مصيرٌ غامض يكتنف عملية التسوية السياسية في السودان بين العسكريين والمدنيين، عقب الإعلان، مساء أول من أمس الجمعة، عن تأجيل التوقيع على الاتفاق النهائي، الذي كان مقرراً أمس، إلى 6 إبريل/نيسان الحالي (الخميس المقبل). وشكل التأجيل صدمة لمناصري التسوية السياسية الذين عقدوا الآمال عليها منذ 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تاريخ التوقيع على الاتفاق الإطاري المبدئي بين الطرفين، حيث كان من المؤمل أن تطوى صفحة الأزمة في 11 إبريل الحالي بالبدء في تشكيل مؤسسات الحكم المدني وعودة العسكر إلى ثكناتهم.
ومساء أول من أمس، أعلنت أطراف التسوية السياسية في السودان بين المدنيين والعسكريين تأجيل توقيع الاتفاق النهائي الذي كان مقرراً اليوم، وذلك بعد تعذّر توقيعه في موعده بسبب عدم التوصل إلى توافق على بعض القضايا العالقة، خصوصاً الخلافات بين الجيش وقوات "الدعم السريع" بخصوص تفاصيل ومواقيت دمج الأخيرة في الأول.
وبعد ساعات طويلة من الانتظار، اتفقت الأطراف العسكرية والمدنية من جديد، أمس السبت، على تحديد 6 إبريل الحالي موعداً جديداً للتوقيع على الاتفاق النهائي، على أن يواصل الجيش و"الدعم السريع" اجتماعاتهما لإنهاء الخلافات بينهما بشأن قضايا الدمج والتسريح، ما يؤكد عمق تلك الخلافات التي تمثل عقبة أمام تقدم العملية السياسية.
وفي تصريح صحافي، ذكر المتحدث باسم العملية السياسية خالد عمر يوسف أن اجتماع القصر الرئاسي أمس استعرض التقدم في مناقشات الوصول إلى الاتفاق السياسي النهائي، وحدّد آخر القضايا المتبقية، وهي القضايا الفنية المرتبطة بمراحل الإصلاح والدمج والتحديث في القطاع الأمني والعسكري، الذي حسم مداه الزماني وقضاياه الرئيسية في ورقة مبادئ وأسس إصلاح القطاع الأمني والعسكري الموقعة في 15 مارس/آذار الماضي. وأشار يوسف إلى أنه، وبعد تداول مستفيض، قرّر الاجتماع، بإجماع الأطراف العسكرية والمدنية، مضاعفة الجهد لتجاوز العقبة المتبقية خلال أيام معدودة تمهيداً لتوقيع الاتفاق السياسي النهائي في 6 إبريل الحالي.
خلاف متصاعد بين الجيش وقوات "الدعم السريع"
ومثّل الخلاف المتصاعد بين الجيش والدعم السريع عقبة أساسية أمام التوقيع على الاتفاق النهائي. وشهدت الآونة الأخيرة تزايداً في الخلافات بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي). وبرز الخلاف بين البرهان ونائبه، أخيراً، خلال مخاطبات جماهيرية شددت فيها قيادة الجيش على ضرورة دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش، وعدّت ذلك أساساً للاستمرار في عملية التسوية السياسية مع المدنيين، فيما طالب قائد الدعم السريع بالمضي قدماً في التسوية وتسليم السلطة للمدنيين، وأقر بخطأ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021.
يدور الخلاف على مواعيد إكمال دمج "الدعم السريع" في الجيش
ويدور الخلاف حالياً على مواعيد إكمال دمج "الدعم السريع" في الجيش. وفي حين يرى الجيش أن ينتهي ذلك بنهاية الفترة الانتقالية وبما لا يزيد عن 3 سنوات، يتمسك "الدعم السريع" بما لا يقل عن 10 سنوات. كما يقترح الجيش دمج كل القيادة العليا لـ"الدعم السريع" في قيادة الجيش، وهذا ما يرفضه الطرف الآخر الذي يطالب بدمج متدرج. كذلك، تطالب قوات "الدعم السريع" بإصلاح عسكري وأمني قبل البدء في أي عملية دمج، وتشدد على تصفية الجيش من كافة العناصر المنحازة سياسياً والمجموعات الأيديولوجية، وإشارتها هنا إلى عناصر نظام حزب المؤتمر الوطني، حزب الرئيس المعزول عمر البشير، الذي يُعتقد أنه لا يزال يحتفظ بوجود قوي داخل الجيش.
وحاولت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري الابتعاد، خلال الأيام الماضية، قدر الإمكان، عن الخلاف، لتجنب الظهور بأي موقف منحاز لأي طرف من الأطراف، وفي أي وقت من الأوقات. وبحسب مصادر"العربي الجديد"، فقد تركت القوى المدنية الجيش و"الدعم السريع" في غرف مغلقة ليتفاوضا وحدهما لإنهاء الخلافات، والتعجيل بالتوقيع على الاتفاق النهائي، فيما تركت كل الخيارات مفتوحة أمامها إذا استمر الوضع كما هو عليه الآن.
شريف محمد عثمان، وهو القيادي في "قوى إعلان الحرية والتغيير"، التحالف الرئيسي في التسوية السياسية، قال لـ"العربي الجديد" إنهم "كانوا يدركون منذ اليوم الأول للعملية السياسية حجم الصعوبات والتحديات والتعقيدات العميقة التي ستواجهها". ولفت عثمان إلى أن "العملية السياسية تجاوزت كل المطبات، وتبقت لها مواعيد دمج الدعم السريع وفقاً لاتفاق منفصل وقّعه الجيش والدعم السريع مع الأطراف المدنية في 15 مارس الماضي، وهو الاتفاق الذي وضع الأسس والمبادئ للوصول إلى جيش وطني مهني واحد، وهو ما يعد انتصاراً للقوى المدنية التي طالبت وساندت مطالب الشعب بالجيش الواحد". واعتبر أن الطريق ممهد الآن للأطراف العسكرية للاتفاق على تفاصيل فنية في سبيل تحقيق تلك الغايات مع الوصول إلى نقطة الاتفاق النهائي.
وحول ما يثار عن عدم جدية الأطراف العسكرية ومناوراتها المستمرة، أوضح شريف محمد عثمان أن للأطراف المدنية اتفاقيات مكتوبة شهدت عليها أطراف دولية، وأن لها مع المكون العسكري اتفاقاً إطارياً منذ 5 ديسمبر الماضي، كما وقع المكون على اتفاق أسس ومبادئ الجيش الواحد. وأضاف: "كذلك بيننا وبينهم تعهدات سياسية"، مشيراً إلى أن قوى الحرية والتغيير "بمثل ما تضع التفاوض أداة سياسية، فإن لديها أيضاً أدوات أخرى مثل حشد الدعم الدولي للعملية السياسية". وقبل ذلك، شدّد على أن "هناك الشعب السوداني على الأرض والذي يواصل نضالاته وكفاحه من أجل أهداف سيصل إليها في أي لحظة".
والأربعاء الماضي، انسحب الجيش السوداني من ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، ضمن أعمال المرحلة النهائية للعملية السياسية، احتجاجاً على عدم حسم الورشة عدداً من المواضيع، على رأسها إعداد جداول زمنية لعمليات الدمج والتسريح لقوات "الدعم السريع"، قبل أن يصدر بياناً يؤكد فيه التزامه بالعملية السياسية، ورغبته في مواصلة النقاش عبر اللجان الفنية للوصول إلى نتائج تدرج ضمن الاتفاق النهائي.
نقطتان عالقتان باتفاق السودان
من جهته، قال محمد عبد الحكم، المسؤول الإعلامي في حزب التجمع الاتحادي، أحد أحزاب الحرية والتغيير، لـ"العربي الجديد"، إن "الاتفاق النهائي مكتمل تماماً، إلا نقطتين فقط لا تزالان عالقتين: الأولى الخاصة بتسمية الهيكل السيادي في الفترة الانتقالية، وهل هو رأس دولة، أم مجلس سيادي؟"، مشيراً إلى أن "القوة المدنية جاهزة لحسم تلك النقطة خلال دقائق فقط". أما النقطة الثانية بحسب شرحه، فهي الخاصة بتوصيات الإصلاح الأمني والعسكري عطفاً على خلافات الجيش والدعم السريع.
أبو الجوخ: القوى المدنية لن تذهب إلى تصعيد شامل إلا إذا سُدّت الطرق كلها أمامها
ولفت عبد الحكم إلى أن القوى المدنية "فعلت كل ما في وسعها لتجاوز ذلك ولنجاح أعمال اللجان الفنية من الطرفين، لكن بحسب رأيه، فإنه لا يمكنها الانتظار إلى ما لا نهاية في قضية معقدة فعلاً وقد يطول النقاش حولها، وعليه، تجب إحالتها إلى مجلس الأمن والدفاع الذي سيشكل خلال الفترة الانتقالية. وأكد المسؤول الإعلامي في حزب التجمع الاتحادي استعداد كل القوى المدنية للتوقيع على الاتفاق في أي لحظة.
لكن الصحافي ماهر أبو الجوخ رأى، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الموضوع برمته مناورة من الجيش من بين مناوراته المتعددة، ويريد بها تغيير معادلات على الأرض لصالح أطراف وأوراق سياسية يريد استغلالها في مراحل لاحقة ويهيئ لها الآن شروطاً أفضل للتفاوض".
وأوضح أبو الجوخ أن الجيش لم يكن يتصور، أو يضع ضمن حساباته، أن تصل العملية السياسية إلى ما وصلت إليه من تقدم، لافتاً إلى أن هذه العملية لو اكتملت، فسيجد الجيش نفسه بعيداً عن دائرة الفعل السياسي وحتى عن دائرة المشورة، وبالتالي، فإنه يسعى بشتى السبل للتأثير غير المباشر داخل الأجهزة الدستورية الانتقالية لإضعافها أو خلق صراع داخلي فيها.
ووفقاً للصحافي أبو الجوخ، فإن ما يخطط له الجيش لن ينجح، وسوف يأتي بنتائج عكسية لأن كثيراً من المترددين في تأييد العملية السياسية من المناوئين للعسكر سيفكرون بعد اليوم مليّاً في دعمها ما دام العسكر خائفين منها. ورجح أن يعود المدنيون للتصعيد المتدرج، لو وضحت نوايا حقيقية للجيش للتراجع عن العملية السياسية، مشيراً إلى أن القوى المدنية غير راغبة بالمطلق في تصعيد يقود إلى مزيد من التعقيد في الوضع الحالي، ولن تذهب إلى تصعيد شامل إلا إذا سُدّت الطرق كلها أمامها.