استمع إلى الملخص
- تتضمن استراتيجياته التفاوضية مع حماس قبول وقف إطلاق النار المؤقت، مع استمرار الضغوط العسكرية، مستفيدًا من تراجع دعم حزب الله وإيران وانهيار النظام السوري.
- يواجه تحديات من حكومته اليمينية المتطرفة، لكنه يسعى للحفاظ على صورته كزعيم قوي يركز على الأمن القومي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه السياسي.
يوجه المستوى العسكري في الجيش الإسرائيلي رسائل إلى المستوى السياسي، أيّ حكومة بنيامين نتنياهو، منذ أسابيع طويلةٍ، مفادها أنّ إطالة زمن الحرب على قطاع غزّة لن يزيد من إنجازات إسرائيل. لكن لنتنياهو حساباتٌ أخرى غير تلك العسكرية، فحساباته أولًا؛ إطالة عمره السياسي في البقاء جالسًا على سدة الحكم، حتى موعد الدورة الانتخابية القادمة للكنيست الإسرائيلي عام 2026. وثانيًا؛ يريد تحقيق عددٍ من الإنجازات السياسية، مستفيدًا من التحولات التي حصلت في المنطقة خلال الأسبوعين الأولين من شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، ولا تزال أصداؤها تتفاعل بقوّةٍ إقليميًا ودوليًا، إضافةً إلى ما له علاقةٌ بواقع الحرب على غزّة. وبالتالي بات من الواضح أنّ الوقت قد حان لإبرام صفقة تبادلٍ بين إسرائيل وحماس، سواء كانت دفعةً واحدةً أو على مراحل عدّةٍ، وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار عددًا من المتغيرات على أرض الواقع، منها:
أولاً: تصريح الرئيس الأميركي الجديد- القديم دونالد ترامب، بأنه يريد أنّ يدخل البيت الأبيض في واشنطن، ويجلس خلف طاولته نظيفةً من الحروب، وفي مقدمتها الحرب في غزّة. وهذا باعتقاد كاتب المقالة أنّه أحد الدوافع المهمة والرئيسة الماثلة أمام نتنياهو، وهو صديق ترامب، وبالتالي فإنّه، أي نتنياهو، يمتلك وقتًا ضيقًا، لكنه كافٍ، لتحقيق مزيدٍ من المكاسب.
ثانيًا: يعتقد نتنياهو أنّ الاتّفاق مع لبنان، وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية بين إسرائيل ولبنان، سيمنحه مزيدًا من الوقت، ومساحةً من حرية العمل في قطاع غزّة لتحقيق المزيد من الضربات ضدّ حماس، والضغط عليها في اتجاه قبول الشروط الإسرائيلية، أو الرضوخ لتتنازل حماس عن بعض شروطها السابقة. وقد أعلنت قيادة حماس خارج فلسطين عن استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات بشرط إنهاء الحرب، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من كلّ مناطق القطاع. إنّما، ما ظهر بعد سقوط النظام في دمشق، تحديدًا، وتداعيات ذلك على محور المقاومة أن قبلت حماس بعددٍ من التنازلات، سنأتي على تفصيلها لاحقًا.
نجح نتنياهو في تهميش هذه القضية، وجعل القضية الوجودية للحرب على الفلسطينيين هي المركز لا المخطوفون
ثالثًا: من الواضح أنّ حركة حماس قد قبلت بإزالة عددٍ من العقبات في طريق المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، ومن أبرزها موافقتها على وقف إطلاق النار، أي التوصل إلى هدنةٍ مدتها ستة أسابيع، من دون وقف الحرب. وبالتالي هذا يعني أن إسرائيل تحتفظ بمسألة تسديد الضربات نحو حماس وباقي الفصائل الفلسطينية في القطاع حال تحركها، أي الفصائل، لإعادة بناء قوتها خلال هذه الفترة أو بعدها. أضف إلى ذلك قبول حماس ببقاء الجيش الإسرائيلي في مواقع محددة في القطاع، وأهمّها محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وقاطع نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن غزّة وجنوبها. وبالتالي تعيد إسرائيل تموضع جيشها في هاتين النقطتين حصرًا، لتشرف على عملية تفتيش النازحين العائدين إلى الشمال، أو محاولات نقل وتسريب الأسلحة. وهذا ما سيشكل حجر عثرة أمام حلّ الأزمة الإنسانية التي يعاني منها فلسطينيو القطاع. وهل في هذه الجزئية ما يدفع إلى هجرةٍ واسعةٍ لليائسين من الفلسطينيين في قطاع غزّة؟ سؤالٌ مهمٌ ستبينه الأيّام القادمة بعد التوقيع على الصفقة.
رابعًا: الضربات الموجعة والمؤلمة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، ابتداءً من رأس الهرم وصولًا إلى العناصر الميدانية في ضاحية بيروت الجنوبية والقرى والبلدات الشيعية في لبنان، سواء في جنوبه أو بقاعه، أدى إلى ضعفٍ شديدٍ في وحدة الساحات والمساندة، لا بل إلى وضع نهايةٍ لها، بقبول لبنان الرسمي (أي الحكومة اللبنانية بموافقة حزب الله) التوصل إلى اتّفاقية وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وبالتالي خروج حزب الله من معادلة المساندة وإشغال إسرائيل في الجبهة الشمالية، لاتاحة حرية الحركة للمقاومة الفلسطينية في غزّة، وهذا قد انتهى.
خامسًا: الضربة الإسرائيلية على إيران، وعدم رد الأخيرة سوى بالتهديد والوعيد اللفظي والصوتي، ووقوف الولايات المتّحدة والغرب إلى جانب إسرائيل، كل هذا جعل الحكومة الإيرانية ترتدع وتنكفئ جانبًا. وهكذا توقف أولًا إمداد الحرب لحزب الله في لبنان، حينها أدركت إيران أنّ المحور بدأ يتهاوى وبسرعةٍ.
سادسًا: انهيار النظام السوري بسقوط المدن السورية الواحدة تلو الأخرى، ابتداءً من حلب فحماة وحمص والعاصمة دمشق، في أيّامٍ قليلةٍ، وخلالها هروب الرئيس بشار الأسد، الذي كان الضربة الأخيرة، التي جعلت محور المقاومة الذي شكلته إيران في خبر كان. هذا في حدّ ذاته مكسبٌ لإسرائيل، بالرغم من مخاوف إسرائيل من سيطرة الإسلاميين الجهاديين على مقاليد الحكم بطريقةٍ سلسةٍ. هنا لا بدّ من الإشارة إلى رسائل التطمينات التي بثها أحمد الشرع، المعروف بالجولاني، بأنه لن يواجه إسرائيل. وقد حققت إسرائيل سلسلةً من الإنجازات في سورية، بضربها قواعد عسكريةٍ، وطائرات سلاح الجو السوري الرابضة في مرابضها، ومخازن ذخيرةٍ، ومستودعات المواد الكيماوية، ما أدى إلى تصفية أكثر من 80% من القوة العسكرية السورية في أيّامٍ قليلةٍ، وبالتوازي مع حركة الاستيلاء على مقاليد الحكم بعد الأسد.
ساهم هذا الظرف بوجهٍ خاص في قطع سلسلة الدعم الإيراني لسورية وحزب الله، فلم تعد لحزب الله أيّ إمكانيةٍ للحصول على سلاحٍ وذخيرةٍ، بسبب انهيار النظام في سورية، وإصرار هيئة تحرير الشام، وغرفة العمليات العسكرية على منع أيّ تهريبٍ أو نقلٍ للسلاح. يعزز هذا الجانب بكليته موقف حكومة نتنياهو في المفاوضات مع حماس بقوّةٍ أكبر، وبشروطٍ تعمل على إظهار تحقيق إسرائيل نصرًا في حربها على الفلسطينيين في غزّة.
يعتقد نتنياهو أنّ الاتّفاق مع لبنان، وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية بين إسرائيل ولبنان، سيمنحه مزيدًا من الوقت، ومساحةً من حرية العمل في قطاع غزّة
سابعًا: تكمن فيها أزمة نتنياهو في ملعبه الداخلي، أي في إسرائيل. فهو يرأس حكومةً يمينيةً متطرفةً جدًا، فيها حزبان ضاغطان جدًا لرفض أيّ صفقةٍ وبأيّ ثمنٍ، ويلوحان دائمًا بإسقاط الحكومة، أو عرقلة مسارها التفاوضي. هذا ليس سرًّا، بل معروفٌ للجميع، واستفاد نتنياهو منه للظهور أمام الجمهور الإسرائيلي بأنّه عاجزٌ، رغم رغبته في استمرار الحرب، ليحقق المزيد من الإنجازات، بالتخلص من مليوني فلسطيني، غير آبهٍ بأيّ ضغطٍ خارجيٍ، وخصوصًا من الإدارة الأميركية في عهد الرئيس الحالي، جو بايدن، المنتهية ولايته، بالإضافة إلى عدم أخذه بقرار اعتقاله من قبل محكمة الجنايات الدولية. فهو مستمرٌ في مشروعه بالتخلص من حماس وحزب الله، والاستعداد مستقبلًا لتسديد ضربةٍ موجعةٍ جدًا لإيران. الملعب الداخلي مهمٌ جدًا لنتنياهو، لأنّه ضامن بقاءه في سدة الحكم. وهو بالتالي مستمرٌ بنثر وعوده نحو ذوي الرهائن والمختطفين الإسرائيليين، حتّى أصبحوا، أي ذوي المخطوفين، رهائن بيد نتنياهو. وعودٌ مستمرةٌ من طرفه، وكلامٌ معسولٌ على مدار أكثر من سنةٍ، وهو يعلم علم اليقين أن المجتمع في إسرائيل يريد استمرار الحرب بأيّ ثمنٍ، كما أصبحت قضية المخطوفين هامشيةً، وتمكن ملاحظة هذا الجانب من خلال التظاهرات البائسة التي تنطلق كل أسبوع في تل أبيب خصوصًا، وقليلة جدًا في مواقع أخرى من إسرائيل.
كما يعتقد كاتب المقالة أن نتنياهو قد نجح في تهميش هذه القضية، وجعل القضية الوجودية للحرب على الفلسطينيين هي المركز لا المخطوفون. لكن، لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا السلوك الذي ينتهجه نتنياهو سيترك كبير الأثر على شبكة ومنظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع الإسرائيلي، بعد أن تصمت فوهات المدافع عن دك الفلسطينيين، وبعد عودة الجنود محملين بعبء الأزمات النفسية والاجتماعية، والشروع بإشهار السيوف داخليًا.
ثامنًا: تتعلق بمظهر نتنياهو أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، فهو الملقب في حزبه الليكود بـ"ملك إسرائيل" يريد بإصرار الإبقاء على هذا اللقب مرافقا له طيلة حياته السياسية، ولا يريد أن يخسره. كذلك يريد أن يظهر لشعبه أنّه الزعيم الوحيد، من دون منافسٍ، حتّى زعيم المعارضة تحول إلى لا شيءٍ خلال سنة الحرب هذه. وأيضًا يريد أن يظهر بأنّه يستطيع مواجهة سبع جبهاتٍ قتاليةٍ ويحقق فيها الانتصارات والإنجازات، ما سيعزز من قوته السياسية، ونفوذه داخل حكومته وأروقة اليمين الإسرائيلي المؤيد والداعم له في حربه على الفلسطينيين، وفي تصفية القضية الفلسطينية. أما على الصعيد العالمي؛ فيريد أنّ تستمر مسألة تعرض الشعب اليهودي للاضطهادات والملاحقات واللاسامية، وهو مضطرٌ إلى مواجهتها كونها حربًا وجوديةً يتعرض لها الشعب اليهودي، سواء في إسرائيل أو خارجها. ونربط هذه المسألة مع طرحه التوصل إلى صفقةٍ بمراحل عدّةٍ، وليس دفعةً واحدةً، فهو بذلك يطيل الحرب، ويطيل عملية إشغال الإسرائيليين بالحرب، مستفيدًا ببقائه في الحكم.
في الخلاصة؛ نلحظ قبول نتنياهو بإبرام صفقةٍ مع حماس، لكن ليس بشروطها، كما كان قبل نصف عامٍ، إنّما بشروطٍ يفرضها الأمر الواقع في منطقة الشرق الأوسط، ومن خلال الاستفادة من بقاء حماس وحيدةً في الميدان، من دون أيّ مساندةٍ، إلّا من الحوثيين في اليمن، الذين لا يشكلون أيّ قوّة ضغطٍ في ظلّ الظروف الراهنة التي أفرزتها مجموعة العوامل السياسية والعسكرية الحاصلة ميدانيًا منذ الحرب الإسرائيلية على حزب الله في لبنان، وما تلا ذلك. وبالتالي يدخل نتنياهو في مرحلةٍ حاسمةٍ تفرض عليه إتخاذ قرارٍ بموافقته على إبرام صفقةٍ، يعلم أنّه سيدفع فيها ثمنًا باهظًا، وفيها إطلاق سراح عددٍ كبيرٍ من الأسرى الفلسطينيين، يعتبرهم أصحاب أيد ملطخةٍ بدم الإسرائيليين، لكنه سيقبل بأقلّ ضررٍ ممكنٍ، كونه يعلم أنّه بث ويبث صورة الدولة العنيفة جدًا في المنطقة، ومن يجرؤ عليها سيناله ما سيناله.