استمع إلى الملخص
- **تغير موقف زيلينسكي والدعم الغربي**: زيلينسكي يرحب بمشاركة روسيا بعد تلقي دعم كبير من الناتو، بما في ذلك طائرات "إف 16". تحركات رئيس الوزراء المجري أوربان تبرز مخاطر الانقسامات الأوروبية وتأثيرها على دعم أوكرانيا.
- **مخاوف كييف من السياسة الأميركية**: تصريحات ترامب عن إنهاء الصراع بسرعة تثير مخاوف كييف من تراجع الدعم الأميركي. بوتين يحدد شروطه لوقف إطلاق النار، مما يعقد الوصول إلى سلام مرضٍ للطرفين.
مع اقتراب الحرب الروسية على أوكرانيا من إتمام عامين ونصف العام بعد اندلاعها في 24 فبرير/شباط 2022، ووسط استمرار عجز الطرفين الروسي والأوكراني عن تحقيق اختراقات عسكرية "استراتيجية" في مختلف جبهات القتال في الأشهر الأخيرة، وعلى خلفية تصاعد المخاوف من انزلاق روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى صراع مباشر ازدادت الدعوات إلى السلام في أوكرانيا بين موسكو وكييف.
وبعد نحو شهر على عقد قمة في سويسرا من أجل السلام في أوكرانيا في يونيو/حزيران الماضي، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الاثنين الماضي، إن روسيا يجب أن تكون ممثلة في القمة الثانية، التي لم يتم تحديد موعدها بعد، بشأن البحث عن فرص للسلام لإنهاء الحرب في جنوب أوكرانيا وشرقها. وقال زيلينسكي: "أعتقد أنه يجب أن يحضر ممثلون روس القمة الثانية". ولم يتطرق إلى وقف الأعمال الحربية، لكن إلى وضع "خطة" من ثلاثة محاور: أمن الطاقة في أوكرانيا التي تضررت منشآتها جراء القصف الروسي، وحرية الملاحة في البحر الأسود وتبادل الأسرى.
خطة زيلينسكي من أجل السلام في أوكرانيا
وعلى الرغم من أن زيلينسكي أعاد طرح ثلاث نقاط غير أساسية فقط من "خطة السلام" التي عرضها في نهاية عام 2022 أمام قمة الـ20 التي عُقدت في إندونيسيا، فإن ترحيبه بمشاركة روسيا في المحادثات مثّل تغييراً في هدف المؤتمر الذي عُقد في سويسرا الشهر الماضي بغياب روسيا والصين.
لكن الكرملين استقبل العرض ببرود، وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، الثلاثاء الماضي، إن "قمة السلام الأولى لم تكن قمة سلام على الإطلاق. لذا، ربما من الضروري أولاً فهم ما يعنيه". وأبطلت تصريحات زيلينسكي الفيتو الذي وضعه في 30 سبتمبر/ أيلول 2022 بموجب مرسوم رئاسي على التفاوض مع روسيا في ظل حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رداً على ضم مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون إلى الاتحاد الروسي.
وبهذا أُزيلت عقبة كبيرة عطلت جميع المفاوضات المباشرة بين الطرفين، باستثناء القضايا الإنسانية مثل تبادل الأسرى، وإعادة الأطفال الأوكرانيين إلى ذويهم بوساطات من دول عدة أبرزها قطر والإمارات والسعودية وتركيا. وطرح التغيير اللافت في موقف زيلينسكي تساؤلات حول الأسباب الحقيقة، فالموافقة على مشاركة روسيا في مؤتمر السلام في أوكرانيا المقبل جاءت بعد أيام من تلقي بلاده دعماً بأكثر من 40 مليار دولار أثناء قمة حلف الأطلسي الاسبوع الماضي في واشنطن، والإعلان عن نقل طائرات " إف 16" إلى أوكرانيا، وتعهد زعماء الحلف بدعم أوكرانيا في "طريق لا رجعة فيه نحو التكامل الأوروبي الأطلسي، بما في ذلك عضوية حلف الأطلسي". وربما بدّل زيلينسكي مواقفه انطلاقاً من تقدير أن حجم المساعدات الغربية ومواعيد تسليمها لن تسمح بتغيير موازين القوى على الأرض، وتساعد قواته على إحداث تغييرات جذرية سريعة في أرض المعركة مثل شن هجوم مضاد يفقد روسيا بعضاً من المكاسب الميدانية، رغم تواضعها نسبياً، التي حققتها في الأشهر الأخيرة في جبهات خاركيف ودونيتسك وزابوريجيا.
ومن غير المستبعد أن تنقلات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي باتت بلاده الرئيسة الدورية للاتحاد الأوروبي في الأول من يوليو/تموز الحالي ولمدة ستة أشهر، بين كييف وموسكو وبكين وواشنطن وفلوريدا، في إطار ما سماه "بعثة سلام"، أدى دوراً مهماً في زيادة تركيز القيادة الأوكرانية على مخاطر تأثير الانقسامات في أوروبا على مواصلة دعم أوكرانيا سياسياً واقتصادياً والأهم عسكرياً.
والأرجح أن تبدل مواقف زيلينسكي جاءت نتيجة التقديرات المتزايدة بأن موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بات أقوى في الرئاسيات الأميركية المقررة في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وأنه يمكن أن يعود إلى البيت الأبيض، وبالتالي تراجع الدعم الأميركي لأوكرانيا. ولتوضيح خطورة تراجع الدعم الأميركي لأوكرانيا، تكفي الإشارة إلى التقدم الروسي في النصف الأول من العام الحالي في مختلف الجبهات، بفعل نقص الذخيرة والمساعدات الأميركية بسبب الخلافات في الكونغرس حول حزمة المساعدات لأوكرانيا المقدرة بنحو 61 مليار دولار، وتحسنت الأوضاع نسبياً بعد التوافق في الكونغرس ربيع العام الحالي ووصول طلائع هذه المساعدات.
تصريحات ترامب عن قدرته على إنهاء الصراع في أوكرانيا بسرعة كبيرة إذا فاز بالرئاسة أثارت مخاوف كييف
ومع أن زيلينسكي قال الاثنين الماضي، إنه "ليس قلقاً" بشأن احتمال فوز ترامب وأنه لا يزال يراهن على دعم الولايات المتحدة، فإن تصريحات ترامب بأنه سينهي الصراع في أوكرانيا بسرعة كبيرة إذا فاز بالرئاسة مرة أخرى، أثارت مخاوف في كييف من أن ضغوط ترامب ستضطرها إلى التفاوض مع موسكو من موقف ضعيف. ومما أجج مخاوف كييف من خفض الدعم الأميركي في حال فوز ترامب، اختياره السيناتور جي دي فانس ليكون نائبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وكشفت تصريحات فانس تفاصيل حول طريقة التعامل مع أوكرانيا لم يصرح عنها ترامب. وفانس أحد أشد المعارضين في الكونغرس للمساعدات الأميركية لأوكرانيا، وانتقد إدارة بايدن على استمرار دعم أوكرانيا، وقاد حملة فاشلة في مجلس الشيوخ لمنع حزمة المساعدات لأوكرانيا.
وذكر فانس أكثر من مرة أن الدعم الأميركي لأوكرانيا في حربها ضد الروس مكلف وبلا داع، ووصف العودة إلى حدود أوكرانيا قبل الغزو بأنها "خيالية". وفي مقالة رأي في صحيفة "نيويورك تايمز" في 12 إبريل/نيسان الماضي، كتب فانس أن "إدارة بايدن فشلت في حساب مقدار الأموال والموارد التي ستتطلبها هزيمة روسيا... يقترح بايدن أن مبلغاً إضافياً قدره 60 مليار دولار يعني الفرق بين النصر والهزيمة في حرب كبرى بين روسيا وأوكرانيا. وهذا خطأ أيضاً... في الأساس، نفتقر إلى القدرة على تصنيع كمية الأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا لتزويدنا بها للفوز بالحرب". وفي المقال نفسه له أيضاً، وصف فانس الهدف المعلن لزيلينسكي باستعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا منذ عام 2014 بأنه أمر مستحيل. وانتقد إدارة بايدن لرفضها إجراء مفاوضات مع روسيا، ووصف الرفض بأنه "سخيف". وخلص إلى أنّ على أوكرانيا أن تلتزم بموقف دفاعي وتتفاوض مع روسيا، وقال "من خلال الالتزام باستراتيجية دفاعية، تستطيع أوكرانيا الحفاظ على قوتها البشرية العسكرية الثمينة، ووقف النزيف وتوفير الوقت لبدء المفاوضات".
ويفضل فانس تخصيص موارد مالية أكثر لحماية الحدود الجنوبية مع المكسيك بدلاً من دعم أوكرانيا. وفي مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/شباط الماضي، قال فانس إن الولايات المتحدة بحاجة إلى تركيز جهودها في آسيا بدلاً من أوكرانيا. وهي المنطقة التي رأى أنها ستكون محور السياسة الخارجية الأميركية على مدى السنوات الـ40 المقبلة، وأن "هناك الكثير من الأشرار في جميع أنحاء العالم. وأنا مهتم أكثر بكثير ببعض المشاكل في شرق آسيا الآن مقارنة بأوروبا".
شروط بوتين
ومع أنه لا يمكن الجزم بأن سياسة ترامب في حال فوزه ستعني تخلي الولايات المتحدة الكامل عن دعم أوكرانيا عسكرياً، إلا أن تصريحات زيلينسكي ربما تساهم بتحويل جزء من الضغوط نحو بوتين. وسبق للرئيس الروسي أن أعلن في منتصف الشهر الماضي عن "مبادرة سلام" عشية مؤتمر سويسرا من أجل السلام في أوكرانيا، وقال إنه من "دون حوار صادق مع روسيا" لا يمكن تحقيق السلام في أوكرانيا وحل الأزمة.
وحينها، حدد بوتين شروط بلاده لوقف إطلاق النار وبدء المفاوضات مع أوكرانيا، وطالب، في كلمة أمام الدبلوماسيين الروس، بانسحاب القوات الأوكرانية من كامل أراضي مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون، ما يعني تسليم مناطق إضافية لبلاده من دون قتال. وأكد بوتين أن بلاده تقدم عرض سلام حقيقيا آخر لأوكرانيا والغرب، مقابل عدد من الشروط منها تعهد أوكرانيا بالحياد، وعدم انضمامها لـ"ناتو"، ونزع أسلحتها، و"اجتثاث مظاهر النازية فيها".
وحذر بوتين من أن رفض عرضه "طي هذه الصفحة المؤسفة من التاريخ" يجعل كييف والغرب مسؤولين عن استمرار إراقة الدماء. ولم يستبعد بوتين في حال رفض عرضه أن تتغير شروط التسوية وفقاً للأوضاع العسكرية على الأرض التي تسير بشكل واضح لمصلحة بلاده، حسب وصفه. من جهتها، أعربت واشنطن الاثنين الماضي، عن دعمها تصريحات زيلينسكي بشأن بدعوة روسيا لحضور قمة ثانية، لكنها أعربت عن شكوكها بشأن ما إذا كانت موسكو مستعدة لإجراء محادثات. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر للصحافيين "عندما يريدون دعوة روسيا إلى تلك القمة، فهذا أمر ندعمه بالطبع". وأضاف "لقد دعمنا دائماً الدبلوماسية حين تكون أوكرانيا مستعدة لذلك، لكن لم يكن من الواضح قط أن الكرملين مستعد للدبلوماسية الفعلية".
وبدا واضحاً في الأشهر الأخيرة زيادة الحديث عن ضروة التفاوض من التوصل إلى السلام في أوكرانيا من دون عرض خطة يمكن أن تحظى بدعم طرفي الصراع، نظراً للتضارب الكبير في منطلقات كل طرف في العملية التفاوضية والأهداف المطلوبة. وعلى خلفية التقدم الروسي، وإن كان بطيئاً على الأرض، رفعت روسيا سقف مطالبها لوقف الحرب كما بدا في شروط بوتين الأخيرة.
وسعت روسيا إلى تعميق الشقاقات والخلافات في الغرب بفعل الارتباك على وقع صعود اليمين الشعبوي. ولوحت أكثر من مرة بأنها قد تضطر لاستخدام السلاح النووي وتغيير عقيدتها النووية، من أجل تشكيل رأي عام في الغرب يضغط للتخفيف من دعم أوكرانيا وإقناعها بالدخول في مفاوضات لتجنب حرب عالمية ثالثة. والمؤكد أن أوكرانيا كانت تراهن حين أطلقت "خطة زيلينسكي" ذات النقاط العشر في نهاية عام 2022 على أن الأوضاع الميدانية تحولت لصالحها بشكل نهائي، وأن الوضع يتجه نحو قبول روسيا بالتفاوض من موقع ضعف.
وعليه سعت إلى تجميع أكبر دعم من دول العالم على خطة زيلينسكي على أن تقدم لروسيا أساسا للتفاوض على التنفيذ. ولكن تغير الظروف يضطر كييف الآن للقبول بمشاركة روسيا، رغم مخاوف من اضطرارها لتقديم تنازلات مؤلمة قد تتجاوز القبول بتجميد الصراع الذي طالما رفضته. ورغم أن استطلاعات الرأي الأخيرة في روسيا وأوكرانيا تكشف ميلاً نحو التفاوض بين الطرفين، فإن التفاصيل توضح صعوبة التوصل إلى السلام في أوكرانيا بين كييف وموسكو.
عارض 83% من الأوكرانيين التخلي عن مناطق في بلادهم ضمّتها روسيا
تحولات شعبية في كييف وموسكو
في كييف، كشف استطلاع للرأي نُظم في نهاية يونيو الماضي أن 43.9% من الأوكرانيين في المناطق الخاضعة لسيطرة كييف اعتبروا أن "الوقت قد حان لبدء محادثات السلام في أوكرانيا بين كييف وموسكو"، مقارنة مع 35.1% عارضوا بدء المفاوضات و21% لم يحسموا أمرهم. وحسب الاستطلاع الذي نظمه مركز "رازومكوف" في الفترة من 20 إلى 28 يونيو الماضي، أبدى الأوكرانيون رغبتهم بالتفاوض لكنهم رفضوا شروط بوتين. وعارض 83% من المشاركين في الاستطلاع الانسحاب الأوكراني من المناطق التي طالب بها بوتين، وأصر قرابة 51% من الأوكرانيين على تحرير أوكرانيا من القوات الروسية حتى حدود 1991، فيما أبدى 26% استعدادهم لوقف الحرب على خط ترسيم الحدود قبل بداية الحرب الحالية.
وأكد ثلثا المشاركين (66%) أنه يمكن هزيمة روسيا في ساحة المعركة في حالة مواصلة الدعم الغربي وزيادة الإنتاج العسكري في داخل البلاد. ولم يتفق 77% من الأوكرانيين على ضرورة رفع كافة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. ورفض نحو 59% من السكان تضمين مبدأ عدم الانحياز العسكري في دستور أوكرانيا. وفي تناقض واضح مع الأهداف التي طمح إليها الأوكرانيون، رأى 46% من المستطلعة آراؤهم أن التهرب من الخدمة العسكرية ليس أمراً مخجلاً.
ولا تختلف النظرة في روسيا إلى المفاوضات، فقد بلغت نسبة الروس الذين فضلوا محادثات السلام في أوكرانيا أعلى مستوياتها على الإطلاق بنسبة 58%، حسب استطلاع رأي أجراه مركز ليفادا المستقل في نهاية شهر يونيو الماضي. وفي حين قال غالبية المشاركين في الاستطلاع إنهم يفضلون السلام في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن، رأى 17% فقط أن روسيا يجب أن تقدم تنازلات كبيرة للتوصل إلى اتفاق مع كييف وحلفائها الغربيين. وعارض 73% من المشاركين في الاستطلاع إعادة الأراضي المحتلة إلى أوكرانيا. وقال 83% إنهم ضد انضمام أوكرانيا إلى حلف "ناتو". وتعزز نتيجة الاستطلاعين الشكوك بشأن إمكانية حصول السلام في أوكرانيا وإنهاء الحرب قريباً عبر التفاوض بين موسكو وكييف بمبادرات شعبية أو حكومية، في إشارة إلى أن الطريق إلى سلام مرض للطرفين لا يزال بعيداً.