تتزايد متاعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع محاولته فرض سياسة الأمر الواقع على دول الجوار. ففي ما يشبه نقل حق النقض (الفيتو)، من مجلس الأمن الدولي، الذي ورثته الفيدرالية الروسية عن الاتحاد السوفييتي، بعد تفكك الأخير قبل نحو 30 سنة، يحاول الكرملين إعادة ما فقده منذ 1991، عبر وضع خطوط حمراء على سياسات الدول الصغيرة.
وهذه المرة تأتي معارضة روسيا لإمكانية ذهاب فنلندا والسويد نحو عضوية حلف شمال الأطلسي، لتوسع النظرة السلبية إلى سياسات بوتين، حيث تلوح في الأفق أجواء مشحونة مع مجموعة "دول الشمال"، التي تضم دول اسكندينافيا الثلاث: النرويج والسويد والدنمارك، بالإضافة إلى فنلندا وأيسلندا وغرينلاند وجزر فارو.
التوتر الروسي مع "دول الشمال" لم يعد مكتوماً
التوتر الذي طغى على علاقات موسكو بمجموعة "دول الشمال" لم يعد مكتوماً، كما كان بعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014 ودعم متمردي شرق أوكرانيا، حيث كانت منطقة البلطيق تشهد تزايداً في استعراض قوة روسيا، بحراً وجواً، إلى حد اتهام السويد لغواصات وجنود بحرية روسيا بانتهاك مياهها الإقليمية، وكذا دنماركية ونرويجية، في المجالين الجوي والبحري.
أكد الرئيس الفنلندي رفضه "فيتو" روسيا على السياسات الخارجية والدفاعية للجيران الأصغر
فالسويد التي ظلت لعقود طويلة تمارس سياسة "الحياد"، المنتهجة منذ نحو 200 سنة، وجدت نفسها مضطرة للتقارب أكثر مع حلف شمال الأطلسي. وفي السياق ذاته، ظلت فنلندا، الدولة الأخرى العضو في مجموعة تحالف "دول الشمال"، تنتهج أيضاً سياسة توازن حذر بين عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وعدم انتسابها إلى "الأطلسي"، وعلاقتها بالجار الروسي.
وخلال السنوات، بدأت السياسات الأمنية لهلسنكي واستوكهولم بالتغير، وفي الخلفية أجواء جرأة روسية غير مسبوقة في استعراض قوة وتنافس على بسط سيطرة في المنطقة القطبية الشمالية، تقصي اسكندنافيا عنها.
فنلندا مثال على المأزق الروسي
وأطلقت موسكو، في سياق "التفاوض المشحون" مع الغرب حول أوكرانيا، أخيراً، تصريحات أشبه بالتهديد والتحذير عن إمكانية ذهاب استوكهولم وهلسنكي نحو عضوية حلف شمال الأطلسي، الذي عقد وزراء خارجيته، أمس الجمعة، اجتماعاً طارئاً بتقنية الفيديو لمناقشة التعزيزات العسكرية الروسية حول أوكرانيا.
ويأتي اجتماع "الأطلسي" قبل اجتماع بين مسؤولين أميركيين و"الناتو" مع مسؤولين روس في 12 يناير/ كانون الثاني الحالي، لبحث لائحة مطالب موسكو، والتي تتضمن عدم ضم أوكرانيا، الجمهورية السوفييتية السابقة، لعضوية الحلف، وأن يسحب قواته من مناطق قريبة من الحدود الروسية.
وبالرغم من أن سياسات وتصريحات هلسنكي اتسمت بكثير من الحذر منذ 1991، إلا أن الشعور بتهديد موسكو باستخدام "الفيتو" على خيارات سياساتها الأمنية والخارجية، وتجربة دول البلطيق في التصدي لضغوط الكرملين، شجعت أخيراً الرئيس الفنلندي سولي نينيستو للرد بشكل غير مسبوق على بوتين.
وأكد نينيستو، السبت الماضي، رفضه لما سماه "فيتو" روسيا "على السياسات الخارجية والدفاعية للجيران الأصغر (لروسيا)"، وشدد على أن "حكومة واحدة فقط هي التي تقرر ما إذا كانت فنلندا تريد الانضمام إلى حلف الأطلسي، هي الحكومة الفنلندية نفسها". وهو أيضاً الموقف نفسه الذي ذهبت إليه رئيسة الوزراء سانا مارين، في كلمتها بمناسبة السنة الجديدة، في تحدٍ واضح لبوتين، بقولها إن "فنلندا تحتفظ بحقها في التقدم لعضوية الناتو".
الإعلان الفنلندي، وموجة الرفض والاستنكار السويدية، يقدمان انطباعاً أن بوتين بات يواجه تراكمات نتائج توسيع دائرة ما يطلق عليه الأوروبيون "سياسة استفزازية وعدوانية" لروسيا.
سياسات روسيا تهديد خطير
لم تتردد التقارير الاستخبارية في دول الشمال، بمناسبة السنة الجديدة، في اعتبار السياسات الروسية "تهديداً خطيراً وجدياً"، على الأقل في نظرة صريحة للاستخبارات العسكرية الدنماركية والنرويجية والسويدية.
ويمكن ملاحظة أن التسلح والموازنات الأمنية في تلك الدول، وطلب أسلحة معينة، مع توسع الوجود في المنطقة القطبية الشمالية، تشير، من بين قضايا أخرى، إلى أنها لا تستهتر بالتهديدات الروسية.
باتت حالة التضامن بين مجموعة الدول الشمالية الاسكندنافية تقرب أكثر بين دولها
واعتبر القائد العام للجيش السويدي ميكائيل بيودن، في مقابلة مع صحيفة "داغن نايتر" نشرت أمس الجمعة، أن الاستراتيجية الأمنية لبلاده ستتقوض تماماً إذا وافق حلف شمال الأطلسي على الامتناع عن التوسع أكثر والحد من بعض نشاطه في أوروبا، كما طالبت روسيا.
وقال إن "المقترحات (الروسية) الداعية إلى نظام أمني جديد ستدمر أسس هيكل سياستنا الأمنية"، وأضاف: "نهدف إلى تقوية دفاعاتنا في جميع الفئات، وأن نطور الدفاع العام. لكن ذلك يتوقف على تطوير التعاون الدولي".
وكانت الحكومة السويدية قد كثفت نشاطها الدبلوماسي، إذ اجتمعت وزيرة الخارجية آن ليندي مع مسؤولين أميركيين، فيما أعلنت رئيسة الوزراء ماغدالينا أندرسون، عقب محادثات مع نينيستو أمس الأول، أن النظام الأمني الأوروبي غير قابل للتفاوض، وقالت: "في السويد، نحن نقرر بأنفسنا سياستنا الخارجية والأمنية ومن نتعاون معه".
وعلى الرغم من أن الدائرة المقربة من بوتين حاولت خلال العقد الأخير نسج علاقات خفية وعلنية مع الأجنحة اليمينية المتطرفة في اسكندنافيا، بما فيها أحزاب شعبوية في استوكهولم وكوبنهاغن وهلسنكي، إلا أنه مع تزايد نبرة التهديد الروسي يبدو أن غلبة المشاعر القومية هي التي تسيطر هذه الأيام على الأجواء العامة.
وفي السياق، وصف زعيم المعارضة اليمينية التقليدية (الائتلاف الوطني) في هلسنكي، بيتيري أوربو، سلوك روسيا بأنه "مثير للاشمئزاز"، معتبراً أن أهدافها تتجاوز فنلندا والسويد. وفي المقابل، حذرت وكالة "ريا نوفوستي" الروسية، الأسبوع الماضي، من أن الغرب يحاول جعل فنلندا "أوكرانيا جديدة".
تضامن "الشمال" وتوثيق التعاون الدفاعي
باتت حالة التضامن بين مجموعة الدول الشمالية الاسكندنافية، بفضل العلاقات التاريخية والثقافات المشتركة، تقرب أكثر بين دولها، وهو ما تُرجم باتفاقية تعاون دفاعي بينها في 2019، تتيح، على سبيل المثال، للطيران الدنماركي التحليق في أجواء السويد لصد أي انتهاك روسي.
وبالنظر إلى ما حاولت موسكو فرضه "بالتهديد بالقوة العسكرية والعنف"، وفقا لنينيستو، فإن النتائج العكسية ليست في مصلحة تكتيكات بوتين في استدعاء تنازلات غربية. فالموقف الفنلندي الجديد، المتخلي عن حذره السابق، يوجه ضربة قوية لمساعي الطبقة الحاكمة في الكرملين للظهور كـ"قوة عظمى"، كما كان الحال قبل تفكك الاتحاد السوفييتي.
ونظراً إلى لغة التهديد المستخدمة في بيان وزارة الخارجية الروسية، في 26 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، باعتبار اقتراب هلسنكي واستوكهولم من عضوية حلف شمال الأطلسي "ستكون له عواقب خطيرة عسكرياً وسياسياً"، فإن صيغ الرد الفنلندي، وتضامن دول الشمال، أخذت زخماً هذه المرة.
أدت سياسات روسيا إلى تسارع وتيرة تسلح فنلندا
صحيح أن روسيا تشعر وكأنها تُحاصر من الشمال إلى الجنوب من قبل حلف شمال الأطلسي، من خلال رفض الأخير تقديم ضمانات عدم توسعه، إلا أن تهديدها المتكرر بالقوة لفرض ما يشبه النفوذ والفيتو على سياسات دول الجوار لم يساهم في تخفيف أو تمزيق وحدة الموقف الغربي.
زيادة تسلح فنلندا: شراء طائرات "أف 35"
ومن دون ضجيج إعلامي كبير، استمر "الأطلسي" في تعزيز الدعم العسكري لأوكرانيا، والدفع بأسلحة وجنود نحو الجوار الروسي، كما في دول البلطيق وبولندا ورومانيا وغيرها. وأدت سياسات روسيا العسكرية في أوكرانيا، واستمرار ما يسميه الجوار لغة "التهديد"، إلى تسارع وتيرة التسلح الفنلندي، والتعاون العسكري مع شقيقاتها الشمالية.
فقد اشترت فنلندا ضعف ما اشترته الدنمارك من طائرات "أف 35" الأميركية منذ 2019، أي نحو 64 طائرة، واستثمرت بشكل غير مسبوق في نظام دفاع جوي. ودخلت مجموعة "دول الشمال" منذ 3 أعوام في "تعاون دفاعي"، وأجرت مناورات عديدة، أغضبت موسكو.
ويبدو لافتاً أن التقارير الأمنية في دول الشمال، كغيرها في أوروبا، خلال الأشهر الأخيرة، تذهب أكثر إلى التحذير من "تهديد روسيا لوحدة وديمقراطية المجتمعات الأوروبية"، سواء بالقرصنة والأخبار الزائفة، أو الكشف عن علاقات بالجماعات النازية الجديدة في الغرب.
وليس بعيداً عن ذلك، توجت تغطية حديثة لانتشار مرتزقة "فاغنر"، التي يطلق عليها في الإعلام الأوروبي اسم "جيش مهمات بوتين القذرة"، بفرض عقوبات عليها وعلى مقربين من الكرملين، باعتبارها ترتكب جرائم حرب وتعذيب وتنتهك حقوق الإنسان.
وفي ذلك إشارة إلى ما يمكن أن يواجه مجموعات التدخل الروسي في أوكرانيا وغيرها، خصوصاً مع توالي تقارير أمنية عن علاقات "فاغنر" ومقربين من بوتين بتجنيد منتسبي الحركات النازية الشمالية للقتال في صفوفها، وهو ما بات يسترعي انتباهاً خاصاً في أكثر من عاصمة اسكندنافية.