شرعت رئيسة الوزراء التونسية المكلفة نجلاء بودن برحلة تشكيل حكومة "الرئيس"، التي لم يكشف بعد عن شكلها وبرنامجها وعدد الحقائب الوزارية فيها، وسط انتقادات واسعة وتشكيك في شرعيتها.
وتقبل بودن على مهمة بالغة الصعوبة، إذ تنتظر رئيسة الوزراء الـ19 في هذا المنصب منذ الاستقلال، حواجز وتحديات وصعوبات، عمّقتها الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة.
واصطدمت بودن منذ إعلان تكليفها من الرئيس قيس سعيد أمس، برفض واسع لتمرير التكليف دون مصادقة البرلمان المنتخب وحصولها على الثقة، وهو ما يفقدها الشرعية الدستورية، فيما انتقد آخرون قبولها المنصب والصلاحيات المحدودة والخضوع المطلق لسلطة الرئيس، التي ينظمها الأمر الرئاسي 117 الذي ألغى الصلاحيات الدستورية لرئيس الحكومة.
وطالبت غالبية النواب والأحزاب البرلمانية بعرض حكومة بودن على مجلس الشعب واستئناف أعمال البرلمان في بداية أكتوبر/تشرين الأول القادم، في وقت لا تبدو فيه أي بوادر لاستجابة الرئيس لهذه الدعوات، وهو يمضي في تعيين الوزراء وتطبيق التدابير الاستثنائية التي ألغت دستور 2014، لتعطيه صلاحية تعيين الوزراء وعزلهم ومراقبتهم ومحاسبتهم، ساحباً بذلك جميع صلاحيات البرلمان واختصاصاته.
واعتبر المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن رئيسة الوزراء بودن في وضع لا تحسد عليه، بعدما تلقت هدية مفخخة من الرئيس، "في ظاهرها تكليف وتشريف، وفي باطنها رحلة عذابات انطلقت منذ اليوم الأول".
وتابع أن "سعيد قام بعملية تجميل سياسية للتدابير الاستثنائية المرفوضة بشكل واسع على المستوى الداخلي، وبشكل حذر خارجياً"، مشدداً على أن "المسحة الجندرية على ما يصفه معارضوه بالانقلاب لن توقف نزيف الغضب والاحتقان ضده".
وبين أن "تعيين امرأة على رأس الحكومة نقطة مضيئة تحسب لسعيد، حيث كان سباقاً محلياً وعربياً، غير أن ما يعاب على التعيين أنه بمثابة الشجرة التي لا تستطيع أن تخفي كامل الغابة، فبالنظر إلى صلاحياتها المحدودة جداً، عكس الصلاحيات الدستورية لرئيس الحكومة الذي يمسك بنحو 80% من تسيير الجهاز التنفيذي في دستور 2014، وبإخضاع هذا المنصب للسلطات الرئاسية المطلقة في الأمر 117، يظهر أن تعيين امرأة انتقاص لقدراتها وليس تكريماً، باعتبار أن المنصب أصبح دون رتبة وزير أول في نظام رئاسي، بل إنه بمثابة وزير مكلف بإدارة الحكومة تحت إمرة الرئيس..."، بحسب تفسيره.
وتساءل المحلل "عن مساحة الحرية التي ستتحرك فيها بودن، والتي تبدو ضيقة جداً بحسب التدابير الرئاسية المكشوفة، فما بالنا بالممارسة اليومية التي قد تجعلها محل منافسة مع صورة الرئيس الذي يرفض أي منافسين"، معتبراً أن "مربع صلاحيات بودن سيظهر منذ تشكيل الحكومة وتعيين الوزراء... وبالتالي فإن قبولها التركيبة المسقطة والبرنامج والأجندة المملاة عليها سيجعلها مجرد واجهة في صد رياح رفض انفراد الرئيس بالصلاحيات المحلية والإقليمية، كما ستشاركه مسؤولية الخيارات الحكومية التي سيفرضها وتبعاتها".
وبين المحلل أن "شكل الحكومة الجديد ما زال غامضاً، فيمكن أن يتجه سعيد نحو أقطاب وزارية ليخفض من عدد الوزراء ويزيد من مركزة القرارات وتنفيذها خلال المرحلة الاستثنائية، كما يمكن أن يبقي على الشكل الوزاري نفسه، انطلاقاً من الوزارات القائمة بإداراتها وأجهزتها ودواوينها مع تغيير القائمين عليها فقط".
وتنطلق حكومة بودن من شبه فراغ حكومي، فقد انبنت على أشلاء حكومة هشام المشيشي المقال منذ شهرين، فيما يرجح ألّا يحدث تسليم السلطات بينهما كما دأبت عليه البلاد منذ الاستقلال في إطار تواصل الدولة. ويرجّح مراقبون إبقاء سعيد على الوزراء الذين عينهم ومجموعة من وزراء الثقة الذين رافقوه طيلة الفترة الاستثنائية وساعدوه لفرض قراراته منذ 25 يوليو/تموز.
وعين سعيد أربع شخصيات على رأس وزارات حساسة خلال الحالة الاستثنائية، وهم أمير اللواء والطبيب العسكري مصطفى الفرجاني، مكلفاً بتسيير وزارة الصحة، والضابط بالحرس الرئاسي رضا غرسلاوي، مكلفاً بتسيير وزارة الداخلية، والمديرة العامة بوزارة المالية سهام البوغديري نمصية، مكلفة بتسيير وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، والدكتور نزار بن ناجي مكلفاً بتسيير وزارة تكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي.
ويتوقع مراقبون إبقاء الرئيس على مجموعة وزراء كانوا محل ثقته وساعدوه في تثبيت التدابير الاستثنائية، على غرار وزير الخارجية عثمان الجرندي، الذي قاد حملة تفسيرية وعمل بجهد للدفاع عن صورة الرئيس ودحض رواية الانقلاب، كما لا يستبعد الإبقاء على عميد جامعة تونس المنار السابق فتحي السلاوتي، المكلف بتسيير وزارة التعليم، والذي تعرف عنه صداقته القديمة مع الرئيس.
وتتجه الأنظار نحو الحقائب الوزارية الشاغرة، وخصوصاً وزارات السيادة، وأهمها الدفاع، التي تتصل مباشرة بالمؤسسة العسكرية التي يوليها الرئيس عميق اهتماماته، وكذلك وزارة العدل التي تشرف على النيابة العمومية المسؤولة عن إثارة القضايا وتحريك الشكايات في وقت ينوي الرئيس إعلان حرب على الفساد والفاسدين.
كما لا تقل الوزارات القطاعية أهمية عن السيادية، في وقت تعيش فيه البلاد أسوأ فتراتها بتراجع التنمية وتزايد المديونية وتعطل الإنتاج وتعمّق البطالة، حيث تعد وزارات التجارة والفلاحة والصناعة والتجهيز من بين الحقائب الوزارية التي سيحرص الرئيس على تعيين الوزراء فيها بدقة لقيادة مشروعه التنموي ومكافحة المضاربة والاحتكار كما أعلن مراراً.
ويتواصل تباين ردود الفعل دولياً ومحلياً منذ انطلاق بودن في تشكيل الحكومة، حيث اعتبر السيناتور الأميركي كريس مورفي أن قرار الرئيس التونسي بتكليف نجلاء بودن رمضان بتشكيل الحكومة يعد "خطوة أولى مهمة لإعادة تونس إلى المسار الديمقراطي".
وأكد مورفي، في تغريدة على حسابه الرسمي على "تويتر"، على ضرورة أن "تكون الحكومة التونسية الجديدة تحت رقابة نواب منتخبين وأن تعكس أي إصلاحات تشمل القانون الانتخابي والدستور وإرادة الشعب التونسي".
وفي السياق، عبر رئيس حزب العمال (المعارض لسعيد) حمة الهمامي، في تصريح إذاعي، عن أسفه لما بلغته تونس، معبراً عن إشفاقه على بودن، قائلاً: "مسكينة نجلاء بودن"، معتبراً أنها "ستكون مجرّد موظّفة لدى سعيّد بمقتضى الأوامر التي وضعها يوم 22 سبتمبر/أيلول 2021، وستعمل على تنفيذ برنامجه".
وشدّد الهمامي على أن حزبه "لن يتفاعل مع حكومتها، لأنها حكومة انقلاب، وأنه يرفض المزايدات بخصوص تعيين امرأة في منصب قيادي"، داعياً القوى المدنية والسياسية لمقاومة ما وصفه بـ"حكم استبدادي جديد".
من جهته، قال أشرف العوادي، رئيس منظمة "أنا يقظ"، الرقابية المختصة في مكافحة الفساد، إن "نجلاء بودن مرشحة السيدة الأولى"، في إشارة إلى زوجة الرئيس سعيد.
وكشف العوادي في تدوينة على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، أن رئيسة الحكومة الجديدة محل ملف تحقيق سيتم الكشف عنه في الأيام القادمة.
وتوجه العوادي إلى الرئيس بالقول: "ستكون مشيشي جديداً"، متابعاً: "للأسف لم يتعلم شيئاً من التجارب السابقة".