نجح رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي بتجاوز امتحان البرلمان، حيث أقرّ النواب تعديلاً وزارياً واسعاً في جلسة امتدت حتى ساعات متأخرة من ليل الثلاثاء الأربعاء، وتجاوز بذلك تهديدات الرئيس قيس سعيّد وتحذيراته، وتظاهرات المعارضة، وحتى احترازات جزء من أعضاء الائتلاف الحاكم (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة). وصوّتت الأغلبية لصالح منح الثقة لكل الوزراء الذين اقترحهم المشيشي في تعديله الحكومي الأخير، وعددهم 11، بمن فيهم من أثيرت حولهم شبهات فساد أو تضارب مصالح. ومع إقرار التعديل الحكومي، ستعتبر الأغلبية البرلمانية أنها حققت نصراً على المعارضة، وعلى الرئيس قيس سعيّد، الذي لم يقل بعد كلمته الأخيرة. إلا أنّ تحديات المشيشي وداعميه ستبدأ الآن، فقد حصل أخيراً على التشكيل الذي يريده، واستبسل في الدفاع عنه، واستبعد وزراء الرئاسة. وإذا ما كانت هذه عقبة بسيطة يمكن تجاوزها بالسياسة والتحالفات، فإنّ العقبة الحقيقية هي غضب التونسيين في كل الجهات على واقعهم الصعب، وهي عقبة فشلت الحكومات المتعاقبة كلها التي سبقت المشيشي في حلّها.
ستعتبر الأغلبية البرلمانية أنها حققت نصراً على المعارضة، وعلى الرئيس قيس سعيّد
ودعا المشيشي، مساء الثلاثاء، خلال رده على تساؤلات النواب في جلسة الثقة، إلى "عقلنة الخطاب السياسي، وإيقاف الشعبوية التي طالت من دون تحقيق مطالب الشباب المحتجّين، الذين تم خداعهم بالشعبوية والخطابات الوهمية والوعود غير الواقعية". وأكد أنّ المتظاهرين الذين كانوا قد تجمعوا خارج مجلس النواب بالتزامن مع الجلسة، لا يحتجون ضدّ حكومته، "لأنّ عمرها 4 أشهر فقط، بل ضدّ سنوات من الفشل وضد الذين خدعوهم بالوعود الوهمية". وقد تكون هذه رسائل غير مباشرة للرئيس قيس سعيّد، الذي رفع التهديد بوضوح بوجه التعديل، خلال ترؤسه لاجتماع مجلس الأمن القومي، الإثنين الماضي، واصفاً إياه بغير الدستوري. فضلاً عن قوله إنّ "الرئاسة ليست صندوق بريد"، ملمحاً إلى أنه قد يرفض أداء اليمين "لوزراء تحوم حولهم شبهات".
وسبق أن وجهت منظمة "أنا يقظ"، غير الحكومية والمتخصصة في الشفافية ومكافحة الفساد، دعوة مفتوحة لنواب البرلمان تحثهم فيها على رفض التصويت لكل من وزير الصحة الهادي خيري والعدل يوسف الزواغي والطاقة سفيان بن تونس، بحجة "التهم الجدية بالفساد وتضارب المصالح التي تحوم حولهم".
في السياق، قالت أستاذة القانون الدستوري والخبيرة في الشأن البرلماني منى كريم، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "أداء اليمين يعدّ إجراءً جوهرياً تتم بمقتضاه ممارسة المسؤولية"، مضيفةً أنّ "تصريح رئيس الجمهورية بشأن رفضه أداء اليمين من طرف بعض الوزراء الذين صوّت عليهم مجلس نواب الشعب، يعتبر خرقاً جسيماً للدستور، يمكن أن يفتح باب العزل، في صورة وجود محكمة دستورية". وأكدت كريم أنّ "اختصاص الرئيس في هذا المجال مقيّد، إذ لا يترك له الدستور مجالاً لرفض التعديلات"، موضحةً أنّ "رئيس الجمهورية يقوم بدور الشاهد على عملية أداء اليمين ولا يتجاوز ذلك".
وكانت كريم قد أوضحت في نصّ على صفحتها الرسمية بموقع "فيسبوك"، أول من أمس الثلاثاء، أنّ "غياب محكمة دستورية نتيجة صراعات سياسية ضيّقة، أدى إلى عدم وجود سلطة قادرة وحدها على فضّ النزاعات بين رأسي السلطة التنفيذية، وتأويل الدستور، خصوصاً في حال وجود أزمة دستورية مثل التي نعيشها اليوم". وأضافت أنه "إذا كان رئيس الحكومة حراً في اختيار أعضاء حكومته، فمن أخلاقيات العمل السياسي تجنّب من تعلّقت بهم قضايا منشورة في المحاكم أو تضارب مصالح، تفادياً لتجاذبات ومؤاخذات من قبيل ما نعيشه اليوم. فمن تعلقت به قضية جزائية لا يجب أن يتقلّد أي مسؤولية في الدولة إلى حين أن يقول القضاء كلمته".
منى كريم: تصريح رئيس الجمهورية بشأن رفضه أداء اليمين من طرف بعض الوزراء الذين صوّت عليهم مجلس نواب الشعب، يعتبر خرقاً جسيماً للدستور
وأكدت كريم أنّ "الدخول في حرب معلنة بين مؤسسات الدولة، سيؤدي حتماً إلى إضعافها، ونشر الفوضى، وكنا قد حذرنا من ذلك، ومن يتصوّر أنه سينتصر في هذه المعركة السياسية، فهو واهم، ومن يرفض الحوار، فهو يشرّع للعنف".
من جهته، قال رئيس اتحاد القضاة الإداريين وليد الهلالي: "إننا على أبواب أزمة دستورية جديدة تتعلق بالإجراءات المصاحبة لمسألة التعديل الوزاري". وأضاف، في منشور على صفحته بموقع فيسبوك، الإثنين الماضي، إنه "بعد المصادقة على الوزراء الجدد من طرف مجلس نواب الشعب، هناك إجراءان لاحقان يدخلان ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية، وهما إصدار الأمر الرئاسي المتعلق بتسمية الوزراء الجدد من جهة، وتنظيم مراسم أداء اليمين الدستورية من جهة أخرى".
وتساءل الهلالي: "ماذا لو رفض رئيس الجمهورية تنفيذ الإجراءين المذكورين في حق بعض الوزراء الجدد؟ هل يعتبر ذلك خطأً جسيماً من جانبه، نسبة للفصل 88 من الدستور، باعتبار أنّ صلاحياته مقيّدة في هذا الخصوص ولا يجوز له بالتالي رفض تسمية الوزراء الجدد؟ أم أنّ رئيس الجمهورية يتمتّع بسلطة تقديرية ويمكنه بوصفه رئيساً للدولة، ورمز وحدتها ومنتخباً انتخاباً عاماً وحراً ومباشراً، أن يرفض تسمية أي وزير على الرغم من مصادقة مجلس نواب الشعب عليه؟". وختم بالقول: "سنكون أمام أزمة سياسية ودستورية أخرى تضاف لسابقاتها، وستكون قراءة رئيس الجمهورية للدستور كالعادة، وفي غياب المحكمة الدستورية، هي المتبعة... أزمة لا تمت للواقع المعيشي للتونسيين في شيء، خصوصاً في ظلّ الاحتقان الشعبي الحاصل اليوم".
وأمام هذا الاحتقان المتواصل بين الرئاسات الثلاث، تدخل تونس في منعرج أزمة سياسية جديدة قد تعمّق من الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب للمواطنين.
وفي هذا الإطار، رأى القيادي في حزب "آفاق تونس" وليد صفر، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "تونس شهدت أزمات سياسية عدة منذ الثورة إلى غاية الآن، وكانت تداعياتها وخيمة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. واليوم، يتواصل تقريباً النهج نفسه وأسباب الأزمات تتكرر وتؤدي إلى النتائج نفسها، ولكن التداعيات شعر بها التونسيون أكثر لأنه أضيف لكل ذلك الوضع الصحي الذي عمّق هذه الأزمات". وأكد أنّ "التونسيين كانوا يأملون بأن تتوحد مؤسسات الدولة، ولكن للأسف هي في تخاصم مستمر وفي صراع على السلطة، إذ لم نتعلم من أخطاء الماضي".
وأوضح صفر أنّ "الصراع بين الرئاسات الثلاث قديم وهيكلي، سببه هندسة نظام الحكم. فبمجرد الحديث عن رأسي السلطة التنفيذية، فهذا يفهم منه صراع حتى لو كانا من الحزب نفسه ومن العائلة نفسها. علماً أنّ السلطة التنفيذية لا تجزّأ وهذا الاختلال جوهري وموجود في الدستور. وعلى الرغم من أنّ أغلب النقاشات ما فتئت تؤكد أنه لا بدّ من استكمال الدستور والمؤسسات، ولكن للأسف التجاذبات حالت دون الإصلاح المطلوب". وأشار إلى أنّ "هذه العقدة لم تحل، ومهما تغيّرت الأسماء والحكومات، سنجد المشاكل نفسها تتكرر، ولكن بطرق مختلفة، وفي النهاية المواطن هو الذي يدفع الثمن".
ويتساءل التونسيون المدفوعون اضطراراً إلى قلب هذا الصراع، لماذا لا يتفق الفرقاء على أرضية مشتركة دنيا، لتيسير عمل المؤسسات وعدم تعطيلها؟ وهل أنّ الحوار تعطّل نهائياً بين الجميع؟
البوغديري: الوضع العام يفرض الحوار أكثر من أي وقت مضى
الأمين العام المساعد لـ"الاتحاد التونسي للشغل" محمد علي البوغديري، اعتبر أنه "لا مناص من جلوس مختلف الأحزاب وأطراف الحكم في تونس على طاولة الحوار، على الرغم من تصاعد الأزمة السياسية في البلاد، ودخول مؤسسات الحكم في مواجهة مباشرة". وأضاف البوغديري، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "تونس لا تتحمّل مزيداً من الخلافات بين أجنحة الحكم، ما يجعل الحوار الحلّ الوحيد أمام الجميع خدمة للصالح العام". ونبّه من "إمكانية جرّ البلاد والتونسيين إلى التصادم"، مشدداً على "أهمية الحوار العقلاني ودعوة كل الأطراف السياسية إلى بحث حلول مشتركة وملزمة للجميع".
وحول إمكانية تخلّي "اتحاد الشغل" عن مبادرته للحوار الوطني، قال البوغديري إن "الوضع العام يفرض الحوار أكثر من أي وقت مضى، غير أنّ الاتحاد لم يعد يملك قرار التمسك بالحوار أو إسقاطه بعد تسليم مبادرته بهذا الشأن لرئيس الجمهورية قيس سعيّد". وتابع أنه "لو كان الاتحاد يمسك بزمام المبادرة، لسارع لدعوة أطراف الحكم والمنظمات الوطنية كلها للتفاوض حول عقد سياسي واجتماعي ينهي ما وصلت إليه الأوضاع في البلاد جراء الخلافات والحسابات السياسية، في وقت ينتظر فيه التونسيون بصيص أمل لتحقيق مطالبهم".