بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة واحتفال القبيلة الإسرائيلية بذلك، وتعامل اليمين في إسرائيل مع هذا الانتخاب كأنه إنجاز جديد سيغير راهن إسرائيل ومستقبلها، جاء في الأيام الأخيرة الإعلان عن التعيينات الجديدة للمسؤولين عن السياسة الخارجية والأمنية في إدارة ترامب الجديدة، ليرفع أكثر منسوب التفاؤل الإسرائيلي بإدارة ترامب والتوقعات لدى صناع القرار الحاليين.
الحكومة وقيادات اليمين المتطرف ترى أن إدارة الرئيس المنتخب الجديدة ستسهل تمرير مخططات اليمين بما يتعلق بضم مناطق "ج" في الضفة الغربية، كما طرحت سابقاً في خطة صفقة القرن، وقمع الحق الفلسطيني في التحرر وإقامة دولة مستقلة، وأن سياسة الإدارة الجديدة ستكون أكثر تشدداً تجاه إيران في إدارة الملف النووي، وكذلك ستتقبل شروط إسرائيل لإنهاء حرب الإبادة على غزة، ومتفهمة لمطالب وأهداف إسرائيل في حربها على لبنان. بالمجمل تعتقد إسرائيل أن لديها الآن فرصة لتنفيذ مخططاتها لليوم التالي للحرب لمنطقة الشرق الأوسط كلها وليس فقط تجاه غزة ولبنان. هذا الشعور أثّر ربما على تصرف وتصريحات صناع القرار في إسرائيل.
التفاؤل الإسرائيلي بإدارة ترامب لا يلغي الأزمات
على الرغم من التفاؤل الإسرائيلي بإدارة ترامب والجهد الجماعي لدى صناع القرار في إسرائيل لتسويق رواية تحقيق إنجازات عسكرية استراتيجية في حربها على لبنان وغزة، فإن هناك العديد من الأزمات والمصاعب المبطنة التي تحاول الحكومة والمؤسسة العسكرية تقليل أهميتها وآثارها في إدارة الحرب الحالية، بحيث يمكن أن تحول هذه الأزمات والصعوبات دون تحقيق "الانتصار المطلق" الذي يريده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحكومته.
تفاقم الأزمة الاقتصادية
يمكن أن يتحول الاقتصاد إلى عامل ضغط جدي على الحكومة
من الصعوبات التي أنتجتها الحرب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم دون أن يكون لدى الحكومة الإسرائيلية الأدوات والرغبة للتعامل معها. أسباب الأزمة واضحة، وهي تراجع الناتج المحلي، وارتفاع هائل في نفقات وتكاليف الحرب، وتمويل عشرات الآلاف من قوات الاحتياط، وتعطيل جزئي للحركة التجارية والاقتصادية، وازدياد العجز المالي للحكومة والدين الخارجي، وتراجع تدريجي لمستوى الائتمان الإسرائيلي عالمياً.
وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ولو كان يملك جزءا من أدوات التعامل مع هذه الأزمة، منها تقليل العجز المالي عبر تقليصات في الميزانية، خاصة تلك المخصصة للمجتمع الحريدي والاستيطان، ورفع الضرائب، إلا أن قناعاته السياسية تحول دون تطبيق ذلك، ما يضعه أمام انتقادات حادة من قبل اقتصاديين وخبراء، يتوقعون تعمق الأزمة نتيجة لرفض الوزير اتخاذ الخطوات المطلوبة. اذاً، عناد سموتريتش الأيديولوجي ورغبته في تنفيذ سياسات داعمة للاستيطان، وافتقاره للخبرة أو المعرفة اللازمة للتعامل مع الملف المالي والاقتصادي، ودعم الحكومة لسياساته المالية، يمكن أن تشكل عامل ضغط معوقا، إذا توسعت وتعمقت الحرب.
توقعات بنك إسرائيل، كما نشرتها صحيفة ذي ماركر الاقتصادية بتاريخ 15 أكتوبر الماضي، توضح أنه في الوضع الراهن هناك حاجة لإضافة بين 20-30 مليار شيكل (الدولار يساوي 3.74 شواكل) لميزانية الأمن في ميزانية العام 2025، دون أن يكون هناك مصدر لهذه الميزانية. وهذا يعني أن اقتراح الميزانية الذي أقرته الحكومة في أكتوبر الماضي لم يعد ملائماً للوضع الاقتصادي الراهن، وهناك حاجة لتعديل الميزانية وفرض ضرائب إضافية. كل هذا يثقل على الإسرائيلي دافع الضرائب، وعلى مصادر الحكومة المالية.
وعلى الرغم من التفاؤل الإسرائيلي بإدارة ترامب فإن السؤال الأساسي هو إلى أي حد يمكن للاقتصاد الإسرائيلي أن يتحمل تكلفة الحرب وارتفاع العجز والدين الخارجي، وتراجع مكانة الاقتصاد الإسرائيلي، على الرغم من المساعدات المالية الأميركية، وإلى أي حد سيتحمل السكان هذا العبء وتراجع الخدمات ورفع الضرائب؟ على الرغم من عدم تحول الاقتصاد إلى عامل ضغط على صناع القرار لغاية الآن، فإنه يمكن أن يصبح كذلك في الأشهر القريبة، بسبب استمرار تراجع الاقتصاد وارتفاع الأسعار والفوائد البنكية، وهو ما يحتّم على الحكومة التعامل معه لاتخاذ قراراتها بالنسبة إلى استمرار الحرب أو توسيعها من عدمه.
أزمة التجنيد والخدمة
وعلى الرغم من التفاؤل الإسرائيلي بإدارة ترامب فإن هناك عاملاً آخر يمكن أن يتحول إلى أزمة جديدة تؤثر على قرارات استمرار الحرب وطبيعتها، هو أزمة النقص المتزايد في قوات الجيش، خاصة على أثر استمرار تعطيل ترتيب تجنيد الشباب الحريدي وطلاب المعاهد الدينية، وتراجع نسبة الاستجابة لأوامر التجنيد في قوات الاحتياط التي برزت في الأسابيع الأخيرة. وكان الجيش نشر أخيراً أن نسبة الاستجابة في قوات الاحتياط تراجعت إلى قرابة 80% في جولة التجنيد الأخيرة، بعد أن فاقت النسبة 100% في بداية الحرب.
وقائع الميدان توضح أن إعلان كاتس الانتصار على حزب الله كان مبكراً نوعاً ما
المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل ادعى، في مقالة في 13 أكتوبر الماضي، أن معطيات التسرب من الخدمة في قوات الاحتياط قد تكون أعلى من المعلن عنها، بحيث هناك في العديد من الوحدات العسكرية ترتيبات وتوافق بين الجنود والقيادات، تتيح التسرب بالتوافق، عبر استجابة مؤقتة وجزئية للخدمة، يسرح وفقاً لها الجنود بعد فترة قصيرة من التجنيد بالتوافق، بهدف رفع معدلات الاستجابة وتجميل المعطيات. هذا يعني أن هناك عبئاً جسدياً وإرهاقاً في القوى البشرية في قوات الاحتياط، وتزايد الأثمان الاقتصادية على قوات الاحتياط، الأمر الذي قد يتفاقم في حال زاد هذا العبء وطال أمد الحرب واستمر تهرب الشباب الحريدي من الخدمة.
إعلان مبكر للانتصار على حزب الله
أعلن وزير الأمن الجديد يسرائيل كاتس، أخيراً، أن إسرائيل انتصرت على حزب الله، وأنها تسعى إلى فرض اتفاق وقف لإطلاق النار يستجيب لكل مطالب وشروط إسرائيل، منها إبعاد قوات حزب الله وراء نهر الليطاني، وضمان حرية العمل للجيش الإسرائيلي في كافة جغرافية لبنان بعد الحرب، جواً وبراً وبحراً، لمنع الحزب من خرق شروط وقف إطلاق النار والعمل على إعادة بناء قواته العسكرية أو تواجده جنوبي نهر الليطاني. بعد ذلك بأيام صرح كاتس، خلال أول لقاء له مع قيادة المنطقة الشمالية، بأن أحد أهداف الحرب على لبنان هو تجريد حزب الله من سلاحه، وهو ما لم تقره الحكومة الإسرائيلية لغاية الآن، كما وضحت ملامح وجه قائد الأركان هرتسي هليفي المستغرب من أقوال كاتس.
وقائع الميدان توضح أن إعلان وزير الأمن الانتصار على حزب الله كان مبكراً نوعاً ما. فرغم ماكينة الدمار والقتل الإسرائيلية، لم تنجح إسرائيل في القضاء على قدرات حزب الله العسكرية، وهو مستمر في القتال في قرى وبلدات الجنوب اللبناني، حيث قُتل في نفس يوم زيارة كاتس لقيادة منطقة الشمال ستة جنود في اشتباكات مع مقاتلي حزب الله في الجنوب اللبناني، وسط استمرار إطلاق صواريخ للعمق الإسرائيلي، طاول في الأيام الأخيرة منطقة المركز أيضاً. عدم حسم المعركة واستمرار حزب الله بالقتال في الميدان وإطلاق الصواريخ للعمق الإسرائيلي، قد يعني عدم قدرة إسرائيل على فرض اتفاق وقف إطلاق النار بشروطها، والتي تعني استسلام حزب الله. وهذا يصعب عودة سكان البلدات الشمالية قريباً إلى بلداتهم، ويعني صعوبة تغيير المعادلات التي كانت قائمة قبل الحرب.
هذه الحقيقة واضحة للمجتمع الإسرائيلي أكثر من صناع القرار، على ما يبدو. ففي استطلاع "السيوف الحديدية" الشهري الذي ينفذه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية منذ بداية الحرب، والذي نشر في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، قال قرابة 70% من المستطلعين اليهود أنهم راضون بدرجات متفاوتة عن إنجازات الجيش في عملياته العسكرية في لبنان لغاية الآن. وقال 82% إن الظروف الأمنية الراهنة لا تسمح بعودة سكان بلدات الشمال إلى بيوتهم في هذه المرحلة. وتوضح نتائج الاستطلاع عدم وجود وضوح أو إجماع حول كيفية استمرار الحرب على لبنان، إذ قال 44% من المستطلعين اليهود إنه "يجب استمرار العملية البرية وتوسيعها لغاية القضاء على قدرات حزب الله العسكرية"، ورأى 45% أنه "يجب استكمال الحملة البرية الموضعية والاكتفاء بذلك والسعي للتوصل لاتفاق وقف إطلاق نار يستجيب لمطالب إسرائيل الأمنية".
الفجوات بين موقف وزير الأمن، الذي يمثل المستوى السياسي، وبين قيادات الجيش وكذلك مع توقعات المجتمع الإسرائيلي، حول واقع جبهة الشمال ومسار تطورها، يمكن أن تتحول إلى تصدعات داخلية في حال استمرت الحرب ومعها الخسائر البشرية واستمرار إطلاق الصواريخ للعمق الإسرائيلي والأضرار البشرية، ولو كانت قليلة لغاية الآن، وتعطيل الاقتصاد في منطقة الشمال، خاصة أن المجتمع وصناع القرار السياسي والعسكري في إسرائيل ما زالوا يتذكرون صعوبة "الوحل اللبناني" من حروب سابقة، ويخشون تكرار التجربة المكلفة والمهينة.
حتى إذا رغبت الحكومة الإسرائيلية بمنح الرئيس الأميركي الجديد "هدية فوز" بصيغة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان بالشروط الإسرائيلية، كما يدعي الإعلام الإسرائيلي، فإن ذلك لن يتحقق ما دام حزب الله قادرا على مواصلة القتال. واقع الميدان على الجبهة الشمالية، بالتوازي مع تعميق الأزمة الاقتصادية، وتفاقم أزمة تجنيد قوات الاحتياط وعدم تجنيد الشباب الحريدي في ظل حاجة الجيش لسد فجوة نقص آلاف الجنود، بالتوازي مع استمرار القتال في غزة، كل ذلك يمكن أن يفاقم، بالإضافة إلى عوامل أخرى، من أزمات إسرائيل في المرحلة القريبة ويقلل احتمال تحقيق نتنياهو "النصر المطلق" وأهداف الحرب السياسية، وقد يسخف من إعلان وزير الأمن الجديد المبكر أن إسرائيل حققت "الانتصار على حزب الله".