الكتاب بعد استيقاظه من غيبوبة نتيجة تعرضه لإصابات خطيرة في معارك تدمر في سورية في 15 مارس/آذار 2016، وذكر أنه وجد نفسه في مستشفى عسكري في ضواحي موسكو، وأن الأطباء أخبروه بأنه خضع لعمليات لاستئصال الطحال وجزء من الأحشاء بعد إصابته، وأن غيبوبته دامت قرابة أسبوع. وأكد غابيدولين أنه عرض فصلاً من الكتاب يتعلق بمعارك تدمر والصحراء السورية، على رجل الأعمال يفغيني بريغوجين في 2017 أثناء عمله مساعداً له في تنظيم عمل المرتزقة في سورية (ميدوزا أكد أنه كان موجوداً في موسكو حينها، لكن الموقع لم يتأكد من مصادر أخرى من أنه كان يعمل مساعداً لبريغوجين). وذكر غابيدولين أن بريغوجين شجعه على الكتابة وطالبه بإضافة فصل جديد حول الارتزاق الروسي منذ القوزاق (إحدى الجماعات الروسية)، إلى الحقبة الحالية. وأشار كذلك إلى أنّ بريغوجين قدم نسخة من الفصل المكتوب للمتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، لكي يعرّفه بشأن "بطولة" رجال "فاغنر" وضرورة تبني تشريعات لقوننة أوضاعهم.

الإقرار بوجود "فاغنر" وتشريعها
أكد غابيدولين، في الحوار، أنّ الهدف من الكتاب هو دفع بريغوجين إلى إصلاح الشركات العسكرية الخاصة، "لأنه لا يمكنك الانغماس في السرية كثيراً: لماذا تعذب نفسك بينما يعرف العالم كله؟"، إضافة إلى إيصال حقيقة الفساد من قبل أشخاص "التصقوا بفاغنر وسرقوا الأموال من بريغوجين، وجمعوا أموالاً طائلة من شراء معدات للقتال والحماية رخيصة وغير مناسبة لحماية مرتزقة فاغنر أثناء العمليات القتالية".
ودافع الكاتب عن عمل مجموعة "فاغنر"، ودعا إلى تجريم فعل "أربعة بلهاء ضربوا بمطرقة ثقيلة وقطعوا رأس جندي هارب"، في إشارة إلى تحقيقات صحافية كشفت عن تعذيب مرتزقة "فاغنر" مقاتلاً سورياً من المعارضة وقتله بوحشية أمام الكاميرا، وتعليق رأسه على إحدى البوابات في معسكر لـ"فاغنر"، نافياً أن يكون "الجميع (في فاغنر) هم الغيلان إياهم المتعطشون للدماء". وفي المقابل، اتهم "الجد مارتين" قائد المرتزقة ديمتري أوتكين، المكنى بـ"غاغنر"، بأنه هو الذي حثّهم على القيام بذلك. ودعا غابيدولين إلى تقديم "هؤلاء الساديين الأربعة" إلى العدالة، مستدركاً: "على أي أساس ستفعل هذا؟ لقد قلت للتو إنهم ليسوا هناك!"، في إشارة إلى إنكار موسكو وجود مرتزقة يحاربون في سورية وليبيا وعدم تشريع عمل المؤسسات العسكرية الخاصة.
وحسب المقتطفات المنشورة من الكتاب على موقع "ميدوزا"، انتقد الكاتب "تجارة الجوائز والأوسمة"، ما خلق جواً من عدم الثقة بين الجنود والقادة الذين استأثروا بمعظم المكافآت المالية والأوسمة مع ترك الفتات للمقاتلين الحقيقيين، مع أنه أقر بحصوله على وسام من الدولة لمشاركته في تحقيق مصالح روسيا في سورية. وعبّر عن شعوره بخيبة أمل من "خسارة ليبيا"، لأنّ "الحملة نظمها مغفلون"، مشيراً إلى أنّ "قادة مجموعة الاستخبارات لم يفكروا حتى في إمكانية انضمام تركيا إلى هذا الصراع".

وسائل الإعلام الروسية لم تستطع طوال السنوات الماضية الحصول على تصريحات من مرتزقة "فاغنر" 

ونظراً لعدم خبرة "الجد مارتين" الأدبية، قرر صياغة الكتاب على شكل مذكرات بلغة المتحدث لتوثيق أهم الأحداث. وحول أصعب موقف واجهه أثناء الحرب في سورية، أشار بغضب إلى المعركة التي قتل فيها المئات من مرتزقة "فاغنر" قرب دير الزور، وقال "طبعاً ليلة 8 فبراير/شباط 2018 على نهر الفرات هي الأصعب، لأنني شعرت بالعجز... من يقاتل؟ أنا لم أر هذا الخصم! كان العدو هو الطائرات المروحية الأميركية. ثم كان لديّ مدفع رشاش قصير للقتال القريب، لكن حتى لو كان لديّ سلاح كامل، فلن أصيب هذه المروحية. المواجهة مستحيلة مع شيء غير معروف سيطير الآن ويسحق رأسك".
وأعرب عن سخطه من تصرف القيادة العسكرية الروسية حينها، والتي كان يكفي أن تخبر الجانب الأميركي بأنّ المجموعة المهاجمة تتكون من الروس، مشيراً إلى أنّ "الأميركيين بادروا إلى الاتصال الهاتفي، وبدأوا يضغطون على جماعتنا للاعتراف بأن التشكيلات روسية. لو أن جماعتنا اعترفوا، لكانت تصرفات الأميركيين مختلفة - وقائية بحتة. لكن جنرالنا (المكلف بالتواصل مع الأميركيين في سورية)، رفض الفكرة تماماً، وأصر على أنه لا يوجد روس هناك... من الواضح أنه كان يخشى الاعتراف على المستوى الرسمي، فهو لم يكن بحاجة لهذه المشاكل".
وعلى الرغم من أنّ الكتاب لم يبصر النور، فإن الفقرات المسربة منه على موقع "ميدوزا" تعدّ وثيقة مهمة، خصوصاً أنّ تحقيقات الموقع أثبتت مشاركة غابيدولين في القتال في سورية، وحصلت على صور منه شخصياً وشهادات من أشخاص شاركوا في العمليات العسكرية في تدمر ودير الزور وأكدوا وجود غابيدولين هناك، الذي نشرت له صور على عدد من مواقع التواصل الاجتماعي سابقاً.
وتكمن أهمية الكتاب وحوار المرتزق السابق مع "ميدوزا"، في أنّ وسائل الإعلام الروسية لم تستطع طوال السنوات الماضية الحصول على تصريحات من مرتزقة "فاغنر" عن تجاربهم في سورية أو ليبيا. كما لم يجرؤ أي من المرتزقة الأحياء أو ذوي القتلى المقدرين بالمئات، على الحديث بحرية وبأسمائهم الحقيقية.
ومما يمنح الحوار وفقرات الكتاب مصداقية إضافية، تطابقه مع أنباء مسربة لوكالات الأنباء العالمية لم تؤكدها الحكومة الروسية، حول نقل جرحى إلى مستشفيات ضواحي موسكو في 2016 و2018. وواضح أنّ عدم رغبة "طباخ بوتين" في كشف أسرار "فاغنر"، لعبت دوراً مهماً في ثني "الجد مارتين" عن طرح الكتاب في الأسواق.

تقارير دولية
التحديثات الحية
المساهمون