تحايل روسي لتجنب إعلان التعبئة العامة: للتجنيد أوجه عدة

16 يوليو 2022
عربتان روسيتان مدمّرتان في ضواحي كييف (سيرغي شوزافكوف/Getty)
+ الخط -

بعد مرور نحو خمسة أشهر على الحرب الروسية على أوكرانيا، التي بدأت في 24 فبراير/شباط الماضي، يواصل الكرملين وصفها بأنها "عملية عسكرية خاصة".

وعلى الرغم من أن تصريحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأسبوع الماضي، تضمنت إشارة إلى إمكانية التصعيد في أوكرانيا، مع تأكيده أن بلاده لم تبدأ مهامها الجدية بعد، لا يتعجل الكرملين في إعلان "التعبئة العامة"، وما قد يترتب عليه من غضب شعبي ضدها، وكشفها الحقيقة حول الخسائر البشرية في العملية العسكرية، على عكس البيانات الرسمية التي توقفت عند 1351 قتيلاً روسياً حتى مارس/ آذار الماضي من دون أي تحديث للخسائر بعدها.

وفي المقابل، تكشف تقارير إعلامية وتحقيقات استقصائية عن "تعبئة سرية"، من أجل زيادة عدد الجنود الروس في أوكرانيا، وتعويض ما فقده الجيش الروسي في حربه.

ومع أن إعلان التعبئة ليس الخيار المفضل للكرملين، فإن الاحتمالات مفتوحة على إمكانية إعلان الحرب، وبالتالي إعلان "التعبئة العامة"، خصوصاً في ظل تزايد التهديدات الروسية في الأيام الأخيرة باستهداف "مراكز صنع القرار"، رداً على الضربات في المناطق الحدودية في مقاطعات كورسك ونوفغورود وبريانسك الحدودية مع أوكرانيا، وزيادة المؤشرات إلى أن القوات الروسية قد تذهب نحو فتح معركة للاستيلاء على خاركيف، ثانية كبرى مدن أوكرانيا، أو التمدد نحو أوديسا جنوباً، في حال تمكنها من كسر الدفاعات الأوكرانية بسرعة، في مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك في إقليم دونيتسك، في الشرق الأوكراني.

تكرّر الحديث عن "التعبئة العامة" في روسيا

وأثير موضوع إعلان "التعبئة العامة" أكثر من مرة في الأشهر الأخيرة، وتحدثت وسائل الإعلام الغربية عن نيّة بوتين اتخاذ هذا الإجراء، بعد الفشل في السيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف، والانسحاب من محيطها في نهاية شهر مارس الماضي.

ثم تطرقت هذه الوسائل إلى هذا الاحتمال أثناء الاحتفالات بـ"ذكرى النصر" (النصر السوفييتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945) في 9 مايو/ أيار الماضي، وكذلك أثناء إحياء روسيا ذكرى الاجتياح الألماني للاتحاد السوفييتي في 22 يونيو/ حزيران الماضي.

ويبدو أن الكرملين استطاع إيجاد طرق عدة للتحايل على إعلان "التعبئة العامة"، عبر اعتماده أساليب وطرقاً ملتوية تضمن ضخ دماء جديدة للقوات الروسية المقاتلة في أوكرانيا. وفي الأشهر الأخيرة، ازدادت الدعوات في وسائل التواصل الاجتماعي، لتوقيع عقود احترافية للانضمام للجيش الروسي برواتب تتراوح ما بين 1000 و1400 دولار للجنود، وما بين 3 و4 آلاف دولار للضباط.

وهي رواتب مغرية، خصوصاً في المناطق التي تعاني بطالة مرتفعة وغياب الإمكانيات للعمل فيها، مثل مناطق أقصى شرق روسيا، وما وراء جبال الأورال، وكذلك جمهوريات شمال القوقاز، ذات الغالبية المسلمة مثل الشيشان وداغستان.

ولا يُخفى على أحد الحضور الكبير للمقاتلين الآتين من القوقاز، في مقاطع الفيديو المنشورة عن المعارك في حوض دونباس (يضمّ لوغانسك ودونيتسك)، تحديداً الجنود الشيشانيين.

وفي شهر مايو الماضي، تبنى مجلس الدوما (البرلمان) ومجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسيان، تشريعاً يسمح برفع السن التقاعدية للعسكريين المتعاقدين مع الجيش إلى أكثر من 40 إلى 50 عاماً. وبرر المجلسان قرارهما بالحاجة إلى خدمة المتمرسين في القتال لاستخدام التقنيات الحديثة.


الكرملين استطاع إيجاد طرق عدة للتحايل على إعلان "التعبئة العامة"

بدوره، يبحث البرلمان الروسي مشروع قرار يسمح بتوقيع الشباب، بعد الانتهاء من دراستهم مباشرة، عقوداً للانضمام إلى الجيش. ويأمل المشرّعون أن تشجع "حصص التربية القومية" مزيداً من الشباب للانضمام للجيش كمتعاقدين.

ومعروف أن الخدمة العسكرية في روسيا إلزامية للشباب بين سنّي 18 و27 عاماً، في حال عدم وجود أسباب مرضية خطيرة. وتدوم الخدمة عاماً واحداً في العادة، ولا تتضمن إرسال المجنّدين إلى مناطق ساخنة.

وفي حال توقيع عقود، يمكن إرسال هذه الفئة إلى الحرب بعد تدريبات قصيرة. وتقليدياً، تسعى العائلات إلى تقديم رشاوى للدوائر العسكرية والفرق الطبية، من أجل تجنيب أولادهم الخدمة العسكرية، خصوصاً في ظل بروز تقارير عن انتهاكات للضباط والجنود المتعاقدين.

ويُعدّ المتطوعون من المقاطعات الفقيرة، أداة مهمة للسلطات من أجل تغطية النقص الكبير الحاصل في عدد القوات الروسية وتجنب إعلان "التعبئة العامة".

وبثت محطة "روسيا 1" الحكومية، قبل أيام، تقارير تحدثت عن تدريبات يومية مكثفة للمتطوعين الروس من مختلف المناطق يتم تنظيمها في جمهورية الشيشان، ويتم بعدها إرسال نحو 200 متطوع يومياً إلى روستوف، جنوبي روسيا، ومن ثم إلى الجبهات في أوكرانيا.

وفي حين تتحدث أوكرانيا عن مقتل أكثر من 30 ألف جندي روسي منذ بداية الحرب، تشير تقارير غربية إلى أن عدد القتلى وصل إلى 15 ألفاً حتى مطلع يوليو/تموز الحالي. وكانت الاستخبارات العسكرية البريطانية قد كشفت في تقرير أن الجيش الروسي فقد قرابة ثلث وحداته القتالية، بين قتيل وجريح وأسير، التي دفع بها إلى أوكرانيا، وهو ما أجبره على إعادة ترتيب صفوفه في مايو الماضي.

كما تحدثت وزارة الدفاع الأوكرانية عن أن خسائر الروس والانفصاليين في معارك سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك الأخيرة تجاوزت 7 آلاف قتيل.

وفي 4 يوليو الحالي، كشف تحقيق لصحيفة "فاجني استوريي" (القصص المهمة) عن حملات يقودها مسؤولون من مجموعة مرتزقة "فاغنر" العسكرية الخاصة، من أجل تجنيد المحكومين بالسجن وإرسالهم إلى دونباس، والإفراج عنهم لاحقاً قبل انتهاء فترة الحكم في حال نفذوا المطلوب منهم لمدة ستة أشهر.

ونقلت الصحيفة الاستقصائية المعارضة عن أقارب سجناء في مقاطعة لينينغراد، أن العرض تضمن دفع قرابة 200 ألف روبل (3400 دولار)، مع وعود شفهية بتقديم مبلغ 5 ملايين روبل (حوالي 82 ألف دولار) كتعويض لذويهم في حال موتهم.

وأشار أقرباء السجناء إلى أن بعض المحققين في السجون طالبوا السجناء بـ "الدفاع عن وطنهم في دونباس"، كاشفين أن المعلومات تشير إلى موافقة 40 سجيناً في الأقل على الانتقال إلى دونباس.

ونشر موقع "سفوبودا" (الحرية)، الممول من الولايات المتحدة، مقاطع فيديو توثق ملاحقة الشباب والرجال من قبل شرطة المناطق الانفصالية في شرق أوكرانيا، لإرغامهم على الالتحاق بالخدمة.

وذكر الموقع أن الحملة طاولت المناطق التي سيطر عليها الجيش الروسي والانفصاليون منذ بداية الحرب. وعزا الموقع السبب إلى الخسارة الكبيرة التي مُني بها الانفصاليون منذ بداية الحرب، وكانت الاستخبارات العسكرية البريطانية ذكرت في تقرير أن قوات "جمهورية دونيتسك الشعبية" الانفصالية، المعلنة من جانب واحد، خسرت حتى منتصف مايو الماضي، قرابة ألفي مقاتل، أي ما يعادل نصف إجمالي القوات.


يجنّد الكرملين سجناء ويغري سكان المناطق النائية بالأموال للقتال

وتؤمّن الآليات السابقة أعداداً لا بأس بها من الجنود، لزجّهم في الحرب على أوكرانيا. بالتالي، يسعى الكرملين إلى عدم إعلان "التعبئة العامة" من أجل التأكيد على أن كل شيء "يسير وفق الخطة الموضوعة"، بحسب التصريحات المتكررة لبوتين ووزارة الدفاع.

لكن تصريحات بوتين يوم الخميس من الأسبوع الماضي أمام رؤساء الكتل البرلمانية بأن "روسيا لم تبدأ الحرب بعد"، أعادت الحديث عن إمكانية إعلان "التعبئة العامة".

ففي تصريحاته، قال بوتين، إن "من يريد هزيمة الاتحاد الروسي في ساحة المعركة فليحاول"، مضيفاً: "يجب أن يعلم الجميع أننا، بشكل عام، لم نبدأ أي شيء جدي بالفعل" في أوكرانيا.

ومن المؤكد أن التصريحات تبعث رسالة طمأنة للداخل الروسي، ولكن لا يمكن استبعاد نية الكرملين توسيع العملية العسكرية أبعد من دونباس، والتوجه نحو مدينة خاركيف أو التوجه نحو وسط أوكرانيا في دنيبر ومدينة زابوريجيا، أو توسيع العملية لتشمل حرمان أوكرانيا من شواطئها على البحر الأسود عبر احتلال أوديسا. وفي حال اتّباع هذا السيناريو يجب على الكرملين إعلان "التعبئة العامة"، وهو إعلان قد يبرره بالحاجة إلى حشد كل القوى في معركة كبيرة.

مخاوف الكرملين من تهرّب الشبان من الخدمة

في المقابل، فإن الكرملين قد لا يلجأ إلى إعلان "التعبئة العامة"، خوفاً من تهرّب الشباب من الخدمة. وأشار تقرير نشرته وكالة "رويترز"، قبل أيام، إلى أن عدداً متزايداً من الشبان الروس يتطلع لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية في البلاد منذ بدء الحرب على أوكرانيا.

ونقلت الوكالة عن محامين ومدافعين عن حقوق الإنسان، وكذلك عن بعض الشباب الذين هربوا من روسيا لتجنب المشاركة في الحرب، قولهم إن العزوف عن الخدمة جاء لأن الشباب لا يوافقون على رؤية الكرملين لحربه ضد أوكرانيا.

وبحسب إحصاءات وكالة "ميدوزا"، التي ذكرت أنها موثّقة بالاسم والمنطقة، سجّلت القوات الروسية حتى بداية يوليو "ما لا يقل عن 4238 حالة وفاة عسكرية مؤكدة في الفترة من 24 فبراير إلى 30 يونيو".

وأشار تحقيق الوكالة إلى أن معظم القتلى تتراوح أعمارهم ما بين 21 و23 عاماً، إضافة إلى مئات آخرين دون العشرين من العمر. وذكر التحقيق أن معظم القتلى يتحدرون من مناطق نائية في أقصى الشرق الروسي ومن جمهوريات القوقاز الروسية الفقيرة عموماً.

ويبدو أن السلطات لا ترغب بـ"إعلان التعبئة" خشية من تهرّب الشبان، أو زيادة الخسائر البشرية من سكان المدن الكبرى، مثل موسكو وسانت بطرسبرغ ونوفوسيبيرسك وييكاتيرنبورغ، حتى لا تزداد حالة الغضب الشعبية وتخرج عن السيطرة فيها.

ومن الواضح أن تطورات الحرب تضع الكرملين أمام خيارات صعبة، لأن "إعلان التعبئة" قد لا ينجح، في ظل فقدان الآليات القادرة على سوق الشبان للخدمة كما كان الحال في العهد السوفييتي.

ويتوجب على الكرملين توسيع العملية العسكرية بعد السيطرة على دونباس، حتى لا يقال إن الجيش الذي طالما تغنّى بوتين بتحديثه وقوته، لم يستطع إنجاز "العملية العسكرية الخاصة".

وعدم ضخ مقاتلين جدد يمكن أن يؤخر مخططات الكرملين، وقد يرتدّ وبالاً عليه في حال عدم الانتهاء من السيطرة على دونباس حتى نهاية الشهر الحالي، نظراً لأن الدعم الغربي في طريقه إلى الزيادة، كما أن عدداً أكبر من الجنود الأوكرانيين سينهي تدريباته على الأسلحة الحديثة، وبالتالي يمكن أن تشن أوكرانيا هجمات معاكسة على المناطق التي احتلتها روسيا، وليس الاقتصار على منع تقدمها في دونيتسك. وخيرسون نموذجٌ في الأيام الأخيرة.

المساهمون